حكاية ميتة غائمة

الأربعاء 2021/12/01
لوحة: يوسف عبدالكي

لا أعرف بالضبط متى حدث ذلك، لكنني مازلتُ أعيش تفاصيل الواقعة وأشعرها بكلّ دقّة.

داهمتني فجأةً أعراض قويّة، مختلفة وحادّة، كلّها تُشير إلى إصابتي بفايروس “كورونا” الفتّاك.

حدث لي ما لم أكن أتوقّعه فجأةً، سُعال قاتل، وارتفاع في درجة الحرارة، ألم في الصدر وصعوبة في التنفّس، أعراض كثيرة متسلسلة حسب ما أراه في شاشة التلفزيون التي أقضي كلّ أيّامي أمامها.

جاءتني سيارة الإسعاف بعد دقائق من اتصالي، دخل عليّ المسعفون ببدلات تنكريّة وكأنهم رواد فضاء، كانتْ شقتي بسيطة جدا، كلّ ما فيها لا يُثير ولا يلفت، تناولوني بسرعة وهم يستطلعون زوايا المكان وكأنهم اكتشفوا كوكبا جديدا.

تناوبوا يمطرون عليّ الأسئلة بطريقة غاضبة، وكأنهم يستجوبون مجرما، وبين أسئلتهم وأجوبتي ثمة فراغ كبير، فراغ كانتْ تشغله ذاكرتي بأشرطة كثيرة تُجسّد كلّ ما قمتُ به خلال الأسبوع الماضي، بمن التقيت، وكيف هي طريقة اللقاء! أين أكلت وماذا، أين نمت ومع مَن، على مَن سلّمت، وكيف، في أيّ باص تنقّلتُ، ومَن جلس جانبي، زملائي في العمل، القريبون والبعيدون، جيراني، أصدقائي وخاصة الفتيات – لديّ عادة تقبيلهن – كلّ الأشياء من حولي أحياء وجماد، يا الله كيف لي أن أتذكّر كل تفاصيل هذه الحياة المتشابكة كأسلاك الكهرباء في أعمدة مدينة الثورة؟

في المشفى، غيوم بيضاء تتحرّك على شكل كائنات فضائيّة، تبدو كأنها ملائكة بأجنحة تخفق معها قلوب المرضى طلبا للرحمة، وثمة أرواح أشعرها تحوم حول المكان، كأنني أسمعها وهي تودّع الحياة تاركةً بعض الأجساد الملقاة بطمأنينة على أسرّة تنتشر بشكل هندسي في مساحات الردهات النظيفة.

سحبوا من جسدي المستسلم الكثير من السوائل، وبمختلف الألوان، وتعاملوا معي بحذر كبير وهم يلمسونني بأكفٍّ مغلّفة بعناية فائقة، فحصوني بأجهزة مختلفة للحصول على نتائج وحسابات كثيرة، حسابات ستقوم بتقرير مصيري.

مرّتْ ساعات وأنا أشعر بصعوبة في التنفّس وازدياد درجة حرارتي، تعمّدتُ السُعال لكي أجلب انتباههم، لكن دون جدوى، تركوني وحيدا في غرفة لها باب زجاجي كبير أرى من خلاله الردهة المليئة بالأسرّة التي تحضن المرضى ومن حولهم تومض الأجهزة الكهربائيّة التي تبدو كألعاب الكترونيّة.

دخلَ عليّ الطبيب – الذي اهتمّ بأمري منذ البداية – وعلى وجهه ابتسامة وهو يقول:

– أنت غير مُصاب وصحتك جيدة جدا.

قلتُ:

– لكن ما هذه الأعراض التي تظهر عليّ؟

قال:

– لم تظهر عليك أيما أعراض يا رجل، حرارتك طبيعيّة، وتحاليلك سليمة، من أوهمك بالمرض؟

قلت:

– لكنني ساخن الآن، ولديّ آلام في صدري، ويسيطر عليّ السُعال بشكل كبير، أعاني من أعراض كلّها تُشير إلى إصابتي.

نظر الدكتور بوجهي وعلى قسماته غضب واضح:

– أنت تضيع وقتنا، اسمع، ليس بك شيء، وصدرك سليم تماما، وحرارتك طبيعيّة، وليس لديك حالات سُعال، وكلّ فحوصاتك تُشير إلى أنك سليم مئة بالمئة، أنت معافى، فقط تتوهم المرض، اذهب إلى بيتك ولا تجلس أمام التلفزيون بعد الآن. سأصدر أمرا بخروجك من هنا فورا.

لوحة: يوسف عبدالكي
لوحة: يوسف عبدالكي

غادر الطبيب، بينما حالتي تزداد اضطرابا، خاصة وأنا أنظر إلى المرضى الذين يتلوّون ألماً أمام عينيّ من خلال الباب الزجاجي الكبير في غرفتي.

أجريت بعض المكالمات مع الأصدقاء الذين أصابهم الرعب وهم يسمعون خبر إصابتي بالمرض، بعضهم قرّر الذهاب للفحص لأنه التقاني قبل فترة، وبعضهم صار يبكي ولم يكمل المكالمة، ولا أعرف سبب البكاء، لكنه بالتأكيد خوف من كونه سلّم عليّ قبل فترة وربما أصبته بالعدوى، وبعضهم نصحني بالبقاء في المشفى حتى الموت أو الشفاء التام، لكنهم جميعا اعتذروا عن الزيارة، أو إبداء المساعدة بأي شيء.

شعرتُ بحزن كبير بعدها، خاصة أن خبر إصابتي قد انتشر في صفحات الفيسبوك بشكل سريع وكبير من خلال هؤلاء الأصدقاء، وجاءتْ تعليقات الآلاف منهم وهم يرثون لحالي ويتأسّفون، والبعض الآخر أخذ يتندّر ويشمت وهو يتذكّر كتاباتي التي تسخر من بعض العقائد، رابطا مرضي بالعقاب الذي أنزلته قدسية تلك العقائد المضحكة.

تسارعتْ دقّات قلبي بشكل مؤلم جدا، وانتابتني حالة من سعال وصعوبة تنفّس، لدرجة أني لم أستطع طلب النجدة، وشيئا فشيئا شعرتُ ببرودة تُسيطر على جسدي وكأنها تضعني في كرسي هزّاز، وتأمرني بأن أسلّم أمري لقوّة غامضة تستدرجني بحنوٍّ وودّ لنومة لذيذة وساحرة، كأنها تعود بي إلى أصلِ تكويني من ماء وتراب.. يا الله ها أنا أموت.

الموت هو السبيل الأمثل للخلاص من الآلام، فهو طريق موجز يبدأ بلحظات تتسارع لتصل بك إلى ذروة هائلة النشوة، وبعدها تستسلم لرغبة عظيمة في جعل كلّ خلايا جسدك تنحني للأرض بحبٍّ واستسلام وطمأنينة تفوق كلّ ما مرّ بكَ وأنتَ تتحرّك من خلال جسدك المنتصب الذي كان يعاند الطبيعة وقسوتها. تتراخى مكوّناتك وتتحلّل ساجدةً متسابقةً للوصول إلى الاستلقاء على الأرض، الأرض التي انبثق منها كل ما هو محيط بعالمك العجيب هذا. إنها لحظة تفريغ الألم والمعافاة التامّة منه.

شعرتُ حينها بندم كبير على سنوات عمري التي كنتُ أضيعها بمقاومة مسببات ترك الحياة، فقط للانتشاء بهذه الثواني التي تغادر بها الروح هذا الجسد المثقل بتعقيدات الاستمرار بميكانيكيّة الوجود وتواصلاته المُربكة. لحظة عابرة بإمكانها جعلك تطير في سماوات من خيال وسعادة وحريّة، تغادر من خلالها قيودك في رسم الأحلام ومعوّقاتها، تتحرّر تماما من الرجوع خطوةً، أو التقدم خطوة في حركة قلق الحياة ودروبها الغامضة.

لكنك في نفس الوقت تتحسّر على ماكنتَ عليه، فكلّ مقاومتك لمنغّصات الحياة وهمومها كان لأجل مُتعكَ المؤقتة، وانتشاءاتك العابرة مع ما يلامس جسدك وروحك في وجودك الضاج بالصحب والحبيبات والجمال، التي ترسمه الطبيعة من حولك. غرائبيّة هذه الحياة التي يشقّها الشرّ من جهة والخير من جهة أخرى، هي نفس الغرائبيّة التي تقودك إلى حبّ الحياة، وحبّ الفناء في نفس اللحظة.

مرّتْ ساعات على توقف قلبي، هدأتُ تماما، وصرتُ أسمع الأصوات من على بعد، ومن خلال الجدران، الميّت يسمع بشكل جيد، لأنّه يصغي بشكل جيد. يتكلّمون عن أشياء كثيرة، تأتيني أصواتهم على شكل ذبذبات تُشبه رشقات الماء، أو هفهفات النسيم التي تحاول إنعاش الروح في الجسد، لكن لا فائدة، أنا أصغي وأنتعش بما يأتيني من كلمات وأصوات حركة الأشياء من حولي، تتحوّل بمجملها إلى معزوفة عذبة فيها حزن كبير يقودني إلى نهاية هذه الحياة اللغز.

أثيرتْ بعض الأصوات التي أعلنتْ وفاتي:

– كيف حصل هذا؟ الرجل كان مُعافى تماما، بحق الجحيم، مات، شيء لا يُعقل!

كان صوت طبيبي يتعالى مع حشرجة بدتْ دخيلة على نقاء صوته الجميل. تداخلتْ معه أصوات لناس آخرين، يقترحون عليه تعريضي لصعقة كهربائيّة لغرض إعادة الحياة للقلب، لكنه جزم لهم نهايتي؛ مُبّررا لهم ذلك ببرودة جسدي التي تُخبر عن وفاتي لساعات مضتْ.

لا أعرف بالضبط ما الذي كُتبَ في شهادتي وفاتي، لكنه بالتأكيد ليس بسبب “كورونا”.

لم يمض وقت طويل حتى تمّ إخراجي إلى بوابة تسليم الجثث، علمت بذلك بعد سماع صوت أحد أصدقائي، هو واحد ممن وضعتُ أسماءهم كمسؤولين عن مصيري، سمعته يسأل أكثر من مرّة عن سبب الوفاة، ويجيبه العاملون في المشفى بأن كلّ شيء مكتوب في شهادة الوفاة، وأن السبب هو سكته قلبيّة جراء الخوف والرعب المبالغ فيه.

سمعت صديقي وهو يتصل بالآخرين ليبلغهم سبب الوفاة لعلّهم يحضرون ويساعدونه في عمليّة دفني، لكن الجميع يعتذر متذرعا بأسباب مختلفة. فجأة سمعتُ صوت أحدهم يكلّم صديقي:

– يا رجل هل جننت، ربما يكون ميّتكَ هذا عبارة عن بؤرة فايروس، غادِرْ المكان واهربْ بنفسك، هل صدّقتَ ما كتبوه في ورقة الوفاة البائسة هذه؟ أنا شخصيّا مات أبي قبل أيام ولم أذهب لاستلام جثته، يا رجل مَن مات مات ولا سبيل لعودته، ولا داعي للموت من أجله، اذهبْ يا رجل بسلام لبيتك وعائلتك، ودع الحكومة تهتم بأمره.

اختلطتْ الأصوات ولم أعد أميّز شيئا، بقيت فترةً طويلةً في مكان بارد، تلاشى خلالها سمعي، ولم أعد قادرا على سماع الأصوات، كذلك مخيلتي التي بدأتْ بالأفول، ولم أعدّ قادرا على تخيل ما سيقال عنّي في “الفيسبوك”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.