خلدون الشمعة

يعتبر الناقد خلدون الشمعة من مواليد دمشق 1941 من أعلام حركة النقد الأدبي العربي المعاصر، قد لمع اسمه عربياً منذ السبعينات مع ثلاثيته في النقد العربي الحديث “الشمس والعنقاء – دراسات في المنهج والنظرية والتطبيق”، و”النقد والحرية”، و”المنهج والمصطلح” وتعتبر هذه المؤلفات من بين أحجار الزاوية في النقد الأدبي العربي الحديث، وتعد من بين أبرز المراجع لدارسي الأدب.
ولد في دمشق، وتخرج في جامعتها، وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة لندن. وقد عرفته الحياة الثقافية العربية صوتا نقديا صاحب رؤية حداثية متقدمة في زمن شاع فيه النقد الأيديولوجي، وهو ما كان من بين أسباب صدامه مع البنية الثقافية المتخلفة في ظل نظام الحزب الواحد، وهجرته للإقامة في لندن منذ أواخر السبعينات. كتبه الأخيرة: “المختلف والمؤتلف: تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر”، و”الحداثية وما بعدها: نظرية الحداثة – من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي” (بالإنجليزية). أسهم في تأسيس مجلات أدبية وثقافية. وهو عضو هيئة تحرير مجلة “الجديد” اللندنية وأحد كتابها الأساسيين. وعضو المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين وأحد مؤسسي الرابطة.
في السنوات الأخيرة صدر للناقد أكثر من كتاب جديد في النقد الأدبي نذكر منها “رسائل أوديسيوس”، وهو مختارات من شعر نوري الجراح ومقدمة نقدية تشرح الأساس الذي استند عليه الناقد في اختيار القصائد، والجديد النقدي الذي خلص إليه من قراءته لتجربة الشاعر، و”المختلف والمؤتلف – تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر”، و”كعب آخيل”. والأخير هو كتابه الصادر بالإنجليزية “الحداثية وما بعدها: نظرية الحداثة من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي”، ويدور حول نظرية الأدب العربي الحديث، وهو ثمرة بحث استغرق من الناقد إنجازه زهاء ثماني سنوات، وهو مبني على رسالته للدكتوراه من جامعة لندن مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية. وفي تصريح سابق له أعتبره “ثاني كتاب يرصد النظرية في الأدب العربي”. بعد كتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” صنعة أبي الحسن القرطاجني. والقرطاجني الذي تتلمذ على ابن رشد، جمع في كتابه بين النقد والفلسفة، ولذلك يقارنه الشمعة بـ: ت. إس. إليوت في الأدب الحديث، ويأخذ الناقد على الثقافة العربية ذلك التنافر في علاقة النقد بالفلسفة، ويرى أن الباحثين العرب درجوا على اعتبارهما ضدين، بينما تمكن القرطاجني من الجمع بينهما في الأندلس، فكانت حداثته معلما من معالم الحداثية العربية الأولى قبل زهاء ثمانية قرون.
هذا الحوار مع الناقد بمثابة جولة سريعة مع مشروعه النقدي في مآلاته الجديدة، والتوقف مع مشروعه الجديد في نقد الشعر والتنظير لحركة الكتابة الشعرية الجديدة عنونه الناقد بـ”مناهج الحداثة الأدبية والنقدية عند العرب/ من التموزية إلى الملحمة والملحمة النقيض”.
يقيم الناقد في لندن منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي.
إرهاق جمال
الجديد: ما أبرز ما تلاحظه اليوم على الشعر العربي والشعرية العربية؟ هل ثمة علامات جديدة، هل ثمة مسالك جديدة للشعر… أم أن مصطلح الإرهاق الجمالي صبغ كل شيء وعلينا أن ننتظر صفحة جديدة في ثورة الشعر الحديث؟
خلدون الشمعة: جواباً عن سؤالك حول ما أسميته بـ”الإرهاق الجمالي” (وهو مصطلح لم أتبين أصوله، وإن كنت أعرف دلالته وقوامه)، أقول إنني منهمك حالياً في كتابه نص نقدي يتناول تجربة الحركة التموزية. وأحاول في هذا النص الإبانة عمّا أدعوه بـ”تكافؤ الضدين” (Ambivalence) الضدان هما: الضد الأول “التموزية” المتمثلة في استدعاء شعر إليوت ونقده ومصادره في الحفر الأنثروبولوجي وعلاقة ذلك بالمنزع الأنغلوساكسوني للحركة التموزية وصلتها بكتاب “الغصن الذهبي” للسير جيمس فريزر.
وأما الضد الثاني فيتمثل بالدور الذي لعبه كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر التي تمثل التأثير الفرنسي على المرحلة نفسها.
ولكن السؤال المطروح بالنسبة إلى ما دعوته بتكافؤ الضدين هو: هل هما ضدان فعلا؟ وإلى أيّ حد تصل هذه الضدية أو المجاورة التي تبدو للوهلة الأولى محاذاةً قطباها منفصلان؟
الواقع أن مصطلح “الإرهاق الجمالي” كما جاء في السؤال قد صبغ كل شيء فعلاً وصارت الأجيال الطالعة تنتظر ظهور مرحلة جديدة.
الجديد: الشعر يخلق اللغة، لكونه يقوم على الابتكار، وتلعب اللغة المبتكرة دوراً حاسما في شعرية الشعر.. هل مازال الشعر في ثقافتنا العربية يخلق اللغة.. أم تراه بات يستهلكها في عصر سمته الأبرز هي الاستهلاك؟
خلدون الشمعة: أعتقد أن الشعر يخلق اللغة كما أن اللغة تخلق الشعر، والابتكار على ذلك ممكن من داخل اللغة وخارجها في الوقت نفسه. وأما الاستهلاك – وعصرنا لا شك هو عصر الاستهلاك – فإن الخلط السائد فيه بين النقد والإعلام، بسبب الانكفاء التدريجي للكتاب الورقي، هو المؤشر على بروز الإعلام على حساب النقد.
في الخمسينات رافقت تجارب الشعراء الجدد المبرزين تجارب نقدية جريئة وكريمة معا في احتفائها بشعرهم.. هل ما زال النقد يلعب هذا الدور؟
خلدون الشمعة: لا شك عندي أن النقد سيظل مهماً على الرغم من سيطرة الإعلام وسلطانيته. لأن الإعلام غير الورقي لا بد أن يلعب دوراً مكملا للنقد الورقي. ولكن دعونا نعترف: النقد لا يمكنه ملاحقة الكم دائماً، والسؤال الذي يؤرقني الآن هو: هل يتحول الكم إلى نوع؟
الجديد: هل مازالت وظيفة النقد الإضاءة على الشعر، بما في ذلك استكشافه كما لو كان أرضا مجهولة، وبناء الجسور له ليصل إلى الذائقة. بكلمة، هل مازال دور النقد رساليا؟
خلدون الشمعة: عندما نتساءل عمّا إذا كان دور النقد رساليا يختلط لدينا مفهوم الموقف بالرسالة. الرسالة موقف والموقف رسالة. وفي تقديري إن المقصود بالرسالة في السؤال هو ترصد ظهور الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث. وربما كان عنوان رسالة سلمى الخضراء الجيوسي “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” ترجمة عبدالواحد لؤلؤة مثالاً مناسبا لشرح دور نقد الشعر في رصده.
أما الكلام الذي يستهله السؤال حول وظيفة النقد وصلته بالإضاءة فأعتقد أن المقصود به هو الإبانة على حد قول حازم القرطاجني في كتابه “المنهاج”. وهذا القول في زعمي صحيح دائماً في ما يتعلق بالشعر والشعرية: الإضاءة إبانة.
الجديد: لديك موقف نقدي من المنجز التموزي في الشعر العربي، وملاحظات على طبيعة وعي الشعراء بالأسطورة والأسطوري، كيف تبلور لديك هذا الموقف، وما هي المآلات التي أفضت إليها تجربة التموزيين العرب؟
خلدون الشمعة: ليس لديّ موقف نقدي مسبق من المنجز التموزي في الشعر العربي. وكلمة مسبق هنا مهمة لأنني أعود دائما، كناقد محترف، إلى النص أولا. أي أنني لا أقف إزاء المنجز التموزي موقفاً مسبقاً. وقد اكتشفت في معرض الإبانة عن دور شاعر متميز من شعراء الحركة التموزية، أعتقد أنه ظلم لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن، وأعني به توفيق صايغ التموزي المنزع (المنزع أقل من المنهج وأكثر من الاتجاه) في كتابه الذي نشر بعد وفاته ويدور حول الشاعرة نازك الملائكة. الشاعر توفيق صايغ أراد أن يكون ناقداً فقرأ نازك الملائكة على نحو تمسك فيه بشعريته الخاصة ولم ينجح في الجمع بينها وبين قصيدة نازك الملائكة في ديوانها “شظايا ورماد”.
وأما وعي الشعراء بالأسطورة والأسطوري فربما كان يعود لتأثرهم بـ ت. إس. إليوت خالق الوعي بالأسطورة والأسطوري. وبهذا المعنى يصح القول إن التموزيين الذين اهتموا بالشعر الصوفي قدر اهتمامهم بشعرية شعراء اللغات الأخرى، كان لاهتمامهم بالصوفية أثره على تفتح الشعرية العربية على دور الأسطورة قدر أثر الإليوتية واعتمادها على الأنثروبولوجي جيمس فريزر في نطاق ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لفصل “الإله أدونيس” الخاص بمنطقتنا.
وفي كتابي “الشمس والعنقاء” أدرجت دراسة تبرهن على تأثير ابن عربي على ديوان “قصائد حب على بوابات العالم السبع” للشاعر عبدالوهاب البياتي، وذلك من خلال قصيدة “عين الشمس” واحتفائها بتقنية القناع. وبهذا المعنى يصح القول أن ابن عربي مؤسس لمفهوم راديكالي أطلق عليه الفرنسيان دولوز وغواتري مصطلح نزع سلطة المكان، Deterritorialization، أي تقويض مفهوم الارتباط المباشر بين الفكر والجغرافيا.
المكان هنا يدلنا على تحرك الشاعر في رحلة جوانية قوامها الوعي بالأسطورة.
الجديد: هل لك أن تقدم لنا تعريفاً لما اصطلحت عليه باسم “الملحمة النقيض”؟ ممّ تتشكل سماتها الأساسية، وكيف تحدد موقعها من الحداثة بتحولاتها الراهنة في الشعر؟
خلدون الشمعة: أعترف أن التعريف بما اصطلحت عليه باسم “الملحمة النقيض” (Mock –EPIC) يرتبط بعملية الانتقال التي وقعت عليها لدى قراءتي نماذج من الشاعر نوري الجراح، وأعني بذلك الانتقال الذي أعتبره أيقونيا، من مصطلح قصيدة النثر، وهو مصطلح سائد في الشعر العربي الحديث حتى يكاد يصير أصوليا، إلى ما أدعوه بالحداثة الثالثة، وهي حداثة ملحمية المنزع ومؤسِّسة لضرب من الشعرية العربية المنقطعة معرفياً عن قواعد التقطيع والعروض. وتحملني عملية الانتقال هذه إلى استعادة كلام هوميروس في ملحمة الأوديسة.
في انزياح شعرية نوري الجراح من قصيدة النثر السائدة في الشعرية الحداثية إلى ملحمية هوميروس ما يبرر هذه الاستعادة ويعززها. في هوميروس الذي أعاد الجراح إليه إضاءة للنزعة الهيلنيستية التي تمثل الإرث الثقافي السوري ودورها في بلورة الهيلينية المحتفية بالحضارة اليونانية القديمة. فهو يصف المهاجرين السوريين “الهيلينستيين” إلى اليونان بقوله إنهم عمال عموميون، وقد قصد بهم الحرفيين المهرة الذين دشنوا دوراً مركزياً (أنا أعتبره أيقونيا) في صناعة الثقافة اليونانية في عصرها الهيليني. ويجمع هؤلاء الحرفيون بين العراف والطبيب (مضمد الجراح) وبين النجار و”المغني الإلهي” على حد تعبير هوميروس. هذا التأثير دلالته مبثوثة في عشرات المصادر الأوروبية، والإنجليزية بشكل خاص. وأضرب أمثلة على ذلك في كتاب “أثينا السوداء” لمارتن برنال، و”سرقة التاريخ” و”الشرق في الغرب” لجاك غودي، و”مجابهة الكلاسيكيات” لماري بيرد، و”التراجيديا: الإغريق ونحن” لسيمون كريتشلي.
ربما لهذا السبب لا أتلعثم إذ أقول إن أيقونية تجربة نوري الجراح لا تكمن في أنه أدخل تأويله الشخصي على الشعر الملحمي فحسب، بل في أنه تمكن في شعره وفي “لا حرب في طروادة – كلمات هوميروس الأخيرة” على وجه التحديد، أن يدخل جنساً أدبيا جديدا كل الجدة على الشعر العربي الحديث، وأعني به “الملحمة النقيض” (Mock –EPIC) وهذا الجنس الأدبي معروف في الأدب الإنجليزي: إنه مفهوم لا يقلِّد ولا يحاكي الملحمة، بل يسخر من البطولة نفسها في مواجهة المأساة.
من المحقق أن مسالة العالمية في الأدب وعلاقتنا بالآخر ليست جديدة، وإنما هي تحيلنا بسرابها ويقينها، في تراثنا الصوفي العربي الإسلامي على وجه الخصوص، إلى فكرة وحدة الوجود. وفي تقديري إن هذه الفكرة ليست مغايرة للكوسموبوليتانية، كما أنها ليست نقيضاً للخصوصية الثقافية. بل أرى إنها كثيرا ما تفيض على مفهوم العالمية الراهن نفسه. وإذا كنا نتذكر بين الحين والآخر أن شاعرنا قد قرأ بعمق وحذر شديدين، (وهذا مثال أراه مناسباً) قصائد ت. إس إليوت، وبخاصة قصائد “أربعاء الرماد” و”أربع رباعيات” وتوقف كثيرا أو قليلاً عند رامبو وبودلير وويتمان وكازانتزاكيس، فإن هذا لا يعني أنه لم يقرأ بعمق أيضاً مثله في ذلك مثل بعض أبناء جيله الشعري “ترجمان الأشواق” لابن عربي و”المواقف والمخاطبات” للنفّري، و”عذابات” الحلاج، و”شطحات” البسطامي، و”لطائف” السهروردي، و”مثنوي معنوي ” جلال الدين الرومي.
الجديد: دعني أمضي معك أبعد في السؤال عن مشروعك النقدي الجديد الذي أطلقت عليه عنوانا مبدئيا هو “مناهج الحداثة الأدبية والنقدية عند العرب/ من التموزية إلى الملحمة والملحمة النقيض“، هل يمكن لك أن تعطي القراء فكرة عن المخطط العام للدراسة التي المشار إليها؟
خلدون الشمعة: من حيث المبدأ تقوم الدراسة على تسعة مسارات ومناهج، تكثف كل ما أحاول بناءه في دراستي للتموزية وما بعدها. يمكن الاطلاع عليها في المخطط الأوّلي للدراسة والذي سوف أنشره قريبا في مبحث يمكن اعتباره مهاد لمجمل العمل النقدي.
الجديد: هل يمكن لك أن تعطينا فكرة موجزة عن بنية الدراسة من خلال مناهجها المشار إليها؟
خلدون الشمعة: من حيث المبدأ يمكن الإشارة إلى مكونات العمل النقدي انطلاقا من منهاجه التسعة التي أشرت إليها، فالمنهج الأول: في الإبانة عما أدعوه بـ”تكافؤ الضدين”. الضدان هما: الضد الأول: “التموزية” الممثلة باستدعاء شعر إليوت ونقده ومصادره في الحفر الأنثروبولوجي وعلاقة ذلك بالمنزع الأنغلوسكسوني في التموزية وصلتها بكتاب “الغصن الذهبي” للسير جيمس فريزر.
وأما الضد الثاني، فيتمثل بالدور الذي لعبه كتاب سوزان برنار في دراستها حول قصيدة النثر التي تمثل التأثير الفرنسي على المرحلة نفسها. ولكن السؤال المطروح بالنسبة إلى تكافؤ الضدين هو: هل هما ضدان فعلا؟ وإلى أيّ حد تصل هذه الضدية، أو ربما المجاورة المفضية على النزاع.
والمنهج الثاني: في الإبانة عن دور الحركة التموزية باستدعاء إليوت للدين وإنحاء الاعتمادات فيها على علاقة الميثولوجيا بالشعر وبخاصة في قصيدة “رباعيات أربع” وملابسات هذه العلاقة.
والمنهج الثالث: في الإبانة عن دور الشاعر توفيق صايغ التموزي المنزع (المنزع أقل من المنهج وأكثر من الاتجاه) في نقد حداثة نازك الملائكة التي تصنف -لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن – خارج الحركة التموزية.
والمنهج الرابع: في الإبانة عن انعطافة أدائية، أو ربما نكوص أعقب التموزية ونعني به مرحلة الإرهاق الجمالي وما تبعها من محاكاة مرآوية لنماذج من الشعر الأجنبي. هذه الانعطافة تتسم بالسعي لإعادة النظر في القيمة الجمالية لأعمال شعرية عالمية شأن نظرة الشاعر نوري الجراح المشكلة في البعد المعرفي في شعر اليوناني الإسكندراني الموطن كافافي C.P Cavafy من منظور الحفر في الجذور الأنثروبولوجية لشعره وخاصة قصيدته الشهيرة عربيا وعنوانها “في انتظار البرابرة” WAITING FOR THE BARBARIANS .
وهذا التشكيك الرابط بين الخصيصتين الجمالية والمعرفية، أسفر في نموذج شعري آخر، وفي وقت لاحق عن ظهور جنس أدبي جديد. وأقدر، بعد عشرة مع النقد الأدبي العربي والغربي، أن أقول بأن هذا الظهور ربما كان امتدادا لفعالية الأنثربولجيا الإليوتية.
المنهج الخامس: في الإبانة عن الإجابة عن السؤال التالي: إذا كانت التموزية قد اعتمدت من بين عوامل أخرى على القناع، فلماذا ظهر القناع ولماذا اختفى؟
ثمة عشر دلالات ترتبط بهذه الظاهرة سبق أن استعرضتها في كتابي “المختلف والمؤتلف – تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر”.
المنهج السادس: في الإبانة عن جنس أدبي محدد اقترن بالتجربة الإليوتية وأعني به المونولوج الدرامي من خلال دراستي للمنولوج الدرامي في صنيع شعراء مصنفين في خانة اليسار، واعتمدت شهرتهم المبكرة على التزامهم بالواقعية الاشتراكية، ومنهم الشاعر عبدالوهاب البياتي.
اعتمد البياتي في “قصائد على بوابات العالم السبع” على تقنية المونولوج الدرامي التي برزت أهميتها مع “أغنية العاشق بروفروك”. وقد سبق أن أوضحت بعض تفاصيل المونولوج الدرامي لدى الشعراء الرواد كالسياب وقباني وأدونيس وحاوي وعبدالصبور. وسواء كان هؤلاء، على ما في مواقفهم الفكرية من اختلاف أو ائتلاف، واعين أو غير واعين نقديا لتقنية المونولوغ الدرامي وأصولها في الشعر الإنجليزي، فإن انطباق هذه التقنية على أعمالهم يشير إلى أننا إزاء تجارب مبدعة في هذا الجنس الأدبي.
وفي كتاب “الشمس والعنقاء” تناولت الانعطافة الكبرى في “قصائد على بوابات العالم السبع” للبياتي وتحوله إلى تقنية المونولوغ الدرامي.
المنهج السابع: في الإبانة عن المثاقفة الإليوتية معززة بأمثلة تتعلق بتفاعل الشعراء التموزيين مع منهج إليوت الميثولوجي.
المنهج الثامن: في الإبانة عن أن الشاعر نوري الجراح البعيد عن متوالية قصيدة النثر التي سادت بعد إرهاق الحداثة الجمالي تمكن في شعره الكاشف عن الثقافة الإغريقية ومصادرها السورية القديمة[1] تمكن في “لا حرب في طروادة – كلمات هوميروس الأخيرة” على وجه التحديد[2] أن يدخل جنسا أدبياً جديداً كل الجدة على الشعر العربي، وأعني به الملحمة النقيض (Mock Epic) وهو جنس أدبي معروف في الأدب الإنجليزي، ومن خصائصه أنه لا يقلد ولا يحاكي بل يسخر من البطولة نفسها في مواجهة المأساة.
المنهج التاسع: في الإبانة عن تحول بصير فيه المعرفي جماليا والجمالي معرفيا ومثاله ملحمة (الأفعوان الحجري) للشاعر الجراح المقيم في لندن منذ العام 1986، وهي القصيدة التي تتقصى الجذور السورية في ملحمة شرقية تسبر تكوين بريطانيا نفسها.
الجديد: إلى مدى ترى هناك إمكانية لابتكار صيغ جديدة للحياة الثقافية في سوريا بعد سقوط دولة القمع، والأمل بارتفاع سقف الحريات؟
خلدون الشمعة: الكلام عن إمكانية ابتكار صيغ جديدة للحياة الثقافية في سوريا بعد سقوط دولة القمع، والأمل بارتفاع سقف الحريات، سؤال يفترض تجاهل الدور الذي لعبته أفكار سادت الحياة الثقافية في سوريا، وانحرفت بها غالبا بعيدا عن المسارات التي أسست لها حركات التجديد التي ظهرت مع بزوغ الاستقلال، من هذه الأفكار على سبيل المثال طروحات ما أسميته بــ”الأدونيسية” التي تقوم على النظر إلى التجديد بوصفه فعلاً يستهدف تغيير اتجاه البوصلة بحيث تتأسس الحداثية العربية، خلافا لحقيقتها، على تطييف ثلاث نقاط، الأولى تجاهل سطوة الأصولية الإيرانية، والثانية الاستيلاء على العقل النقدي العربي بدعوى فقدان الأمل بالتغيير، والثالثة اعتبار الأمر الواقع نتيجة نهائية يقاس في ضوئها الشعر العربي الجديد على سبيل المثال.
أنطلق من نقاط التطييف هذه للتأكيد مجددا على أن فعالية هذه النقاط ليست مغلقة أو مؤجلة الآن في ضوء ارتفاع سقف الحريات بل مازالت في تقديري بعيدة عن مرحلة الغلق. وبعبارة أخرى يمكن القول إن عقم هذه الشعارية المتحولة إلى شعائرية يذكرني بساعة حائط يشير الفيلسوف كيركيكارد في معرض سخريته من القرن التاسع عشر إلى أن بندولها يقرع عاليا لكن عقربيها كانا عاجزين عن تحديد الوقت. وهي تبدو اليوم أشد انطباقا على المفهوم التطييفي المضاد الذي ساد الثقافة السورية في ظل دولة الاستبداد الأسدي منها على الفكر الأوروبي في القرن الماضي.
الهوية المفتوحة
الجديد: في الفترة الماضية عاش الأدب مخاض الاحتجاجات والثورة على النظام البائد، وتجلى لدى البعض في مواقف حاسمة انحيازا للشارع، هل يحتاج الأمر الآن إلى إعادة النظر في المجريات للانتقال إلى شيء آخر شيء جديد في تطلعات الأدب، كيف ترى إلى هذا الأمر؟
خلدون الشمعة: ليس صحيحا بالمطلق القول إن مخاض الاحتجاجات والثورة على النظام البائد يعني لدى البعض انحيازا للشارع. الشارع كان صامتاً في الداخل لأن الصمت نجاة. فهل ثمة حاجة الآن إلى إعادة النظر ومن ثم الانتقال إلى شيء آخر؟ ما هو هذا الشيء الآخر؟ في تقديري إن تطلعات الأدب تحت سقف مفتوح، يتعذر تغييرها أو حتى تقييدها وتعليل ذلك يكمن في نقطتين: الأولى تكمن في الإليوتية وقرينتها الماثلة في المدونة فرنسية المنشأ، والثانية في قصيدة محمود درويش “طباق إلى إدوارد سعيد”:
“والهوية؟ قلت
فقال دفاع عن الذات
إن الهوية بنت الولادة لكنها
إبداع صاحبها، لا وراثة ماض، أنا المتعدد في
داخلي خارجي المتجدد لكنني
أنتمي لسؤال الضحية لو لم
أكن من هناك لدربت قلبي على أن يراني هناك غزال الكناية.
فاحمل بلادك أنى ذهبت وكن نرجسيا إذا لزم الأمر“.
وتكمن النقطة الثانية في الهوية الطباقية:
“يحب بلاداً ويرحل عنها
هل المستحيل بعيد؟
يحب الرحيل إلى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد كافية للجميع
هنا هامش يتقدم أو مركز يتراجع
لا الشرق شرق تماماً ولا الغرب غرب تماما
لأن الهوية مفتوحة للتعدد“.
الاستشراق فتح الباب أمام القول بـ(هم ونحن).
وأما الهوية الطباقية فهي تؤكد على أن تطييف الأدب السوري كالأدب الفلسطيني احتاج ويحتاج إلى إعادة نظر. سوريا في حقيقتها الاجتماعية والتاريخية ضد التطييف فهي بلد الطوائف لا الطائفة الواحدة المكتفية بذاتها.
أجرى الحوار في لندن: قلم التحرير
خلدون الشمعة وثلاثيته النقدية
"الشمس والعنقاء"، "النقد والحرية" و"المنهج والمصطلح"
“الشمس والعنقاء”، “النقد والحرية” و”المنهج والمصطلح“ يحضر اسم الناقد السوري خلدون الشمعة بقوة بمناسبة صدور طبعة جديدة من ثلاثة أعمال نقدية له سبق أن صدرت طبعاتها الأولى في دمشق في سبعينات القرن الماضي. صدرت الثلاثية حديثاً عن “دار المتوسط” بميلانو وحملت العناوين التالي: “الشمس والعنقاء”، “النقد والحرية” و”المنهج والمصطلح”. هذه الثلاثية النقدية تسعى متضافرة إلى بلورة معالم مرحلة صيرورة مراوغة. ونعني بهذه المرحلة لعب دور تأسيسي أسهم، بحدود طبعا، في تطوير الجهاز المعرفي والمفاهيمي للنقد العربي الحديث.
حدث ذلك بالاستجابة لحافزين: الأول فحص واختبار وتحكيك أفكار سجالية أثيرت للتأكيد مجدداً على أن فعالية هذه الأفكار ذات الطابع السجالي ليست معلقة أو مؤجلة الآن، بل مازالت في تقدير النقد العربي الراهن، بعيدة عن مرحلة الغلق closure . فهذه الثلاثية التأسيسية الصادرة قبل زهاء نصف قرن، ترمي من بين أمور أخرى إلى تصحيح وتبئير وتصويب المفاهيم المراوغة المتحكمة بتجربة العلاقة بين الأدب والثورة في مثال الأدب العربي الحديث، وبخاصة العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا السياسية. هذه العلاقة يمكن وصفها بأنها علاقة ملتبسة.
ويمكن إرجاع هذا الالتباس، حسب الناقد، إلى هيمنة ضرب من النقد الشعاري المتخفي وراء دعاوى العلمية، التي تنحدر بلا حذر، إلى علموية Scientism تزييف العلم والفن معاً. هذه الهيمنة ذات الطابع الشعاري وربما الطابع الشعائري، وهذا هو الأصح، تنظر إلى إدراج الأدب تحت مظلة العسكريتاريا المهيمنة باعتبار ذلك مسألة أيديولوجية ملزمة. ولكن الأعمال النقدية التي نحن بصددها تحاجج بالقول إن هناك الفنان الذي يرى في الأيديولوجيا شيئاً عليه مناهضته، وربما تفنيد إلزامه، لحماية عمله الفني من فقدان جوهره الجمالي.
وهذا يعني تقييده بمتطلبات أيديولوجية تستمد قوتها من هيمنة العسكريتاريا وقد تحولت إلى سلطة الأمر الواقع. وتبعاً لذلك تسعى ثلاثية الناقد خلدون الشمعة التأسيسية هذه إلى التأكيد على أن العمل الفني مناهض بطبيعته للأيديولوجيا. ما هي نقطة المحرق في هذه المناهضة؟ إنها تكمن في محاولة تحطيم النظام القديم للأفكار باسم نظام جديد، وفضلاً عن ذلك يمكن القول إن الفن مناهض للأيديولوجيا لأن أحد جوانب طبيعته أنه يكشف نقاط ضعف وأخطاء الكائن البشري عوضاً عن كونه يعكس نظاماً متسقاً ومتماسكاً من الكمال. إيضاحاً لما تعنيه الثلاثية النقدية بالعلاقة الملتبسة، يشبه الناقد الشمعة في توصيفه لها عقم الشعارية التي سيطرت على النقد العربي، وهي شعائرية لأنها مقدسة، وتشبه ساعة حائط يذكر كيركغارد في معرض سخريته من القرن التاسع عشر أن بندولها ظل يقرع عالياً ولكن عقربيها كانا عاجزين عن تحديد الوقت. وهي صورة تبدو اليوم، حسب الشمعة، أشد انطباقاً على مفهوم الثورة في الأدب العربي المعاصر منها على الفكر الأوروبي في القرن الماضي.
ويتكشف ذلك، كما ينبه الناقد، باستعمالنا لمصطلحات على غرار الثورة والأيديولوجيا والالتزام الذي يعني الإلزام في جوهره التطبيقي، تلك المصطلحات التي تقرع عالياً كساعة الحائط المعطوبة دون أن تحدد وقتاً أو تشير على معنى. ويخلص خلدون الشمعة من ذلك إلى القول إن هذا المؤشر السجالي في ثلاثيته المبكرة ربما يكشف ما عنته من حيث تفعيل حراك نقد عربي مناهض لأصوليات القدامة والحداثة ذات النزوع الأيديولوجي والطابع المانوي. الوصول إلى هذه النقطة، هو بالنسبة إلى مشروع الناقد خلدون الشمعة، وصول إلى الشعرية الحقيقية لا الشعرية المؤدلجة.
وهذا الوصول يتجلى بوضوح في كتبه اللاحقة والصادرة في السنتين الأخيرتين كجزء متقدم من مشروعه النقدي، منها على سبيل المثال كتاب: “المختلف والمؤتلف: تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر”، وكتاب “كعب أخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي”، وكتابه الأحدث الصادر بالإنجليزية وعنوانه: ” نظرية الأدب العربي الحديث: من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي”، والأخير يدرس، في جانب منه، علاقة الآداب الأخرى بالأدب العربي، فضلاً عن الخلاصات التي توصل إليها في بحث تأثير الأدب العربي على الآداب الأوروبية.