خيري الذهبي

القص ديوان العرب
الخميس 2022/09/01

أجرى هذا الحوار في تونس سنة 1993 الناقد الفلسطيني أنطوان شلحت، ونشر أول مرة في صحيفة الاتحاد الحيفاوية في الخامس من شباط من العام المشار إليه. “الجديد” تعيد نشر الحوار ليطلع عليه قراء الرواية في العالم العربي.

جاء في التقديم الذي وضعه الناقد الفلسطيني للحوار: في كتابته الروائية عموماً وتخصصاً في التحولات يتميز الكاتب بما يمكن توصيفه بـ”القلق من الصياغة”، وذلك على خلفية وقوفه أمام مشكلة الشكل واقترابه من الحد المفتوح لمساءلة صميمية تتلبسه. ومؤدى هذه المساءلة: هل يرضي ذوقه الفني الذي تربى غربياً – كما يوضح لنا – أم يُرضي حسه القومي والطبقي ويتوجه بالتالي، في كتابته، إلى الجماهير صاحبة الأمر مع ما يعنيه ذلك من تخل عن طموحاته الفنية الأنوية، إنها مشكلة تحتاج، برأيه، إلى محاولة لربط الحصانين إلى عربة واحدة. وهو منطلق يخوض غمار محاولة ربط هذين الحصانين. وحين يحاول الاستفادة من الشكل الروائي لـ”ألف ليلة وليلة”، ذلك الشكل الدائري الحلزوني البناء والمخالف للشكل الغربي الأوروبي الهرمي البناء، حيث البداية والذروة ثم النهاية، فإن أكثر ما یكترثُ له هو استعادة الشكل الفني العربي في عموميته ومنطقيته. وهو الشكل الذي يراه قائماً على الاستمرارية، إذ أن كل الأشياء تبدأ ولكنها لا تنتهي فهي تعطي البداية لغيرها.

                                                                                                قلم التحرير

أنطوان شلحت: سمعتك أكثر من مرة تعترض على مقولة “الشعر ديوان العرب”، باسطاً اعتراضك أيضاً على كل ما مضى..

خيري الذهبي: أعتقد بأن هذه الجملة “الشعر ديوان العرب” كرست لكثرة التكرار وعدم محاولة أحد التدقيق فيها واكتشاف مدی مطابقتها للواقع. وأنا حين أعود إلى الطفولة لا أذكر أن الشعر كان يوماً دیوان بیتنا، أو كان هماً أساسياً لجيراننا في الحارة حيث وُلدت. وكل ما أذكره هو القص الذي كان يحيط بنا من كل جانب، حكايات الجدة، السير الشعبية، كتب الأخبار.

أنا لا أتحدث عن الشعر المعاصر، ولكن لو عدنا مع التاريخ قليلاً ومستقرئين سنكتشف أن الشعر تراجع عن التأثير العام في جماهير الناس ربما منذ القرن الثالث أو الرابع الهجري، منذ أن بدأ الانفصال بين الخاصة والعامة.. لقد كانا كلاَ واحداً في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، ولكن الفوارق المالية والعلمية والقرب من السلطان ما لبثت أن جعلت الانفصال أمراً واقعاً. هذا الانفصال ترك للخاصة الاهتمام بالشعر وتناوله واللعب على تنويعاته حتى وصل الى الشكلانية الفارغة المحضة. شعر تكتب كلماته منقوطة كلها حيناً وغیر منقوطة كلها حيناً آخر. وشعر يُقرأ من البدء كما يُقرأ من النهاية. حاملاً المعنى الصغير نفسه إلى آخر تنويعات فراغ الروح ونهايات الحضارات.

أنطوان شلحت: وماذا عن القص؟

خيري الذهبي: في ذلك الحين أخذت العامة في البحث عن شكل يملأ فراغ جوعها للجمال والمغامرة، عن شكل يعبر عن طموحاتها في مجتمع أكثر عدلاً وأبطال أكثر نضارة ونساء أكثر حكمة وجمالاً ودهاء… فكان القصاصون. وربما كان أشهرهم في ذلك الحين الواقدي صاحب فتوح الشام، والزبير بن بكار، مخترع شخصية خولة بنت الأزور وعبدالله بن سبأ اللتين تحولتا إلى مثال وإلی رمز علقت عليه كثير من الأحداث والصراعات فيما بعد.

 ويحدثنا المسعودي عن قصة “دالة المحتالة” التي كان الشعب يتداولها والتي قرأناها فيما بعد في” ألف ليلة وليلة” تحت اسم دليلة وعلاقتها الصراعية مع علي الزيبق.

ثم تتقدم القرون ويبدأ الشعب بإبداع سيره الشعبية والتي ترفّع عنها الخاصة كثيراً واعتبروها من سقط العوام.. ولكنها كانت الشكل الأول لفن القص العربي والذي سيتجمد لقرون عبر روايات الراوين الذين لا يفعلون شيئا سوى إضافة بعض النكهات ما قاله المؤلفون الأوائل.

أنطوان شلحت: ما تتفضل به يفتح باباً للاعتراض بأن انتصارك للقص على حساب الشعر يأتي على خلفية حياتية أيضاَ؟

لوحة: ريم يسوف
لوحة: ريم يسوف

خيري الذهبي: هذا صحيح.. وتلك الجملة الاعتراضية على مقولة “الشعر ديوان العرب” ألحت عليّ أكثر شيء وأنا أتذكر أن قدري منذ البدء كان مع القص، فأنا لا أذكر أني بدأت الكتابة في الشعر كما يذكر الكثير من الكتاب، بل أذكر أن أول محاولة جادة لي في الكتابة، وكنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة كانت في الرواية. وحين أحاول التذكر واسترجاع الزمان والأحداث أتساءل عما دفعني إلى هذا الدرب فأذكر مكتبةً وأباً وكتباً مجلدة مديرة أقفيتها للناس. أذكر تحريض الأب لي على القراءة في مكتبته. فأقرأ رسائل إخوان الصفا، وحيوان الجاحظ والأغاني، ولا أزال الطفل. وأذكر مكتبة الحارة الشعبية التي كانت تؤجر روايات مغامرات وأسرار وبوليسيات بخمسة قروش للكتاب. أذكر ذلك النوسان بين متعة ورعشة إدغار والاس وموريس لوبلان وبين رعب وإجلال التسلل إلى عوالم الكتب الثقيلة المجلدة بجلود حيوانات ميتة.

مديرة ظهورها للناس. استمر ذلك النوسان حتى أخذتُ أتعلم الإنجليزية.. ثم إذا بعالم جديد يتكشف لي، عالم فيه جلال كتاب أخلاق الوزيرين ومتعة إدغار والاس، عالم بدأت أتعرف فيه على همنغواي وفوكنر ودوس باسوس وشتاينبك، عالم جعلني أدير ظهري تماماً للجاحظ والتوحيدي والأصفهاني، عالم مُمتع، مُشرق، آسر، ضاج بالحياة، وهذا جعلني أنظر إلى تلك المتع الجافة المحفوظة في المجلات برفض واشمئزاز وإحساس بضياع الزمن الذي أمضيته في جوارها. وأنا حين أستعرض تلك الفترة من العمر مع مجايّلي من المثقفين والكتاب أذكر معهم ذلك الرفض الذي عاشه جيلنا للتراث والفكر والكتب الصفراء، كما اعتدنا أن نسميها، واهبين أنفسنا تماماً لذلك الوافد الجميل المزين بالغلافات الملونة والمحلّى بعطور الكيمياء الجديدة. كنا راضين عن أنفسنا، نبني عالمنا الجديد، عالماً لم يتبق بيننا وبين تسنّمه إلا أن نقدم على الخطوة التالية.. فقط. وأقدمنا. وكانت هزيمة 67 فإذا بالحقيقة المرة تصفعنا، وإذا بالغرب – تلك الحسناء المزينة بأحدث مبتكرات الموضة والمعطرة بأحلى عطور القرن العشرين – يتكشف مرة ثانية عن الوحش ذي الأنياب الصفراء، وإذا بالعجوز الهاربة من عكا في أواخر القرن الـ13 ترجع ثانية عام 1967، وإذا بالفجيعة تحط وإذا بالضياع يحيط.. وإذا بنا علينا أن نكتشف الأرض التي علينا أن نضع أقدامنا عليها من جديد.. وكان علينا أن نعود ثانية إلى الكتب التي أسميناها فيما مضى صفراء، نبحث عن الإجابات. فلقد خان الغرب الوعد الذي وعد وأضاع الأمانة التي حمل، وكان علينا أن نبحث عن مصيرنا ثانية بأنفسنا.

أنطوان شلحت: هذا النوسان الذي تقول إن جيلك قد عاشه بين شرق شائخ وغرب خائن، كيف تم التمييز عنه أدبياً، كتابةً من طرفك؟

خيري الذهبي: في روايتي المطبوعة الأولى “ملكوت البسطاء” وهي رواية شديدة الخصوصية المحلية، مكانياً وزمانياً وعلاقياً، فهي تتحدث عن عائلة من ريف دمشق وكيف استقبلت المتغيرات الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، ولكن الكاتب الذي كان يعيش في عالمه الحداثي الروائي، اختار لهذه الرواية الشكل الأكثر حداثة في ذلك الحين: رواية الأصوات مع المونولوغ الداخلي الطويل، وكان نشر الرواية هو المحك، الذي وضعت عليه تجربتي كلها. خيري الذهبي كيف ستكون خطوتك التالية؟ هل ستستجيب للذوق الفني والمربى غربياً تماماً، وبذلك لن تجد قراء كثراً، فالمستوى العام لقارئينا كان لايزال يعيش في مرحلة ما بعد المنفلوطي، فإذا ما تشجع قرأ عبدالقدوس وعبدالحليم عبدالله، أم تستجيب للذوق العام وتصنع لنفسك القراء الذين تحتاجهم خاصة وأنت غير منتم لحزب سياسي يتبناك ويفرضك على الناس، ولست في الحين نفسه جزءاً من شلة ولا تستطيع بتركيبتك النفسية أن تكونه.

و.. كتبت رواية “طائر الأيام العجيبة”، محاولاً أن أربط حصاني الكتابة لمجموع الناس، والكتابة للذواقة. ولكني… حين أراجع نفسي لا أرضی كثيراً عن هذه التجربة. فيما بعد كتبت رواية ” ليال عربية”. في هذه الرواية حاولت أن أوجد شكلاً عربياً للرواية.. ونحن نعرف أن خلاصة الفكر العربي هو المنطق الأرسطي، المنطق النفعي، المنطق الذي يطلب منك أن توصلنا في كل شيء تفعله إلى نتيجة، مقدمة صغرى – كبرى…نتيجة عرض ذروة خاتمة وحل، فإذا ما تصورنا هذا المنطق هندسياً اكتشفنا أن له شكل الهرم.

أنطوان شلحت: ماذا عن المنطق العربي؟ هل يختلف شكل تصوره الهندسي؟

خيري الذهبي: الحق أنني حين استقرأت الفنون العربية وجدت ما يلي: ثمة تشكیل قائم على وحدة زخرفية تبلغ الكمال ثم.. تتكرر وتتكرر إلى ما لا نهاية. بيت الشعر يُكثف ويُجمل حتى يبلغ كماله الخاص ثم… ينتقل إلى بيت آخر لا علاقة له تقريباً بالبيت السابق. والغناء.. تكرار جماليات العتابا أو الـ “يا ليل” أو “يا عين” أو الموال.. سألت نفسي: لم هذا كله؟ وعندها اكتشفت أن المنطق العربي لا يرید الوصول بك أو معك إلى نتيجة.. إنه يريد أن ينقلك إلى حالة.. يحملك إليها فقط.. وعليك أنت أن تصل إلى النتيجة التي تريد: ينطبق هذا على “ألف ليلة وليلة”، و”المقامات”… رأيت الصورة الحلزونية التي تبدأ من نقطة، ثم تمضي متقدمة، متحلزنة إلى ما لا نهاية… أليست الصحراء لرائيها لانهائية أليست السماء وصانعها لانهائية.

 وكانت رواية “ليال عربية” بشكلها الحلزوني، التوليدي، مغامرة شخصية على صعيد الكتابة والبحث عن هوية. ثم كانت رواية “المدينة الأخرى”.. ثم توقفت عن الكتابة متضايقاً مُحساً بعبثية الكتابة وعدم جدواها. وانشغلت إلى حين في كتابة السيناريوهات للتلفزيون. شرعت حينها بقراءة التاريخ بحثاً عن إجابات لأسئلة كثيرة، كانت تلح عليّ أسئلة عن الانتماء والوطن، والمكان والتاريخ والتراث.

لوحة: ريم يسوف
لوحة: ريم يسوف

أنطوان شلحت: فترة توقفك عن الكتابة لم تستمر طويلاً، هل أسعفتك قراءة التاريخ وحسب في العودة إليها؟

خيري الذهبي: في الحقيقة إن عذاب الاسئلة ظل يلح عليّ حتى وجدت نفسي أبدأ مشروعي الجديد، وهو عدد من الروايات تحت اسم “التحولات”. ومنذ البدء كنت أقصد بـ”التحولات” الكلمة الغریكو لاتينية ميتامورفوزس، والتي كنت أنوي ترجمتها إلى التناسخات. ولكني استعجمت الكلمة.

 وبالمناسبة فإن أول ذكر لكلمة ميتامورفوزس، قرأتها عند المعري في رسالة الغفران،. لقد أصدرت الكتاب الأول من التحولات تحت اسم “حسيبة”، وهي الشخصية الإنسانية بل والمحورية للعمل ككل. إنها المرأة – الأم – الحبيبة – الزوجة – القوية القادرة على أن تمد اليد للعاثر عند عثوره وإقامته من عثرته. ولكنها أيضاً محاولة المدينة أن تصمد في زمن العثرات. تحدثت في هذا الكتاب عن مدن الواحات تلك التي لا تصنع قدرها، بل تنتظر القوافل تقدم وتحمل إليها قدرها، فإذا بها تخلق فلسفة الانتظار، وإذا بها تبتكر شخصية عيسى المنتظر والقادم في آخر الزمان حاملاً العدل والسلام رافعاً عن المدينة – العالم. “أليست المدينة في العالم؟” الظلم والجور والقحط والمجاعات والطغيان. ثم تطورت هذه الشخصية إلى المهدي المنتظر. وجعلوا لهذا الانتظار طقوساً وآمالاً وأفراحاً. ونحن في دمشق نعرف بالضبط أین سینزل عيسى المنتظر. إنه سينزل عند مئذنة العروس في الجامع الأموي.. ها قد عرفنا المكان.. أما الزمان فإن علينا الانتظار.

هذه المدن الواحات كانت قدراً وكانت حلماً، وكانت انتظاراً. ثم نشرت الكتاب الثاني وكان أيضاً تحت اسم “التحولات“، يحمل عنواناً فرعياً هو “فیاض“. في حسيبة قدمت الصوت النسائي، الأصل، المرأة. أما في فياض، قدمت الرجل، الرجل في صراعه مع التاريخ، مع السياسة، مع الحياة.

صراع يبدأ قبل ولادة فياض بقرون، صراع يبدأ تاركاً بصماته القاسية على ذاكرتنا وحياتنا منذ الحروب الصليبية على الأقل، صراع تشارك فيه الذاكرة والخيال والواقع “الواقعيين الراضيين بكل شيء”، صراع حاولت فيه نبش الذاكرة في صراع الشرق والغرب المعاصرين، صراع يقف فيه روجيه لوبلان فوق قلعة شيزر، قلعة أسامة بن منقذ، ليتذكر جده غلیام لوبلان قبل عشرة قرون عند أقدام هذه القلعة. صراع حاولت فيه أن أكشف عن رعب البندوق، والبندوق هو طائر يتولد عن زواج فاسد بين طائرین مختلفين حسون وكناری فيأتي البندوق – الهجين قوةً وجمالاً ولكن.. رعباً أیضاً فهو يدرك في عمق روحه أنه عقيم وأن حياته وجنسه سينتهيان بموته. ولنذكر كم من البناديق والبندقة والهجانة في حياتنا.

في هذه الرواية وضعت رهاني الأكبر في اللعب على اللغة ومستوياتها على الشكل والخروج والدخول من دهاليز الآن إلى الماضي والماضي البعيد ثم العودة. ولكن ظرفاً سياسياً وعسكرياً فظيعاً حط على الأمة العربية، ظرفاً جعل هذه الرواية لا تأخذ حظها كما أخذنه “حسيبة” من قبل.

 مشروع استكمال التحولات، لا يزال قائماً. ومسودة الكتاب الثالث منه لا تزال في الدرج تحتاج إلى إعادة كتابة وتبييض.

أنطوان شلحت: إذا عدنا إلى مفتاح هذا الحوار، كيف تلخص خيري الذهبي؟ تجربة حياة وحصيلة إبداع، التكوين والصيرورة؟

خيري الذهبي: خيري هو ذلك المزيج من كتب صفراء وكتب جميلة الغلاف وكتب طيبة الرائحة..

المزيج من حلم (باستحياء) الجاحظ والتوحيدي وابن بكار، وإعادة استنبات فوكنر وهمينغواي وبروست في الأرض العربية. ثقافتنا العربية تعيش حالة لااستقرار، إنها تعيش حالة استقرار يونس فوق ظهر الحوت.

 

• أجرى الحوار في تونس: أنطوان شلحت

• نشر أول مرة في صحيفة الاتحاد/ حيفا 5 شباط 1993

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.