خُصوبة سابوعيَّة

مَجلَّة “الجديد” في مُسْتَهَلِّ دورةِ جديدة
الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: رفاعي رفاعي

على مدى السَّنوات السَّبع، المَوسومةِ بدايتها الأُولى بصدور العدد الأوَّلِ من مَجلَّة “الجديد”، في الأوَّل من شباط (فبراير) من العام 2015، والْمَفتوحَةِ بداياتُهَا المُتَجدِدة على عددها الخامسِ والثَّمانين في الأوَّل من شباط (فبراير) من العام الحالي 2022،  تَكونُ هذه المَجَّلَّةُ الَّتي أرادت لنفسِها أنْ تَكون “مِنْبراً عربيَّاً لِفِكْرٍ حُرٍّ وإبداعٍ جَديدٍ”، قَدْ أَكْملَتْ دورتَهَا السَّابوعِيَّة الأولى، ولا يكُونُ لنَا حقُّ مُسَاءَلَتِهَا عَمَّا كانت قَدْ وعَدتْ بِهِ، فَحسبُ، وإنَّما يَكُونُ علينا، كَقُرَّاء، ومُتابعينَ، ومُشاركين في خَوض غِمَار هذه التَّجربَةِ الإبداعيَّة المَعْرِفِيَّة الخَلَّاقَة، والمفتوحَة على المُسْتقْبلِ، والتَّي جعلت “الجديدُ” من نفسها “مجالاً حيويَّاً” لِمورانها، وصيرروة مساراتها، وتَدفُّق أَمواه أنْهُرها، وإشْعالِ مَصابيح مناراتِها، واجِبُ مُمارسَةِ هذا الحَقِّ باعتباره مِعيَاراً جَوهَريَّاً التَزمَتْهُ طَوالَ الوقْتِ، إذْ أسَّست نفسها، في الأصْلِ، عليْه، فَمَكَّنها التزامهَا التَّأْسيسيِّ بِه مِنْ إكمالِ دورتِها السَّابوعيَّة الأُولى، بِجدارةٍ واقتدارٍ يُؤشِّرانِ إلى أصالةِ التَّجربَةِ، وحصافَة المُسَاءَلَةِ النَّقْديّة الصَّارِمَة، وخُصُوبَة الإنجازِ المُؤسِّسِ لإنْجاز جديدٍ سيكونُ، بلا ريبٍ، أخْصبَ، وأجلَّ، وأسمى، وأَجْمل.

وليس لِتأَمَّل العلاقة ما بين العنوان الذي حملَهُ غلاف عدد مجلَّة “الجديد” الأَوَّل، والعنوان الذي حملَهُ غلاف عددها الرَّابِع والثَّمانينَ إلَّا أنْ يَكونَ مُتشعِّبَ المدلولات، وذا مَغزى مَعرفيٍّ عميقٍ، فقد حمل غلاف العدد الأوَّل عنوان “الرَّبيع الدَّامي: المُثَقَّفون والانتفاضَات العربيَّة”، فيما حَمل غلاف العدد الرابِع والثَّمانين عنوان “في البدْء كانت الكلِمة: عامٌ جديدٌ يهلُّ على ‘الجديد’ ويَطوي سنَةً سابِعَةً”. وإنْ كان للعلاقَة القائِمة ما بينَ هذين العنوانين أنْ تُفصح عن الصِّلِة الصَّميميَّة واجبةِ الوجود ما بينَ “المُثَقَّفِ الحقيقيِّ”، و”الانتفاضاتِ الحقيقيَّة”، ليكونَ كلاهُما حقيقيَّاً بالفِعْلِ، وبمعنى الكلِمة، فَإنَّها لَتُفْصِحُ، بجلاءٍ ساطِعٍ، عنْ حقيقة الدَّور الذي يَنْهَض بِهِ المُثقَّفُ الحقيقيُّ، المَسْكُونُ وُجْدانُهُ الكُلِّيُّ بِكَلِمَاتٍ حقيقيَّة تُكْتَبُ وتُقْرأُ، وتُقَالُ وتُسمَعُ، وتُرسَمُ وتُرى، فَتُتَصَّوَّرُ، ويُتبَصَّرُ فيها، فَيُصْغَى إلى هَمْسِ نداءاتِها، وتُلْتقَطُ من فَضاءات أثيرها الدَّلاليِّ فَحوى رسائِلِهَا!

وجَليٌّ هُنَا، أنَّ كِلا العنوانين لا يُحيلُ إلى شِعار “الجديد” الذي لا يُؤَكِّدُ وجَودها بِوصفها المجال الحيويّ والمنبر الحُرِّ لِكُلِّ إبداعٍ معرفيِّ: فكريٍّ وجماليٍّ، حُرٍّ وجديد، فَحسبْ، وإنَّما يُسَوِّغُ هَذا الوجودَ، تسويْغاً نضاليَّاً إنْسانيَّاً مُثابِراً وعنيداً، إذْ يربِطُهُ بالواقِع الظَّلاميِّ الاستبدادي الذي تنشدُ المجلَّةُ استبدالَهُ، والَّذي كانَ للسَّعي اللَّاهبِ إلى استبدالِه عبر إنهاضِ الوعي، الكفيلِ باجتثاثِه مِنْ جُذوره، أنْ يُمْلِي وُجودَها، وأنْ يُضِيء سُبُلَها، وأنْ يُحَدِّد، بِدِقَّةٍ، مقاصدها. والحقُّ أنَّ العلاقة ما بين هذين العنوانين لا تقتصرُ عليهما، وإنَّما هي تتشَعبُّ وتتنوَّعُ، وتتَعزَّزُ صَميميَّة تجاوبِها الحيَويِّ مع الشَّعارِ المُعتَمدِ، إنْ نَحنُ تأَمَّلنا ما أَشعَلتْهُ عناوين الأعداد الواقِعَة في المسافَةِ الزَّمنيَّة المُمتدَّة بيْنَهما على مدى السَّنوات السِّبعِ مِنْ أنوار.

وإذْ لا يتَّسِعُ المقامُ لِفِعل ذلكَ، هُنَا والآن، فَإنَّنا لندعو القارئات والقارئينَ إلى فِعْلِهِ مَتى أَذِنَ وقْتُهِنَّ ووقْتُهمْ، ونَكتفي، هُنا والآنَ، على سبيل التَّمثيل لا الحَصْرِ، بالتقاطِ عنوانٍ واحدٍ مِنْ كُلِّ عام، وليكنُ هُو العنوانُ الواسِمُ غلاف العددَ الصَّادر في مُفتتح شباط (فبراير)،  الذي هُوَ مُفتتحُ عام جديد مِنْ أعوام “سابُوع الجديد”. وإنْ كانَ لِهذا الخيار أنْ يُمْلِي التَّبَصُّرَ، لاحقاً، في عنوان العدد القادم الذي لا يَعرفُهُ كاتبُ هذه السُّطورِ، فَإنَّ للعناوين الخمسة الَّتي سنتَأمَّلُها الآنَ أنْ يَكونَ، بدوره، ذا دلالةٍ ومَغْزى، أحسبهما يكفيان لتحديد اتِّجاه مَا سيَتوجَّبُ علينا قَولَهُ بِشِأنِ وُعودِ “الجديد”، ومسيرتِها، ومدى الحاجَة إلى استمرارها، وإلى إيلائِها ما هي جديرةٌ بِه من مُتابَعَةٍ، ومن مُسَاءَلةٍ، ومِنْ نَقدٍ رصيْنٍ، حصيفٍ وبنَّاء.

صوى وعلامات

لوحة: رفاعي رفاعي
لوحة: رفاعي رفاعي

على غلاف العدد الثَّالث والسَّبعين نَقرأُ العنوان المُتَسَائل “أبطالُ الرِّوايات: مِنْ أينَ يأتي الكُتَّابُ العربِ بِأبطال رواياتِهم؟”، وعلى غلاف العدد السَّابِق لَه، بإثني عشر شَهراً، نقرأُ “شهرزادُ الجزائِريَّة: فلسفَة الفنِ والعوالِم المُهَمَّشَة، والمرأةُ الكاتبَة”؛ لِنَقرأ على غلاف العددِ الذي سبقَه بالقَدْرِ الزَّمنيِّ عيْنِه “أدبُ الاعتراف: الذَّات والكتابَة في الثَّقافَة العربيَّة”؛ ولِنَتسَاءَلَ، مِنْ ثَمَّ، وبتحْفِيزِ عنوان العدد السَّابِق لَه “هَل نَحْنُ حقَّاً مُتخلِّفون؟” وذلكَ كَمدخلٍ تساؤُلىِّ يَفتحُ كُلَّ الأبواب للشُّروعِ “في نقدِ نظريَّة التَّخلُّف العربيِّ”، وللذَّهاب مَع العدد الذي سبَقَه في جَوْسِ “أرضِ الزَّلازلِ”، وفي تحسَّسُ خَطونا المُتَعَثِّر في دياميس “أوهام الهويَّات”، لِنُحْسِنَ الاستجابَة لنداء العنوان الرئيس الذي يُحفِّزُ أبصارنا وبصائرنا وعقولنا الوقَّادة على  قراءةِ التَّجسُّداتِ الَّتي يُحيلنا العنوان “استنظاق النُّصوص وفلسفَة الدَّم” إليها، باعتبارها تَجسُّدات تَقولُ حقيقةَ اندلاع الزَّلازل الحارِقَة مِنْ أُتُنِ نُصُوص الهَلاكِ، وأيديولوجيات الهُويَّات الموهُومَة، تِلك المُغلقَةِ على نفسها، والمُؤَسَّسةِ على وعيٍّ عُنْصُريٍّ ظلاميٍّ حالكَ السَّواد والزِّيْف، والفاتِكَة بِمعتنقيهَا فيما هُمْ يَفتِكُونَ، باسم هذه النُّصُوص والأيديولوجِيَّات، بآخريهم، وبِأغيارهِم، وبِمنْ تُصَّوِّرُ لَهم مُخِيَّلاتُهُمُ التَّخْييلِيَّة السَّقيمةُ أنَّهُم نَقَائِضهُمْ، مِنَ النَّاس، وأنْ لا وُجودَ حقيقيَّاً لَهُم في ظِلِّ وُجُودِهم!

وسيكُونُ للعنوانينِ، الرَّئيس والفرعيِّ، الواسمِين العدد السَّابِقِ على العددِ الذي قاربناهُ عنوانيه للتَّو، وهو “المخاض العسير: حيرة الفِكْرِ العربي بَعدَ 5 سنواتٍ مِنْ عربيَّةٍ عاصِفَة”، أنْ يُعيدانَا إلى عنوانِي العدد الأوَّل مِنْ مَجلَّة “الجديد” واللَّذين هُمَا “الرَّبيع الدَّامي: المُثَقَّفون والانتفاضات العربيَّة”، لِيُغلِقَا الدَّائرة السَّابوعِيَّة الخصْبَة الأولى من عُمْر هذه المجلَّةِ الَّتي أحسبُ أنَّها المَجلَّةُ الأجدرُ بالبقاءِ، والتَّجدُّد، ومتابَعَةِ الوجودِ، طالمَا ظلَّ في الوجودِ جديدٌ يُنشَدُ، ويُرهَفُ السَّمْعُ لالتقاطِ نِداءاتِه الحفَّازةِ، فَيُنهَضُ الوعي الإنسانِيُّ الخلَّاقِ لِنُشْدانِه، ولإنْهاض حَراكاتِ إدراكِهِ الوطنيِّ والإنْسانيِّ الجَمْعي، تلك الكفيلَةُ بِتجلية وجوده واقعاً يَتحقَّق في بلاد العرب، وفي بلاد كُلِّ النَّاسِ في شَتَّى بِقاع الأرضِ، وأحيازِ العالم.

تظهير الأعماق

ولعلَّ أمرَ التَّساوقِ الصَّميميِّ مَع الشِّعار المُعْلَنِ “فَكرٌ حُرٌّ وإبداعٌ جديد” أنْ ينطبقِ على الأعمِّ الأغلبِ مِمَّا احتوته أعداد مجلَّة “الجديد” الاثنى عشر الصَّادرة في كُلِّ عامٍ من أعوام دورتها السَّابوعيَّة الأولى، من دراسات، ومقالات، وحوارات، وسجالات فكريَّة، وفنونٍ، وآدابٍ، وعُروض كُتُبٍ، ونصوص مُستعادةٍ، وأصوات، ونصوص إبداعيَّة جديدة ومُتنوِّعة، وما صاحبها، مُتحَاوراً مَعها، من لوحات فنيَّةٍ ورسومٍ وتخطيطاتٍ، وغير ذلكَ من أبواب أروقَة “منبر الجديد”، وغرفِه المُنيرة، الثَّابتة والمُتحرِّكة، والتي اندرجَ العديدُ مِمَّا احتوته في سُبُلِ “ملفَّات” مفتوحَةٍ على الخَطوِ الدَّائم، ومُعَدَّة بتبَصُّرٍ عميق ومهنيَّة عاليةٍ، إمَّا لإعادة طرحِ أسئلَة معرفيَّة وجماليَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة قديمةٍ لم يتمكَّنَ الفِكر العربي، لأسبابَ عديدةٍ تَكمنُ في بنيتِه فَتُقيِّدُهُ، من استيفاء إجاباتها المُمكنَةِ وتأصيلِ أصوبها تمهيداً لدعوةِ المعنيين من النَّاس، بل وكُلِّ النَّاس، إلى مناقشته والأخذ بِه، والتَّصَّرُّف بِمقتضاه، وإمَّا لِطرحِ أسئلةٍ جديدة انبثقت عن إجاباتٍ أسئلة سابِقة، أو أملتها شُروطُ وضروراتُ مواجهة الواقع الظّلاميِّ اللَّاإنساني القائمِ، الذي لَم تَكفَّ “الجديد” عن مُساءَلَته وإخضاعِه، بشتَّى جوانبه وبِكُلِّ امتداداته وأبعاده وتشابُك علاقاتِه، للتَّحليل المنهجيِّ والنَّقد الرَّصين، بغيَة إدراكِ مُتطلباتِ تغييرهِ، وتَعرُّف كيفيَّات إحداث هذا التَّغيير وامتلاك وسائلِه وأدواته، وذلك عبر تكليف الوعيِّ التنويريِّ الجديد ببلورة رؤيَة مُستقبليَّة يفْتَح الاقتداءُ بِهَا، والأخْذُ بمقتضياتها، سُبُل تجاوز الواقِع الاستبداديِّ المرفُوض، ودائماً عبرَ النِّضال الجمعيِّ الذَّاهب صَوبَ تجسيد حُضُور نقيضِه الحيويِّ المنشودِ في رحابِ واقِع إنسانيٍّ جديدٍ، حُرٍّ ومُنير، وممكن الوجود.

الربيع الدامي

لوحة: رفاعي رفاعي
لوحة: رفاعي رفاعي

في عددها الأوَّل، فتحت “الجديد” ملفَّ “الربيع الدَّامي” وتساءَلتْ “لماذا لم يُزهر الرَّبيع؟” و”ماذا لو كانَ مُثَقَّفو الاستبداد على حق؟”، وقاربت الربيَع “الدَّاعش والدَّامس” الذي “لا تُونِعُ فيه غير الرُّؤوس” التي يَجزُّها الإرهابُ المُصَنَّعُ بسيوفِ الغرائزِ الحيوانيَّة العمياءِ والتَّوحُّش البشريِّ؛ لتتساءَل، مِنْ ثَمَّ، عن “ثورة العبيد التي لم تَقع”. وفي العدد نفسِه، وفي اقترانٍ دالٍّ وذي مغزى عميق، فتحت الجديد ملفَّ “الثَّقافَة والمُؤَنَّث”، رابِطَة “ربيع العرب الدَّامي”؛ هذا الذي لا تُونعُ فيه غير الرُّؤوس، بـ”خريف المرأة”، هاتِه “المُغيَّبَة في الفِكر العربيِّ”، والمحكومة بشروط “واقع مكبوت” والتي يُكْتَمُ صوتُ كتابتها الإبداعيَّة ويُكْبَحُ صَدَاهُ، ولا يُؤذنُ لِسردها أنْ يُسهم في فَتحِ “طريق العقلانيَّة”. وفي عددها السَّابِقِ للعدد الذي يحتوى هذا المقال، وفي تساوقٍ مع عنوانِ غلافِه “في البدء كانت الكلمة”، فَتحت “الجديد” ثلاثَة “ملفَّات” توزَّعت بين الفكر والنَّقد والشِّعر، وحمل أولها عنوان “غسق الفكر وحرائق التاريخ”، وثانيها عنوان “أصوات وتجارب” لِتُضِيءَ مقالاتُه جوانب معينَةٍ من تجارب وتجليَّاتٍ إبداعيَّة، أو نقديَّة، لثلاثة مبدعين قصصينَ، أو روائيين، مارسَ بعضهم البحث العلمي والنَّقد، فيما حمل ثالثها عنوان “قصائد في الشِّتاء” ليضفر نصوصاً شعريَّة أبدعها شعراء من ثمانية أقطار عربيَّة، وذاتُ صلةٍ، رؤيوية وجماليَّة، بشعريَّة الشِّتاء وممكناتها الكامنة، وتلك القابِلة للتَّجلية في نصوص وقصائد.

وما المدلولاتُ الثَّريَّة التي تُظُهرهَا مقاربة عددي الجديد اللَّذين فَتحَ أوَّلُهما تجدد انبثاقاتِ خُصوبتها الإبداعيَّة، وثرائها النَّقديِّ، وغناها المعرفي، وتواشجهَا الرُّؤَيوي الجماليِّ، مَع صُدور كُلِّ عدد جديد من أعدادها على مدى  دورتها السَّابوعيَّة الأولى التِّي كان للعدد الرابِع والثَّمانين الذي صدر مَع اكتمالِها أنْ يفتحها على دورة خُصُوبَة سابوعية جديدة ستتوخَّى، كما نتوقَّعُ بيقينٍ مُؤصَّلٍ، مُتابَعة تجديد كُلِّ جديدٍ من هذا الذي أدركتْهُ، وجلَّت وُجوده، على مدى سنوات تلك الدَّورة، إلَّا ضَوءاً دلاليَّاً أردنا تسليطه على كُلِّ عدد من أعدادها التَّي أحسبُ أنَّها جميعاً مُفْعَمةٌ بأنوارهِ الَّتي تَسْطَعُ لتقولَ حقيقة أنْ هذه المجلَّة/المنبر، قد دأبتْ على الوفاء بِوعودِها، وظَلَّتْ وَفيَّةً لشعارها الذي يُشِعُ بمكتنزات تنويريَّةٍ تُكثِّف في ومضَةٍ نورانيَّة هو إيَّاها إشعاعاتِ كُلِّ الأنوار التي دأبَ بيانُها التَّأسيسي ذي المنارات الأربعِ على بثِّها في أقبية الثَّقافَة العربيَّة “الكهلة” ودياميسها المُعتمة، وفي وجدانات النَّاسِ من كُلِّ الثِّقافات في أربَع جِهات الأرض.

معاكسة التيار

وليس ثَمة من أمر يدلُّ على صِدقيَّة “الجديد”، ونُبْلِ رسالتها التنويريَّة، وجدارتِها، وانفتاحها المستمرِّ على المراجِعة الدَّائمة، والتَّقييم المُتَأَنِّي، والنَّقد الرَّصين، بِأعمَقَ وأسْطَع، من حِرصها، مُذْ لحظةِ صُدور عددها الأوَّل “في خضم زمن عربي عاصف شهد زلزالاً اجتماعيَّاً وثقافيَّاً وسياسيَّاً مهولاً”، على صَوغِ بيانها التَّأسيسيِّ ونشره في النَّاسِ عبر جعْلِه مفتتحاً لهذا العدد، ليكونَ هو المرجعيَّةُ الرَّصينةُ، والْمُلزِمَةُ، والمنارةَ الهادِيّة، التي تحتِكُمُ “الجديد” إليها، وتُشِعُّ في صفحاتِها أنوارها، والَّتي لا مندوحة من الاستهداء بِها من قِبلِ كُلِّ قارئ ناقدٍ سينهضُ بتقييم مسيرة هذه المجلَّة مذ بدء صدورها حتَّى هذه اللَّحظة، وممارسَةِ نقدها بعمقٍ ورصانةٍ، أو سيتوجَّهُ صَوبَ تقييم ونقد أيّ عدد من أعدادها، أو أيّ مجال إبداعيٍّ أو معرفيٍّ أو ثقافيٍّ، أو غير ذلك من المجالات الَّتي دأبت “الجديدُ”، مع توالي الصُّدورِ الشَّهريِّ لأعدادهَا، على تناولها عبر طرح الأسئلةِ عليها، والسَّعي لإجابَتها عن أسئلتها، ودائماً من أكثرِ من منظورٍ تبصُّريٍّ، ووجهةٍ معرفيَّة، وجماليَّة، ومنهج.

رفقة الطريق

واستهداءً بأنوار هذا الضوء، وتأسيساً على صلتي العميقة، بل وشبه اليوميَّة، بمجلَّة “الجديد”، كَمُسْهمٍ في رفدها بدراسات نقديَّة، ومقالاتٍ فكريَّة، ونُصوص إبداعيَّة، وكقارئ مُثَابرٍ، بحرصٍ وشغفٍ، على إمعان النَّظر في ما احتواهُ كُلُّ عدد من أعدادها، وإدراكاً من جانبي لحقيقة أنَّ البيان التَّأسيسي الذي صاغَه الصَّديق الصَّدوق، الشَّاعر المتفرِّد، والصَّحافي المتمرِّسُ، والمُثَقَّف الحقيقيُّ الأصيل، نوري الجرَّاح؛ رئيس تحرير “الجديد”، قدْ أوضَحَ، بجلاء ساطِعٍ لا يُخايُله لُبْسٌ من أيِّ لَونٍ، ليسَ هذا الَّذي سَتَكُونُهُ مجلَّة “الجديد” فحسب، وإنَّما أيضاً وفي السِّياقِ النَّقيض، هذا الذي ليس لها أنْ تَكونه أبداً، فَإنَّني لأستطيعُ القولَ، بثقةٍ عاليةٍ وبلا أدنى مُجامَلَةٍ أو إطراءٍ غير مُستحقٍ أو في غير محلِّه، إنَّ “الجديد” قد جلَّت وفَاءها المُطلقِ لهُوِيَّتها التي بلورها بيانُها التَّأسيسيُّ، وذلك من حيث كَونها “مِنْبراً عربيَّاً لِفِكْرٍ حُرٍّ وإبداعٍ جَديدٍ”، و”موئلاً جامعاً للقاء الأفكار، واستكشاف الأسئلة الجديدة، واحتضان المُغامرة الأدبيَّة والفكريَّة المُقبلَة”؛ أو من حيثُ أنَّها، وفي استجابَة حيويَّةٍ لمقتضياتِ بيانها التَّأسيسيِّ، لم تَكُفَّ عنْ الإلمام “بالجديد المُغامر والمبتكر، أدباً وفكراً”، لتكون هي منبره، ولـ”تؤدِّي له واجب الجديد نحو الأجدِّ”، كما لم تَكُفَّ عن “احتضان الكتابة الجديدة، والتَّسليم بحريَّة الكاتب، وجرأة البحث، وحوار الأفكار”؛ ولا عنْ “حَضَّ الكُتَّابَ على مباشرة سجال حول شتَّى القضايا الشاغلة في الفكر والأدب والفن والاجتماع”؛ وعلى الإسهام الفَعَّال في مسيرة الانتقال من “ثقافة المونولوغ إلى “ثقافة الحوار” ومن “التَّقوقُع إلى الانفتاح”.

وهكذا نَجدُ أنَّ “الجديد” كمنبرٍ حُرٍّ، ومنصَّةٍ عاليَةٍ، وموئلٍ تفاعليٍّ جَامعٍ، قد احْتَفَتْ “بالجديد المكتوب باللُّغة العربيَّة، أدباً وفكراً”؛ وعملت، بأقصى ما استطاعت، على “وصل المقيمين في الأوطان بالمهاجرين عنها”. ولم يَكُن لها من معيارٍ حاسم يُحَدِّدُ ما تنشر أو ما لا تنشُر، وبغض النَّظرِ عن رسوخ أسماء الكتابِ وشهرتهم التَّداوليَّة، أو عمّا ناقضَ هذا الأمرِ أو ماثله، إلَّا “الجدَّة، فكراً مقروناً بالرصانة والنزاهة والجرأة، وإبداعاً يطلُع من أرض المُغامرة، ويتسم بالابتكار”، وهو المعيارُ الرئيس الذي أوجبَ شرطَ “الجودة والموضوعيَّة” مقروناً بشرط “احترام الاختلاف والالتزام بالرِّسالة التنويريَّة”؛ كشرطين ينبعان من المعيار نفسه، ويُوسِّعانِ ما أردت “الجديد” فتْحَه من أبواب، ومَا تَوخَّت بتوسيعَه من مداخَلَ، وما نهضتْ بإنشائه من قنواتٍ ومنابرَ ومنصَّاتٍ، تفضي جميعاً، وبتضافُرٍ مُتفاعِلٍ، إلى فتْحِ أوسَعِ السُّبَل أمام خَطو المثقفين الحقيقيِّنَ للنُّهوض بـ”دورٍ حقيقيٍّ في إنارة الطَّريق، ودحْرِ موجات الظَّلام التي تريدُ إعادة عقارب السَّاعة إلى الوراء، وأسر الحاضر في ماضٍ مُتَوهَّم، واختطاف حركة المجتمعات إلى سكونيةٍ قاتلة”.

رائدة بين رائدات

لوحة: رفاعي رفاعي
لوحة: رفاعي رفاعي

وما كانت “الجديد”، بطبيعة انفتاحِهَا، وصفاءِ تَوجُّهاتِها، والتصاقِها المكين بجوهر هوِيَّتِها، لتستأثرَ لنفسها بريادةٍ لم تَكُنْ لتدَّعيها لنفسها أبداً، وإنَّما هي ترى نفسها، على غرار ما بات يُدركُ الأعمُّ الأغلبُ من المثقَّفين الحقيقيين، والقُرَّاء المتبصِّرين، حقيقتَها المُتجلِّيَة على صفحاتِها، مجلَّةً رائدةً بين مجَّلات رائداتٍ، منها مجلاتٌ توالى صدورها، ومارست وجودها على مدى عقود أو أكثر من قرنٍ مضى، فَأدَّت ما استطاعت أداءَهُ من مهمات رسالتِها التنويريَّة قبل أنْ تقضي، لسبب أو لآخر، نحبَهَا دونَ أنْ تغيبَ عن ممارسَة الحضورِ، بدرجَةٍ أو بِأخْرى من درجات التَّأثير الحيويِّ، عبر ما تركتهُ من إرثٍ مُنير شَمل أعدادها الَّتي صدرت، ومنْها مجلَّاتٌ لم تزلْ حيَّةً وحيويَّةً، ووفيَّةً لرسالتها التنويريَّة التي تنهَضُ، قدْر وسْعِهَا، بأدائها؛ ولذا وجَّهتْ “الجديدُ” الدَّعوةَ إلى المثقفين الحقيقيِّين، إلى الانخراطِ مَعَهَا، ومع ما تبقَّى حيَّاً وحيويَّاً من المجلات التي لم تزل وفيَّة لرسالة التنوير التي أوجبت وجودها، في مسيرة تطوير “وعي نقدي موضوعي وجريء” يتكفَّلُ بِـ”جسر الفجوة الكبيرة بين ثقافَة النُّخَبِ، وثقافَة النَّاس”، وبـ”خضِّ شجرة الثقافَة لِتَطْرح أوراقها الصَّفراء”، وبإضاءة نُصوصٍ تنويريَّة تُسْهِمُ إضاءَتُها في “فتح رتاجات الأذهان” لِتَنْهَضَ هذه الأذهانُ مفتوحَةُ الرِّتاجاتِ بدورها الواجبِ في بلورة وعيٍ تنويريٍّ جديدٍ ينشدُ المُستقبل، ويستجيبُ في نُشدانِه إيَّاه، لنداءاتِه التي توُجِبُ مواجهة التَّحدِّيات الوجوديَّة الَّتي يُرادُ تأبيدَ وُجودها لتستمرِّ في كَبْحِ خطو الإنسانيين من النَّاس، التَّواقين إليه، والنَّاهضينَ، مُفْعَمين بوعيهم الإنسانيِّ المُنير وبِكُلِّ قُواهُم، لإدراكِه.

ماهية متجددة

وبِقَدْر ما كان للبيان التَّاسيسي أنْ يُبَلْورَ ماهيّة مجلَّة “الجديد” وأنْ يُحَدَّد، بدقَّة وجلاءٍ، مُكَوِّنات هُويَّتها التنويريَّة الرؤيويَّة والجماليَّة التي شَرعتُ أعدادها المتوالية في تنزيلها تجلِّياتٍ نَصّيَّة مكتوبَة ولوحاتٍ تشكيليَّة ورسوماتٍ وتخطيطات وصورٍ وأشكالاً تنسيقيَّةً وإخراجاً فنيَّاً على الورق المطبوع، كما في الحيِّز الذي تشغلُهُ في فَضَاء النَّشر الإلكترونيِّ، فقدْ كانَ لَهُ أنْ يُفْصِحَ بالمقدارِ نفسِه، وبدقَّةٍ وجلاءٍ أيضاً، عن ماهيَّاتِ نقائِضِهَا الجذريَّة المُعتِمَة، وعن مُكَوِّنات هُوِيَّاتها التَّخليطيَّة التَّكلُّسيَّةِ المرتبكة والفاتِكة. وإنِّي لأحسبُ أنَّ تقييم مسيرة “الجديد” الَّتي أكملت للتَّو دورة خُصوبتها السَّابوعيَّة الأولى، سيُفصِحُ، بجلاءٍ، عن حقيقةٍ أنَّها قد تَمكَّنت، بحكمةٍ عميقة واقتدارٍ لافتٍ، ليس من تفادي أنْ تكونَ ما لَمْ يَكنْ لها، وما لن يكونَ لها، أنْ تَكونَه، فحسب، وإنَّما من الاستمرار الدَّؤوب والمُثابر في مواجهَةِ التَّحدِّياتِ الَّتي يُمِلْيَها نقيضها الجذريِّ بشتَّى تجلياتِه.

وهكذا نجدُ أنَّ “الجديد” الَّتي أرادت لنفسها، وبحسْمٍ قاطِعٍ، ألَّا  تكون منبراً يُعِيدُ القديم، أو يُبشِّرَ به، والَّتي الزمت نفسها بَأنْ تقطَعَ، قطعاً صارماً ونهائيَّاً، “مع أخلاقيات العُصَب والزُّمر والجماعات المنغلقة على نفسها”؛ وبِألَّا “تكون مجلَّة تيار واحدٍ في الثقافة أو شلَّة أدبيَّة أو فكريَّة واحدة”؛ وبِألَّا تذهبَ، تحتَ أيّ ظرفٍ أو شرطٍ، إلى تقسيم “الثقافة العربيَّة إلى مشرق ومغرب”، وبِألَّا تقصر نفسها، وتطلُّعَها، على “إقليم أو جغرافية ثقافيَّة”؛ وبِألَّا “تكون.. حكراً على الأسماء الشهيرة المعروفة”؛ قدْ نجحتْ في الَّا تَكونَ ما لَمْ يُرِدْ لها وعيُها الإنسانيُّ المُتنوُّرُ، ومُحدِّداتُ ماهيَّتها، وخصائصُ هويَّتَها، ومُكونات رؤيتها المستقبليَّة للعالم، أنْ تَكونهُ، وذلك بِقدْر نَجاحها اللَّافت في تجلية حُضورها الحيويِّ الفعَّالِ، في الحياة الثقافيَّة العربيَّة، ولدى ناطقي العربيَّة في شتَّى أرجاء العالم، بِوصفها المجلَّةِ الرائدة الَّتي بلورتْ رؤيتها لذاتها، وللثَّقافَة التَّنويريَّة الَّتي تنتمي إليها، وللعالم الإنسانيِّ الحُرِّ الذي تنشدهُ، فأدركت هذه الرَّؤيَة، وبثَّتْها في النَّاسِ، إذْ جسَّدت في مدارات وجودها الحيويِّ، المتحقِّق في دورةِ خُصوبَةٍ سابوعيَّة أولى تَضُمّ ثمانينَ وأربَعة أعدادٍ، تجليات رسالتها المسكونَة بماهيَّتها، وجَوهر هُوِيَّتِها!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.