داخل الأرض ووراء الزمن

مقدمة
الأحد 2022/05/01

ليس من طريقة واحدة لتناول الأعمال القصصية الكاملة لـ ج. ج. بالارد. فهي بلغت حدّاً من التنوع يجعل من العسير احتواؤها في قراءة واحدة. ويحسن لدى الكلام عن نتاجه الضخم استعارة تعابير من عالم الجيولوجيا، وعلوم أخرى مختصّة بالظواهر الطبيعية؛ يحسن استخدام مصطلحات مثل الطبقات أو الحقب.

لعلنا، إن أردنا التمهيد بإيجاز لتلك الحقب في مسيرة بالارد وتلخيصها في فقرة واحدة، فنستطيع قول التالي:

في البداية كانت الحقبة التي يمكننا تسميتها، من باب الاختزال المفيد بالخيال العلمي: حيث خاضت طبيعة العالم تحوّلات جمّة، وغدت تلك الطبيعة تكنولوجيّة الطابع بصورة غريبة. في هذه القصص التي يجري أحداث العديد منها في نسخة محرّفة من “بالم سبرينغز” الأميركية، يجد القارئ منحوتات صوتيّة، وزهوراً مغنّية، بين عجائب أخرى. أما في الحقبة الثانية، فإنّ التعديلات التي كان بالارد يستمتع بإدخالها على العالم الطبيعي، صارت أوسع نطاقاً: فقد أصبحت تؤثر على شروط الكينونة نفسها: صارت مادّة عمله تتكوّن من الزمان والمكان. وفي الحقبة الثالثة، غدت مخيّلته أكثر فأكثر نزوعاً نحو نهاية العالم، فأضحت مفعمة برؤى الكوارث البيئية. وجميع هذه الحقب الممتدّة من العام 1956 إلى العام 1992 تحتوي على توليف مكثّف ومحموم. وفي مرحلة ما من نهاية الستينات من القرن الماضي ثمة حقبة جديدة وأخيرة: حيث تقع التعديلات الكونيّة في جوّ من الحداثة المتأخّرة، مع بروز اقتصاد الكمبيوتر، والإرهاب والسياسات الدكتاتورية، والبورنوغرافيّة الصريحة. وهذا المنظر الطبيعيّ هو الذي شكّل الحقبة الأخيرة والأطول ضمن قصص بالارد، والتي نرى فيها نزلاً مشهورة متهدّمة، ورحلات إلى الفضاء ومحاولات اغتيال.

بكلمات أخرى، تشكّل قصص بالارد كتلة متكاملة لا يشابهها شيء مما كتب في الأدب البريطاني في القرن العشرين. وهذه الكتلة المتكاملة فريدة من نوعها.

2

في مقابلة صحافية أجراها جورج ماكبث مع بالارد في العام 1967، حاول هذا الأخير أن يعرّف الفارق بين كتاباته وكتابات معاصريه. فيقول: “إن السواد الأعظم مما لا يزال يكتب، هو استعاديّ بطبيعته. فهو مهتمّ بأصول التجربة، والسلوك، وبتطوّر الشخصية على مرّ فترة مديدة من الزمن. وهو يفسّر الحاضر بلغة الماضي، ويستخدم التقنيات السردية، عبر السرد الخطّي الذي تظهر فيه الأحداث إلى هذا الحدّ أو ذاك من خلال التسلسل الزمني الذي يتوافق معها. أما حين يلتفت المرء إلى الحاضر – ما أشعر أنني قمت به في القصص التي كتبتها هو إعادة اكتشاف الحاضر بنفسي – فأعتقد أنّ الكاتب يحتاج إلى تقنية غير متّصلة زمنياً، ببساطة لأنّ حياتنا اليوم لا تعاش وفقاً للنمط الخطّي المتّصل. فهي أميل إلى الكمّ أكثر من السابق؛ دفق من الأحداث العشوائية التي تقع”.

تتمتّع هذه النظرية الضخمة بقدر كبير من السحر، لكنني لست واثقاً من صحّتها. أو على الأقلّ، قد تكون هذه النظرية صحيحة، لكنها مجرد خطوط عريضة مؤقّتة. فالقارئ المجتهد سيحتاج إلى التفكير في بعض التاريخ الأدبي الرصين.

فقصص بالارد لا تتبع بأيّ شكل من الأشكال خيطاً واحداً مهيمناً لكتابة القصة القصيرة، وأعني تحديداً التقليد الواقعي المتهكّم الذي أرساه كلّ من تشيخوف وموباسان. عوضاً عن ذلك، هذه قصص فيها جرعة كبيرة من الخيال والفانتازيا. أفضل القصص القصيرة، مثلما لاحظ بالارد ذات مرة، هي قصص “بورخيس وراي برادبوري وإدغار ألن بو”. وبالمثل، فإنّ قصصه تصوّر عوالم تمتدّ إلى ما هو أبعد من حدودها الطبيعية. لكنّ إيجاد اسم لهذا التقليد ليس بالحلّ الأمثل أيضاً. كتب إيتالو كالفينو ذات مرة مقالة عن الأدب الفانتازي، وعرض التعريف التالي لفلسفة هذا الأدب الكامنة:

كتب

“إن إشكالية واقع ما نراه – سواء أكان ما نراه الأمور الاستثنائية التي قد تكون مجرد هلوسات من إنتاج عقولنا، أو الأشياء الاعتيادية، التي ربما تخفي تحت المظاهر الأكثر ابتذالاً، طبيعة ثانية أكثر إثارة للقلق، وأكثر غموضاً ورعباً – هي جوهر الأدب الفانتازيّ، الذي يكمن أعظم تأثيراته في المراوحة بين مستويات الواقع المتعدّدة”.

وفوراً يواجه القارئ الحصيف مشكلة. ربما بالنسبة إلى إدغار ألن بو، بكلّ تأكيد قد يكون هذا تعريفاً صالحاً. لكنه لا يساعد البتة على التفكير في عوالم بالارد المبتدعة.

وحينئذ ربما ينبغي أن يتوقف ذلك القارئ المثالي عن العموميّات ويفكّر بمثال مخصوص.

3

تحمل إحدى أعظم قصص بالارد عنوان “أصوات الزمن”. وأسلوب هذه القصة ليس بأسلوب الطليعة الأدبية المعتادة. فصفحاتها الأولى تتضمّن حواراً يسهل نسبه إلى الشكلية المستنزفة (سأله: كيف تمضي وقتك يا روبرت؟ أما زلت تذهب إلى مختبر ويتبي؟”). بالحكم من الأسلوبيّة، يبدو النمط هو النمط الاعتيادي للواقعية المستهلكة (“من خلف منضدته، ابتسم بودّ لباورز، متسائلاً عما يقوله له”). ومع ذلك، فإنّ القارئ الذي يبحث عن قصص معتادة وخلفية قصصية مألوفة سرعان ما سيجد أنّ المنظورات السردية التقليدية قد تبدّلت بصورة خفيّة. بعض أسماء الشخصيات غريب، مثل كالدرن وكوما. في حين أن القصة الخلفيّة التي يشار إليها وهذه إحدى تقنيات بالارد الدائمة، مليئة بالغموض: ليس فقط التفاصيل المعزولة عن أيّ سياق (“معدّات التنقيب عن الذهب المهجورة قبل ثمانين عاماً”)، لكنْ أيضاً الدقّة الصريحة للمفردات، مثل “أبراج الكاميرات” الغريبة، و”الطبقات الزجاجية المتعدّدة”، وتعقيد التعابير العلمية التي تتجاوز الافتراض الاعتباري لمعارف القارئ المعتادة في حياته اليومية “ما حدث هو أنّ شبكة الجينات البروتينية كانت تولّد الطاقة بالطريقة التي يجمع فيها أيّ نسيج الطاقة بفعل الاهتزاز…”.

إنه مستقبل يمكن أن يكون حاضراً أيضاً؛ فكلّ شيء مشوّش ومعنى القصة يكمن في سبب هذا التشوّش. الحبكة المباشرة تبدو متمحورة حول الاكتشافات الغريبة التي كان ويتبي عالم الأحياء، يقوم بها في مجال تفعيل الجينات الصامتة. زميله باورز، يحتضر، وفي الوقت المتبقّي له يحاول أن يفهم دلالات تجارب ويتبي، حيث المستقبل الخامد للعضو يبعث فيه الحياة. ويبدو أنّ الجواب متضمّن في عمل غريب قام به ويتبي في الصيف الذي سبق انتحاره: “وبتلك الأثلام الغريبة التي حفرها عالم الأحياء، بصورة عشوائية على ما يبدو، على أرضيّة حوض السباحة الفارغ، بعمق ثلاثة سنتيمترات وطول ثمانية أمتار، والتي تتشابك على نحو يشبه رسم الأحرف الصينية”. في نهاية المطاف يقرر باورز بناء نسخة من رسم ويتبي، في الخرسانة، في وسط بحيرة مالحة. حين تنتهي يتبيّن أنها ماندالا تمثّل رسماً مصغّراً للكون. ويمشي باورز إلى وسطها، “في السماء فوقه، سمع صوت النجوم؛ مليون صوت كوني تحتشد في السماء من أفق إلى آخر، في قبّة زمنية حقيقية “.

ذلك أنّ ثيمة هذه القصة هي الإنثروبيا أو القصور. وبالتالي فإنّ منظورها لا يتوقّف عند قصور الجسد البشري، بل أيضاً النجوم المحتضرة، والكوكب المحتضر. ولهذا السبب تمثّل الماندالا الغريبة أساس هذه القصة. بينما يحتضر باورز فإنّ “صورة الماندالا، مثل ساعة كونية، ظلت ثابتة أمام ناظريه”.

4

لا غرو إذن أن يشعر بالارد أنه يكتب أبعد من المنظور النفسي الاستعادي المعتاد. ضمن قائمة كتبه المفضلة، ثمة سوابق أدبيه متوقعة له، مثل القصص القصيرة لهمينغواي، وأليس في أرض العجائب، والغذاء العاري؛ لكنّ ثمة مصدرين يبرزان بسبب تجريديتهما الغريبة: تسجيلات قمرة القيادة المستخلصة من صناديق الطائرات السوداء ودليل هاتف لوس أنجلس. فقد كتب ذات مرة أنّ ذلك الدليل هو الكتاب الوحيد الذي سرقه، ثم أضاف: “اللافت في هذا الدليل هو الصورة التي يقدّمها عن الحياة الحقيقية في لوس أنجلس، وهي صورة مختلفة تماماً عن العالم المبهرج المتمثل في عروض الأفلام الافتتاحية والنجوم والمخرجين. ثمة محللون نفسيون مدرجون في الدليل يفوق عددهم السبّاكين، ومكاتب متخصصة بالمواعدة أكثر من الأطباء، وصالونات للاعتناء بكلاب البودلز أكثر من الأطباء البيطريين. مثلما توفّر الإعلانات المبوّبة في الصحف صورة عن القراء، فإن دليل الهاتف في أيّ مدينة كبرى يوفر صورة عن داخلها الحقيقي. دليل لوس أنجلس أغنى من حيث التجربة الإنسانية من كل روايات بلزاك”.

ما هي الشخصية؟ أو ما هو الدافع؟ ما زالت الدوافع البشرية الاعتيادية موجودة في قصص بالارد، إنما فقط كحنين ودائماً في الخلفية، مثل النساك أو المدن الجبلية في المناظر الطبيعية القديمة. وسبب هذا الإقصاء هو ظاهرة أطلق عليها بالارد اسم موت التعاطف. فالقرن العشرون خلق فظاعات على نطاق واسع، ليس فقط هيروشيما والهولوكوست، بل أيضاً عوالم الكمبيوترات الافتراضية والمشاريع المالية الضخمة، مما جعل الفئات الإنسانية القديمة غير ذات شأن. وليس مهماً الجدل حول صوابية هذه النظرية. فالمهم أنها سمحت لبالارد باختراع سرديات ذات أصالة مذهلة. في نثره التقليدي بصورة غريبة، وصف كيف تبدو الشخصية عندما تختفي كلّ الشكليات التقليدية.

بدلاً من المواضيع، لدى بالارد منظومة من المجازات المتكرّرة. وهكذا في “أصوات الزمن”، يكتشف القارئ نسخاً معاداً الشغل عليها من قصص سابقة: الهوس بالصوت والأمواج الصوتية الذي نجده أيضاً في “ابتسامات فينوس” أو في “جمع قمامة الضوضاء”؛ الكواكب الجديدة في “أرض الانتظار”، الأرق في “المطبق 69”. ولكنْ في كلّ حالة من هذه الحالات، يعاد ترتيب المجازات لخلق قصة أصلية جديدة. يمكن تسمية هذه المنظومة بالأسطورية، لكنني أعتقد أن الحقيقة أغرب من ذلك. ربما يكون أكثر دقة القول: أساس السرد السابق كان الذات المعزولة وغراباتها المتعدّدة المتأرجحة بين السياسة والأنانية، أما في قصص بالارد فيتبيّن أن الأبطال أكبر بكثير من ذلك فهم يجسّدون الإكراهات المستحيلة والمتجاهلة للمجتمع، أو البيئة. ذلك أنّه هكذا، بحسب إعادة التعريف الخاصة ببالارد، تعيش الذات المعاصرة اليوم: دوماً ضائعة وسط قطيع أو حشد، ولهذا السبب فإنّ مقارنته مع بورخيس أو كافكا أو إدغار ألن بو ليست مفيدة تماماً. ذلك أنّ نسيج كتابته أكثر معاصرة بصورة متعمّدة منهما، وبالتالي فإنه مطعّم دوماً بإيقاع متهكّم يكاد لا يُرى. وقد اشتهر عنه زعمه أنه لا يكتب عن المستقبل بل عن “الحاضر الرؤيوي”، وإلحاح تلك اللحظة الراهنة هو ما يجعل كتاباته الميتافيزيقية مثيرة للاضطراب. أفكّر أحياناً أنه لو كان يشبه أيّ كاتب آخر، فهو الرؤيوي العظيم جول فيرن. فعند الكاتبين تجد أنّ المتطوّر والحديث، من غواصات ومركبات فضائية، وأشعّة سينية، ونظرية الجينات، يتألّق بدلالة أكبر بكثير وأكثر شؤماً.

كلّ كاتب روائي أو قصصي يخترع الأمكنة التي يصفها، سواء أكانت ظاهرياً حقيقية أم لا. “لقد استغرقني الأمر أربعين عاماً لكي أخترع روسيا وأوروبا الغربية”، يكتب نابوكوف في كلمته الختامية لرواية لوليتا، “والآن واجهتني مشكلة اختراع أميركا”. وبالارد هو أحد مخترعي الأمكنة العظام. فهذا المحلل الشرس للنظام التوتاليتاري، كان أحد الخبراء بالطبيعة التوتاليتارية للسرد: كيف تفرض تلك الطبيعة شروطها الخاصة بسهولة. بصورة مستبدّة يخترع بالارد اختصارات كلامية أو يشوّه المفردات، وهي تقنية واضحة تماماً في أول قصة في المجموعة “بريما بيلادونا”: ” كان قبل مجيئه إلى فرميليون ساندز، أميناً في معهد موسيقى الحديقة الملكية للنباتات – كيو، الذي شهد زراعة أولى الزهور الصائتات…”

لكنّ نجاحه في اختراع الأمكنة صادم للغاية لأنه دائماً، بالتوازي مع ذلك، يصف سكننا نحن. إنه كاتب للدافع الجماعي، وللشخصية الجمعية، تحديداً لأنّ الوجود في القرن العشرين كان في طور تحويل نفسه إلى فضاءات أكبر: ليس فقط ظروف الطبيعة العامّة، بل أيضاً غيوم الإعلانات المنتشرة، وسوق الأسهم، والواقع الافتراضي. إنه الواصف العظيم للمرجات في عصرنا، وللسدود والمساحات في الفضاء التجريدي الذي يشكّل الضواحي الشاسعة. مثل هذا التجريد اليومي، الذي تغيب فيه أيّ تفاصيل، هو موضع بالارد المفضّل، سواء أكان متجسّداً في واجهة بحريّة خرسانية مع أشجار البلميط، أو في كوكب آخر، أو في مختبرات المستقبل حيث التطوّر التكنولوجي.

من المهم الإشارة أيضاً إلى أنّه رغم عالمية المكان في قصصه، من الشقق في كاليفورنيا إلى كان الفرنسية، فإنّ الموقع الحقيقي هو دوماً بريطانيا على نحو ما. فكّر فحسب في “أصوات الزمن”: تلك الفوضى كونية بالطبع، لكنها أيضاً الفوضى التي اكتشفها بالارد في ضواحي ما بعد الحرب العالمية في إمبراطورية ميتة. بريطانيا في واقع الأمر، كانت أكثر بلد حداثي على وجه الأرض، تحديداً لأنها كانت قائدة العالم في القصور، وبالتالي قائدة مشاعر الغيرة المكبوتة، والحقد، والكآبة والغروب والأبنية الخرسانية. الديستوبيا! لتراها ليس عليك سوى أن تنظر حولك: بين الجسور ومرائب السيارات ذات الطوابق المتعدّدة تحت المطر.

في قصصه الأخيرة، بات هذا الشكل الغريب من السياسات الرؤيوية، أوضح فأوضح، منتجاً الروايات الأخيرة، بعيداً من التسلسل الزمني في هذه المجموعة: دراسته للواقع الفائق في “ليالي الكوكايين” و”كان الخارقة”، ثم الظلمة البورجوازية في “أهل الألفية” و”وصول الرب”. ومع هذا تحقّقت نقلة تقنية تمثّلت في اهتمام الكاتب التدريجي بنحت المفردات الذي ميّز قصصه المبكرة، ليصبح لديه اهتمام أصرح بالتحريفات اللسانية الثقافية العامة. أصبح بالارد مقاول السجلات الرسمية: قصة يمكن أن تكون تمريناً بسيطاً على الأسلوب، مثل قصة “لماذا أريد مضاجعة رونالد ريغان”، التي كتبها في 1968، بعد فترة وجيزة من انتخاب ريغان حاكماً لكاليفورنيا. القصة هي كرنفال من المفردات: الطبية، النفسية، استطلاعات الرأي، وقد حشيت بسعادة بالفانتازيا المحظورة: “وقد أُنتجت مقاطع سينمائية تظهر ريغان في ممارسات جنسية متعدّدة (أ) خلال الخطب الانتخابية (ب) في تصادم السيارات الخلفية مع سيارات عمرها عام وثلاثة أعوام (ج) مع ماسورة العادم (د) مع الأطفال الفيتناميين ضحية الاعتداءات الوحشية”.

مع هذا النوع من تكتيك الصدمة، وفّر بالارد احتمالات جديدة للقصة القصيرة: أبعد من السيكولوجيا المعقّدة للنموذج التشيخوفي.

كتب

5

إذ بدلاً من ذلك، كان النظام هو موضوع بالارد: مادياً، الأماكن المدينية الواسعة وطرقاتها السريعة، وعقلياً، الداخل الشاسع للذهانية والعصابية. في قصة رونالد ريغان المذهلة، أدرك بالارد للمرة الأولى، كيف تتقاطع الانشغالات المنفصلة في تلك الحقبة، وحتى إنها متواطئة بصورة متبادلة: العوالم الافتراضية للسينما، والسياسة، والتحليل، جميعها أشكال تنمّ عن العنف نفسه. ولهذا السبب فإنّ أسلوبه الأخير أكروباتي من حيث الإيقاع. كلّ نظام مغلق كُشف عنه كنسخة من نظام آخر.

إحدى آخر القصص، “هدف الهجوم”، كتبت في 1984. كالعادة، كانت لها مسحتها من السرد (“الأحداث تجري بسرعة”). لكنْ في قصته عن محاولة الاغتيال يمكن للقارئ تمييز جميع أنماط الهوس لدى بالارد وهي تتفاعل مع بعضها البعض كأنما داخل مختبر مصغّر فائق الحداثة: الإيقاع الخارجي – بريطاني وبورجوازي – يتضمّن طاقات عنيفة، حيث العائلة المالكة، الرئاسة الأميركية والسفر عبر الفضاء هي سبل لتشفير شكل مسعور من الباثولوجيا.

لكنْ لم لا؟ الماندالا هي صورة العالم، لذا فعلى نحو ما كلّ قصة هي ماندالا أيضاً. وهو ما يعني، بحسب مقتضيات فنّ بالارد، أنّ كل قصة هي ساعة كونية أيضاً، تعدّ الدقائق عكسياً وصولاً إلى الكارثة الأخيرة.

لندن، 2014

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.