دردشة صباحية مع فنجان قهوة

الاثنين 2017/05/01
لوحة: شادي أبوسعدة

« ثم أنزلوا الشاب من الباص وجرّوه من قميصه، وأوقعوه أرضاً، وثبتوه من كتفيه، وجزوا عنقه أمام الجميع».

كنت أتطلع إلى صينية القهوة التي أحضرها الفرّاش للتو، لمحت أحد الفنجانين «بوجه» والآخر بدون، انتظرت أن يختار هو فنجانه أولاً، بما أنه ضيفي في مكتبي، اختار الأقرب إليه دون تفكر، وكان بوجه. فكرت «لا بأس، بإمكانه الحصول على هذه الرفاهية على الأقل، يكفي أن الكثير من أقاربه تم جزّ رقابهم وأصبحوا بلا وجوه».

كان يحكي لي عن أخبار داعش في بلدته السورية التي فرّ منها مع أبنائه. تصلهم الأخبار باستمرار عن أقارب لهم وقعوا ضحية هذه المجموعة البهيمية المتحولة من البشر. اليوم يحكي لي عن شاب دفع بدل الخدمة العسكرية لحكومة النظام لاستخراج جواز سفره واعتبرته داعش لذلك خائنا استحق الذبح.

أخذ يرتشف فنجان قهوته وهو يصف التفاصيل، كما وصلته من إحدى قريباته المصاحبات للشاب في رحلته إلى الداخل السوري، أرض العجائب والأهوال، كان يقول إن صوت السكين وهي تجز عنق الشاب كان قوياً، وأنها توقفت في المنتصف لعدم حدتها، أتخيل كيف يمكن جزّ عنق إنسان، ليس بالأمر اليسير، سيحتاج قوة مهولة، حكى عن كيف استفرغت قريبته وكل النساء في الباص ما في أمعائهن، إحداهن استفرغت حتى جنيناً كانت حاملاً به، والآن فنجان القهوة صار يطفو عليه ذباب، وبقع دم، واستفراغ، وأجنّة ميتة، وأنين رجل يجزون رقبته ظهراً والشمس ساطعة كان ينوي أن يتمشى تحتها قليلاً، يجزّونه بسكين غير مسنونة، ولم أرد أن أشربه.

بدت ذقنه غير حليقه. وجهه متعب ومترهل من طول السهر. «هل أنت بخير؟» أسأله بغباء الاعتيادية.

«الحمد لله، نحن بخير، على الأقل لدينا سقف، وأمان، وعمل، وقهوة نشربها كل صباح معك»، يقول وهو يرفع فنجانه ناحيتي ويرتشفه، يضحك، وأضحك كمن انتهى من الحياة وعاد ليتفرج عليها.

أستفرغ كل ليلة على صوت التفاصيل، أبحث عن مبيد شياطين، الشيطان في التفاصيل، من قال إننا نريد أن نعرف كيف مات الناس، المهم ماتوا. وتم دفنهم وهم الآن بخير، لا يهم كم تعذبوا قبلها، المهم هم الآن بخير، علينا أن نواصل، بشكل أو بآخر، بأدنى حد من الإحساس. الأقطان الصغيرة المكورة التي توضع في الآذان لم أجدها في الصيدليات ومحلات السوبرماركت، قالوا عليها إقبال شديد. الأصوات مزعجة، صدى إنسان يُذبح، صوت لا يمكن إخماده. سنحتاج سدّادات مطاطية، ربما حواجز اسمنتية نسكبها داخل الأذن.

في اليوم السادس عشر بعد العام الخامس من عمر الثورة، وصلنا بريد إلكتروني يعزّي في وفاة زميلنا السوري. يقال إنه سقط مغشياً عليه من على شرفة منزله في أبوظبي في الطابق الخامس والعشرين، سقط أرضاً ومات. يقال إن رأسه لفّ قليلاً يمنة ويسرة كمن يُهيئ رقبته لوضعية ما، ثم قال «يا مسهّل» وتوكل إلى القاع. يقال إنه كان بخير، فقط كان عليه أن يسقط بسرعه ليخمد الأصوات في رأسه.

في المكتب صرت أنتظر أيضاً أن يختار فنجان قهوته، وأمد يدي إلى الآخر بدون «وجه». أقول من حق رجل تهشم رأسه على أرض صلبة الاستمتاع برفاهية فنجان قهوة جيد على الأقل، أتأمل الفنجان مطولاً بانتظار أن يمد يده، يمضي الوقت، يبرد الفنجان، ولا أشربه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.