دون كيخوته شاهد النهايات ونبي البدايات

الخميس 2022/09/01

في مقدمة روايته الرائدة دون كيخوته دي لامانتشا يحدثنا المغامر الشاعر غير المهم، وكاتب القصة الذي لم يضع بصمة حتى ذلك الحين في الأدب الإسباني، والمسرحي الذي أراد أن ينافس عملاق المسرح الإسباني لوبه دي فيغا، فقصر.. يحدثنا ميغل دو سيرفانتيس عن فارس مغامر يسمّيه دون كيخوته.

ولكنه بعد عدة فصول يقدم لنا بها الفارس الذي سيدخل التاريخ الأدبي لبني البشر صورة عن الحالم بإقامة العدالة، بيدين نحيلتين وفرس عجفاء، ودرع من صفيح، وتابع أكرش على حمار ليصبح فيما بعد رمزاً لكل الحالمين بإعادة السلام إلى الأرض، والقضاء على الظلم والفساد والجشع والدموية.

في مقدمة روايته هذه، وبعد الحديث عن تسلح دون كيخوته الساذج، وعن اصطناعه الذهني لأميرة يخدمها، ثم عن نجاحه في القضاء على المردة المتنكرين على هيئة طواحين الهواء، هذه الحرب التي ستصبح في القرون الأربعة التالية رمزاً لكل المعارك الخائبة التي يقوم بها الحالمون وهم يظنون أنهم يخدمون قضية نبيلة، غير عارفين أن القضية النبيلة في مكان آخر، وليس في طواحين الهواء.

في مقدمة روايته هذه يفاجئنا سيرفانتيس بحكاية صادمة هي العثور على مخطوطة عربية في درب القناة في طليطلة كتبها مؤرخ عربي اسمه سيدي حامد بينجيلي، وسأقبل بترجمة بينجيلي ببن علي.

هذه المخطوطة تتحدث عن مغامرات دون كيخوته في حربه ضد الظلم والفساد، وعن سعيه لإعادة العدالة والسلام إلى الأرض متخذاً هيئة فارس من فرسان عهود خلت أصرّت الكتب الشعبية على تخليدهم أبطالاً للسلام، والعدالة، وقهر الظلم.

هذه الحيلة الروائية التي تتبدى لنا اليوم ساذجة، فقد استخدمها العديد والعديد من الروائيين في كتاباتهم منذ ذلك الحين لإضفاء المصداقية على كتاباتهم، وأنها ليس محض اختلاق روائي Fictional، بل هي حقائق مؤرخة لم يعثر عليها المؤرخون والواقعيون، وها أنذا ميغيل اكتشفتها، وأقدمها لكم.

معظم إن لم أقل كل الباحثين والنقاد اعتبروا ادعاء سيرفانتيس أن مؤلف الرواية سيدي حامد بن علي حيلة روائية، أما أنا فسأفترض أن سيدي حامد بن علي شخصية حقيقية، وسأختلف مع النص قليلاً حين أقول إن سيرفانتيس لم يعثر على المخطوطة في طليطلة، ولكنه عثر على سيدي حامد بن علي في الجزائر حين كان أسيراً هناك بعد معركة كورفو.

في تلك السنوات الخمس (1575 – 1580) اجتمع سيرفانتيس مع سيدي حامد بن علي سليل الغرناطيين الإسبان المسلمين، الأندلسيين الذين أخرج آباؤهم من أرض آبائهم مع من أخرج بعد سقوط غرناطة ليبدأوا رحلة الحلم والبكاء على أرض الميعاد والجمال التي طردوا منها.

في تلك السنوات الخمس كان سرفانتيس أسيراً، ولكن لا توثيق لدينا عمّن كان سجّانه ومالك رقِّه لذا يحق لي أن أدعي أن الاسم العربي الوحيد الذي ذكره سيرفانتيس في روايته هذه وكان سيدي حامد بن علي كان سجّانه، ومالك رقه في انتظار الفدية، وسيدي حامد هذا كان صديقه المثقف الذي وجد نفسه محشوراً معه في فضاء واحد يتذكران أرض السمن والعسل التي أقامها الأمويون في الأندلس لتكون جنّة العالم الديمقراطية المتسامحة في عالم كان يضج بالتعصب والقسوة والدماء وتمجيد القتلة المسمين بالفرسان والمحاربين.

في تلك المحاورات التي استمرت خمس سنين وتبادل فيها سيدي حامد بن علي مع ميغيل دي سيرفانتيس الأدوار أكثر من مرة، فمرة كان سيدي حامد يلعب شهرزاد وكان سيرفانتيس يلعب شهريار، ومرة كان سيرفانتيس يلعب شهرزاد وكان سيدي حامد يلعب شهريار. في تلك السنوات تحدث سيرفانتيس عن إسبانيا التي قدم منها، البلد الكبير، بل ربما الأكبر في أوروبا، وربما العالم عسكرياً، وثروياً في ذلك الحين، فلقد استنزفت إسبانيا معظم ذهب أميركا إليها وبذا صارت الدولة الأغنى، فترف نبلاؤها وبورجوازيوها، وبلاطيوها، ترفوا حتى بنوا القصور شديدة الفخامة والترف، ترفوا حتى غرقوا في كل الملذات الحسية الممكنة، ولكنهم لم يصبحوا أبيقوريين كاملي الأبيقورية لأن هذا الترف كان مصحوباً بتشدد الكنيسة المنتصرة على العرب والمسلمين، فهي التي استنجدت بالقوى الأوروبية العائدة من فلسطين لتحارب معها ضد المسلمين، وانتصروا، وكان لا بد للمنتصر (الكنيسة) من أن ينال حصته من هذا النصر، وهكذا ظهرت محاكم التفتيش، النقطة الأشد عتمة في تاريخ إسبانيا، وأوروبا.

ما بين هذين القطبين، الترف الأسطوري، والتشدد التفتيشي الأسطوري عاش الإسبان الذين ستظل هذه الازدواجية تحكم مزاجهم لقرون مقبلة حتى تفقد إسبانيا تقدمها الثروي، فلقد تقدمت أمم أخرى ستمتلك ثروة العالم الجديد، وستحوله إلى صناعة وتجارة وتثمير، فيلجأ الشعب إلى التمسك بثوابت الكنيسة حتى بدايات القرن العشرين وفترة الجمهورية.

شهرزاد السيرفانتيسية سيروي لشهريار سيدي حامد بن علي عن ضيقه من هذا العالم الإسباني الذي خلفه وراءه، ليس هذا فحسب، بل سيروي لسيدي حامد عن الأدب الذي يغمر الشعب الإسباني أكثر من الشعوب الأوروبية الأخرى، أدب سير الفرسان العظماء المقاتلين الذين سيهزمون المردة والجان والكفار، وينتصرون للضعفاء والمساكين.

ولو ملك سيرفانتيس قوة قراءة المستقبل لحدثه أن هذا الأدب سيكون أدب المستقبل المعتمد من القوى المسيطرة على المجتمع تحت اسم “السوب أوبرا” في مسلسلات التلفزيون، أو “البست سللر” في روايات المغامرات والمحققين والشرطة فرسان هذا الزمان في انتصارهم على العصابات من المردة والشياطين والمافيا ومهربي المخدرات.

سيتحدث سيرفانتيس عن حلمه بقيام أدب حقيقي يرتكز إلى شهوة للحفر عميقاً في النفس البشرية وصولاً إلى خفاياها وآلامها وإحباطاتها، فالأدب الجميل هو أدب هزيمة الإنسان أمام قدره، وليس انتصاره، فلا انتصار للإنسان أمام القدر.

أما هذه المسلسلات من سير الفرسان، فليست سوى “سوب أوبرا” يتمنى أن يستطيع يوماً السخرية منها، وفضحها وإسقاط بهارجها سعياً وراء الجسد النحيل بارز العظام للحالمين بيوم العدل.

في تلك المحاورات سيتحدث سيدي حامد بن علي عن سير الفرسان العظماء، الأبطال، محققي العدل والفرح للمجتمع على الجانب الآخر من المتوسط، فيحدثه عن سلطان مملوكي اسمه الملك الظاهر جاء بكتّاب عصره، وطلب منهم جعله بطلاً للمستقبل، وليس للحاضر فقط، فتطوّع آخرهم بجعله بطلاً حتى للماضي، فكتبوا سيراً ثلاثة له، سيرة ابن عبدالظاهر، وسيرة ابن شداد، فيرفضهما، وتختفيان، وسيرة الدينوري فيقبلها على أن يراجعها فصلاً فصلاً، فيوافق، ويعدّل النص مرة إثر مرة ليكون حاكم وحلم المستقبل، وليس الماضي فقط، يحدثه عن سيرة ملك يمني انتزعت من الماضي، واصطنعت للحاضر اسمه سيف بن ذي يزن، سيحدثه، ويحدثه؛ ثم يتساءل سيرفانتيس فما الذي يغري أمة ما بتحويل إبداعها كله إلى هذا الهراء المصطنع في بطل موعود بالنصر يتعاون الإنس والجن على مساعدته على الأشرار، ما الذي يغري أمة مّا بتحويل كتابها إلى طبالين في حضرة فارس يصطنعونه، له السحر، وله النبوءات، وله الثروات وله النصر.

وسيقول سيدي حامد: إنها شهوة المقهورين لرؤية يوم العدل والنصر واستعادة الكرامة في زمن… انتصر فيه القتلة والعسكر على أجمل ما في الإنسان، وحولوا كل طموح فيه إلى حلم على الورق.

سيتساهران طويلاً وسيثرثران كثيراً، وخمس سنوات عمر طويل لمن لا يجد محدثاً إلا مرآته، وتوأمه، وحين يطول الحوار سيستخرج سيدي حامد بن علي كنوزه السرية، فيحدثه عن الجنة الرائعة التي عاشها بنو البشر في الحقبة الهلينستية بعد غزو الإسكندر المقدوني للشام، تلك الغزوة التي لم تكن غزوة سيوف ورماح وقتلة، بل كانت محمولة على أكف الرسالة الجديدة الفلسفة الأرسطية. وسيحدثه أن الشاميين الذين عرفوا ما لتلك المرحلة من تأثير عليهم قد خلدوها وخلدوا الإسكندر، فهو الذي أقام السور العظيم ما بين البشر وبين الهمجية الحيوانية. وسيتابع الإسلام فيما بعد تكريم الإسكندر هذا حتى ليجعله نبياً، أو ما يشبه النبي فها هو يذكر قصته في القرآن في سورة الكهف قال:

“وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً *‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً”. (سورة الكهف).

صورة

وهكذا أقام الإسكندر السد بين الحضارة، وبين الهمجية، فأنقذ الحضارة والمدنية القديمتين من الغزوات البربرية للذين سمتهم الحضارات التي تهلينت بيأجوج ومأجوج.

سيحدثه عن تلك الفترة الجميلة التي جعلت الحضارتين الأعظم تمتزجان في ذلك الحين السامية بشقيها البابلي والشامي، والهلينية بشقيها الإغريقي والإيوني لتقوم تلك المعجزة المسماة بالهيلينية الشرقية، سيتحدث عن الهيلينيين وكيف تبنوا العبادات المحلية بآلهتها الطبيعية، ولكنهم هلينوا أسماءها، فتمشرقت الهيلينة فصارت المعجزة الهيلينستية. وسيحدثه سيرفانتيس كيف أخذ الإبيريون الدين العربي الإسلامي ظانين أنه الأريوسية التي كانوا يدينون بها رافضين ديانة الحكام من الكاثوليك، فسهلوا دخول العرب من مسلمي ومسيحيي الشام إلى إيبيريا، فكان الفتح الأسهل في التاريخ، بل ربما كان توأم الفتح الإسكندري المقدوني لإمبراطورية فارس الشامية والبابلية.

ثم سيتحدث سيدي حامد عن المرة الأولى التي أدخل الشاميون الهيلينستيون مفاهيم خلود بني البشر إلى المنظومة الدينية، وقد كان الخلود حكراً على الفراعنة والملوك والقادة الكبار، وحدثه عن الرواقية الشامية الهلينيستية التي أكدت الأخوة والفضيلة والحياة الأخلاقية، والدعوة إلى الدولة العالمية العادلة ممهدة الطريق إلى الأخلاقيات المسيحية النصرانية القادمة. أفلم يقلل شاعرها الكبير ميليغر: إذا كنت سورياً، فما الغريب في ذلك أيها الغريب = ابن العالم.. نحن نقطن قرية واحدة هي العالم.

حدثه عن اكتشاف سلوقس الكلداني لمركزية الشمس في الكون، وعن تأثير القمر على المد والجزر.

عن بوسيدونيوس الأفامي الفيلسوف والمؤرخ والعالم الطبيعي ومتم تاريخ بوليبيوس.

عن الشاعر أنتيباتر الصيداوي الأبيقوري وعن فيلوديموس الشاعر الأبيقوري.

وعن زينون الرواقي الصيداوي الذي قالوا فيه بعد وفاته: لقد جعل من حياته نموذجاً اتبعه الجميع لأنه كان يعمل بموجب تعاليمه.

وكتبوا على شاهدة قبره:

إذا كانت بلادك الأصلية فينيقيا.

فماذا يضيرك من هذا. أفلم يأت قدموس من هناك

قدموس الذي أعطى الإغريق الكتاب وفن الكتابة.

كان سيرفانتيس يصغي ويصغي إلى هذا البحّار الأعرج الشيخ الذي ما كان يوحي بأنه خزان المعرفة هذه، وأخيراً سأله: ولكن كيف وصلت إلى كل هذا العلم، وأنت البحار المنفي الآباء من الأندلس، المنقطع عن الإغريقية، والقشتالية المحصور في هذا الركن النائي من العالم المسمى بينيون الذي سيسمى الجزائر فيما بعد.

فيحدثه عن الرسالة العالمية التي حملها الشاميون منذ تلك الفترة،  فلقد عرفوا أن جنة الأرض هي قبول الآخر، وعدم تكفيره، والقبول به كما هو، ويحدثه أن الإسلام المبكر كان حريصاً على القول: لكم دينكم ولي ديني. وعلى: إنك لن تهدي من أحببت.. الله يهدي من يشاء.

ثم يحدثه عن المسيحية التي ظهرت في الشام بعد الرواقية وقد أحببناها، وأنسنَّاها، وليس عن عبث أن الرؤية الإنسانية النسطورية، ثم الأريوسية والأبيونية التي رأت في المسيح بشراً سوياً صحيح أنه ولد المعجزة، وليس نتاج تزاوج ذكر وأنثى، ولكنه بشر ناسوت مثلنا، وانتشرت هذه الرؤية الأريوسية، أو الأريانية حتى وصلت إلى إيبريا. أما في الشرق فكان من سوء حظ النصرانية أن تبنتها روما الشرقية بيزنطة ومنذ اليوم الذي تحولت فيه النصرانية من دين شعبي إلى دين دولتي بدأت ظاهرة تطهير العالم من الآخر ممن لا يؤمن بعقيدة الملك، وهكذا أحرقت المعابد الوثنية السابقة، وقتل الفلاسفة، وأحرقت المكتبات، وشهدت البشرية ظاهرة لم تعرفها من قبل ظاهرة تكفير واستباحة دم من لا يؤمن بإلهي ورؤيتي للعالم، ثم استمرأت الدولة المسيحية الجديدة المتحمسة لدينها الجديد طعم الدم فانقلبت على المذاهب المسيحية الأخرى ممن لم يقبل بقراءات المجمع الخلقيدوني، واستمر الذبح والقتل والمطاردة والاضطهاد.. واستقر تقليد جديد في العلاقات بين البشر. أنت لا تؤمن بإلهي إذاً أنت كافر وتستحق القتل.

ولكن جماعات صغيرة ظلت مخلصة لهلينيستيتها في الشام تؤمن بالتعددية وبحق الجميع في العيش والإيمان كما يرون، ظلوا متخفين مؤمنين بعقيدتهم هذه. اختفوا تحت المسيحية الخلقيدونية ديانة الملك، وظلوا باقين على هلينيستهم حتى جاء الإسلام، وجاء الأمويون، والأمويون شاميون أكثر منهم حجازيين، فهم أسياد التجارة بين الشرق والغرب، وهم سادة الطرق التجارية، وهم مخالطو الجماعات الشامية، العارفون بأشواق الناس إلى التعددية بعد الجبروت والقسوة البيزنطية المنفّرة، فحدثوهم عن العقود، بل المئات من السنين التي عاشوها تحت رعب الذبح والخوف من الذبح إن أبدوا مظهراً صغيراً يخالفون فيه مرسوم الملك بالعبادة والمعبودات ومراسيم خلقيدونيا.

وجاء الإسلام الأموي، فكان أول ما فعل أن نقل عاصمة الدين الجديد من مدينة ضائعة في الصحراء اسمها يثرب، أو المدينة إلى دمشق عاصمة النضرة والخضرة والهلينيستية التاريخية. نقلوا العاصمة عارفين بأنهم لن يكونوا حجازيين من بعد، بل سيكونون شاميين خاضعين للشامية الهلينيستية التعددية، قابلة الآخر. وساعدهم على هلينيستيتهم هذه أن قانون الإيمان الإسلامي كان يركز على التعددية. فالشرط الأول للإيمان ليس أن تؤمن بالقرآن كتاباً لله فقط، بل أن تؤمن بكتب الله، التوراة والإنجيل والزبور وكتب لا نعرفها، ولكنهم في ذلك الحين كانوا يعرفونها، وإلا فلمَ ألحّوا على كلمة كتب التي تتضمن كل كتب الله. أتراها كانت تتضمن فلسفة أرسطو التي حملها من نبأوه في القرآن أعني الإسكندر الذي سمّوه بذي القرنين. وكان من شروط الإيمان، الإيمان برسل الله.. أتراهم كانوا يعنون ذا القرنين الإسكندر أيضاً الذي وصل بفتوحه إلى مشرق الشمس ومغربها بالإضافة إلى موسى وعيسى ومحمد والنبيين.

كان سيرفانتيس ينصت في انتباه إلى هذا الشهرزاد الذي كان ينكت مكنونات التاريخ متذكراً ازدواجية النفس الإسبانية، الأبيقورية المفرطة والرواقية التي وصلت مع محاكم التفتيش إلى نهايات الصرامة الحياتية. فحدث سيدي حامد عن انخراطه في الجيش في التاسعة عشرة من عمره يظن أنه سيحرر العالم من ظالميه، وسيعيد العدالة إلى الأرض، ولكنه – يقولها في حزن منكسر – فوجئ بالتراتبية الرهيبة، تلك التي تعطي القيادة والرياسة إلى أميين، أو أشباه أميين لا شيء يميزهم إلا الادعاء بالدم الأزرق ونبالة النسب. أدرك ألا أمل له في التقدم، فقرر أن يبدي الشجاعة والإقدام، فلعلهم يرونه، فيقدمونه، ولكنه لم يحصل إلا على عطب في اليد وسوداوية في القلب. ثم تنهد وقال: منذ ذلك الحين أفكر في كتابة رواية طويلة أتحدث فيها عن هؤلاء الصراخين، المتظاهرين بالشجاعة الذين لا يرون في الآخر إلا خنزيراً ذبحه أهون من أكله.

قال: أنت لا تعرف كم انتشرت حكايات هؤلاء الفرسان الذين جلبوا ثروات القارة الجديدة، فانتفخوا بها، واستجاب الكتاب الصغار لهذا المجد الصغير، وجنُّوا بهذه الانتصارات؛ طرد المسلمين، وطرد اليهود، وتصفية المذاهب المسيحية الأخرى، تصفية الشعوب الهندية في أميركا، والوصول إلى إلدورادو وجلب الذهب الكثير. أليس هذا كله دليلاً على أنهم المختارون من الله. أليس في هذا البرهان الكبير على أن الوعد بالنصر كان يلاحقهم.

تنهد وهو يحدث شهرياره سيدي حامد: فاختفى الفلاسفة واختفى المفكرون، واختفى العلماء، وصار المجد للفرسان.

ثم قال في انكسار: وصار عليّ أن أكون الجندي الصغير يحارب لا لمجد وإنما للُّقمة. وها أنذا أدفع الثمن ذراعي وحريتي، ولو كان الأسير أميراً، أو كونتاً، أو حتى فارساً لافتدوه بسرعة، فنقابة النبلاء من الفرسان متكاتفة.

كانا يبثان همومهما، فيحدث سيدي حامد عن الجنة الأموية التي قضي عليها في الشام على يد بيزنطة الجديدة من العباسيين الذين جعلوا الدم رايتهم، وقتل المخالف عقيدة لهم. وتابع سيدي حامد: وهرب من تبقى من الهيلينستيين، المؤمنين بالإنسان والتعددية إلى العالم الجديد إيبيريا. هربوا من لعنة الدم ومكفري الآخر.

وهناك بنوا جنتهم الجديدة هلينيستيا الجديدة. حلم الإنسان الأبدي. التعددية، وقبول الآخر، وحريتي المساوية لحرية الآخر. وهكذا بعد عدة محاولات ظهرت المدينة الفاضلة في إيبيريا الأندلس، المدينة التي دعا إليها أفلاطون والفارابي، المدينة التي يحكمها الفيلسوف، والشاعر، والعالم الموسوعي، فانتشى الشعر، وتفتحت الفلسفة وكثرت الكتب الموسوعية تجمع كل معارف البشر، ومعارف العربية، ومعارف الأندلس فحفظتها للأيام.

ثم ضحك سيدي حامد، فسأله ميغيل عمّا يضحكه، فحدثه أن الإيبيريين الكاثوليك قد تعلموا الكثير من الأخلاق الهلينيستية من جيرانهم الإيبيريين المسلمين فلما سأله ميغيل عما يعني حدثه عن ألفونسو العاشر محب الشطرنج وعاشقه حين قصد إشبيلية بجيشه الجرار قاصداً هدم مملكة الشاعر المعتمد بن عباد، فخاف الناس وضجوا ولكن وزيره ابن عمار عرف عشق ألفونسو للشطرنج، فأمر بصنع رقعة شطرنج غاية في الإبداع، وجعل صورها من الأبنوس وخشب العود العطري والصندل، وحلاها بالذهب. ثم خرج في سفارة إلى ألفونسو الذي بالغ في إكرامه، وعرض ابن عمار رقعة الشطرنج وحجارته في ركن من خيمته. فرآها بعض حاشية ألفونسو، فحدثوا ألفونسو عنها، فلما التقيا سأل ألفونسو ابن عمار: كيف أنت في الشطرنج؟ وكان ابن عمار ماهراً في الشطرنج، فحدثه عن إجادته له، ثم تابع ألفونسو: سمعت أن عندك رقعة متقنة، فأجاب ابن عمار بالإيجاب، فسأله ألفونسو: أن يريها له، فقال ابن عمار: أنا آتيك بها على أن ألاعبك بها، فإن غلبتني، فهي لك، وإن غلبتك، فلي حكمي.

رفض ألفونسو أن يوافق على رهان لا يعرف رهانه، ولكن طمعه في الرقعة والشطرنج غلباه بعد تردد، وأخيراً وافق. ولعبا، فغلب ابن عمار ألفونسو بطريقة صارخة لم يستطع ألفونسو التهرب منها، فلما سأله عما يريد. قال: أن ترجع من ها هنا إلى بلادك.

ترددأالفونسو منزعجاً من هذا الشرط، ولكنه تحت ضغط حاشيته لم يستطع إلا أن يقبل. وهكذا نجت إشبيلية دون إراقة نقطة دم.

فقال سيرفانتيس: ليت الحروب كلها تحسم بهذه الطريقة. فتأوه سيدي حامد وقال: ولكن الأمور لا تجري على هذه الطريقة إذ ما إن انقضت فترة الهدنة حتى تحرك ألفونسو ثانية، واتضح لملوك المدن الفاضلة الذين سيسميهم تاريخنا ملوك الطوائف أن نهاية الجنة قد اقتربت، فبيزنطة تعد عدتها لقتل المخالفين.

ووجد الملوك الشعراء الفلاسفة الموسوعيون، الفلكيون أنهم لا يستطيعون القبول بهذه النهاية، وكان على الجانب الآخر من المتوسط جماعات أخرى من بيزنطة الإسلامية، هؤلاء الذين كانوا يسمونهم بالمرابطين وفي لحظة يأس استنجدوا بهم. فعبر المرابطون المضيق، واصطدمت البيزنطتان مكفرتا الآخر، بيزنطة الكاثوليكية، وبيزنطة الإسلامية. فانهزمت بيزنطة الكاثوليكية، ولكن الخاسر الأكبر كان هيلينستيا الجديدة، المدن الفاضلة حلم أفلاطون والفارابي، المدن قابلة الآخر والمؤمنة بالتعددية، المدن التي كان وزراؤها من المسيحيين واليهود، وكان مثقفوها مسلمين ومسيحيين ويهوداً لم يكن فيهم من يكفّر الآخر، أو يستبيح دمه.

تنهد سيدي حامد، وقال: سقطت المدن الفاضلة وكان هذا إيذاناً بنهاية هيلينستيا التي ستظل حلم البشرية وبانتصار بيزنطة لتحكم العالم كله متسمية بأسماء كثيرة، مسيحية، ومسلمة وربما يهودية وانتصر أبناء الدم، القابيليون، قتلة الأخ، لا لسبب إلا لأنه يكسر البيضة من نهايتها الأخرى.

تشاكيا، وثرثرا طويلاً محملين مصائب البشر كلها لهؤلاء الحمقى، متشهي الدم المسمين بالفرسان، الدائسين على أحلام البشر، ومفكّريها، وقال سيدي حامد: منذ سنين، وأنا أحلم بوضع كتاب يتحدث عن هؤلاء الحمقى الذين يدمّرون أجمل ما لدى الإنسان بسيفهم الصقيل ثم يكلفون صغار المثقفين من الانتهازيين بكتابة ملاحم  تتغنى ببطولاتهم وبانتظار البشرية لإنجازاتهم في قتل المردة والكفار ومخالفي المعبود.

فكر سيرفانتيس، وقال: بل أنا من سيضع هذا الكتاب..

اتفقا على أن يضع كل منهما كتاباً يتحدث عن سخف القتل، وسخف القتلة المسمين بالفرسان، فحلم البشرية ليس قتل الآخر، بل قبول الآخر كما فعلت هيلينستيا الماضي وستفعل هيلينستيا المستقبل، الأمل وكانت المفاجأة أن ميغيل دو سيرفانتيس قد دفعت فديته في اليوم التالي لإعطاء هذا الوعد، فمضى إلى إسبانيا، وتقاذفته هموم الحياة حتى رأى سيدي حامد في الحلم يذكره بالوعد، فبدأ وضع كتابه في اليوم التالي، وسمّاه دون كيخوته دو لامانشا. ثم لم ينس مرآته وصديقه سيدي حامد بن علي، فذكر أن موحي هذا الكتاب مخطوط من وضع المؤرخ سيدي حامد بن علي. وما نزال ننتظر قراءة نسخة سيدي حامد بن علي التي وضعها على الجانب الآخر من المتوسط ويقول فيها إن الموحي بوضع هذا الكتاب هو ميغيل دو سيرفانتيس.

فصل من كتاب محاضرات في البحث عن الرواية

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.