ذئب المنفى الجريح

الثلاثاء 2022/11/01
لوحة: أنس نعيمي

1

القطارات التي كانت في الماضي توقظ أشواق الرحيل عندي إلى مدن لا أعرفها، لم تترك لي من أشواقها سوى الفقد والخيبة وسباق المسافات الطويلة في مدن الريح والوحشة والألم. القطارات التي كانت تركض بي من أرض إلى أرض، والقطارات التي كانت تطوي كتاب أيامي المثقلة بالتعب والأسى، هي القطارات التي ما زلت أركض بها ومعها وراء حياة ضائعة مثل راية في ريح. قطارات والنهار والليل والوصول المتأخر وقد فاتني كل شيء في حياتي، هي القطارات التي مازالت تلقي بي على أرصفة المدن الغريبة مثل حطام شجرة عارية في خريف طويل.

 قطارات لا تنتهي لكل جهات الأرض المنهوبة، قطارات لليل المتأخر والصباحات الباردة، وقطارات للوقت العابر في أثر الوقت، كأن العالم لا يكف عن الركض وراء نفسه في هذه المتاهة الأبدية. أربع سنوات ونيف وأنا أركض لاهثا بين محطة وأخرى، ومدينة ومدينة وراء أمل مّا يعيد لنا السكينة ولو إلى حين. كل يوم كان عليّ أن استعيد سيرة ما مضى من أيام: الأدراج العالية نفسها، الخوف وقلق الانتظار وضجيج القطارات الذي لا يتوقف، الوحشة المستبدة بغريب، والركض مع الذئاب في هذا المنفى الذي لا شيء فيه يمكن أن يعيدني إلى أرض حنيني التي أضحت مسكونة بالخراب والموت.

في الصباحات الباكرة أو في ساعات المساء المتأخرة كان علي أن أركض مع ريح الوقت بين محطة ومحطة، كي أدرك مواعيدها التي كثيرا ما كانت تفوتني. قطارات أنهكها الركض مثلي، وأخرى لوصولي المتأخر في محطات لا ينتظرنا فيها أحد ولا يد تلوح فيها لغريب. هنا لا شيء يذهب أو يعود بي، مفرد ووحيد مثل ذئب جريح يتحدر من أعالي هذه الصباحات إلى قاع الألم المستبد بروحي لكي أتابع سباقي المحموم مع الوقت والأمل.

ثلج على كل شيء، على الأرصفة ونوافذ القطارات وغابات الليل وثلج على القلب الذي يعوي في هذه المفازات كذئب جريح. كل شيء هنا يدمي القلب الوحشة والحنين واسم البلاد الطاعن في الحزن، فيا الله لا باب هنا لأطرقه ولا روح تميل على روحي ولا قطار يعيدني إلى أرض طفولتي التي اغتصبوها. على هذه الحجارة أو على هذه المقاعد الباردة ثمة ليل يجلس إليّ وصباحات تركض بي في مدن أطارد أسماءها كما أطارد أيامي الثكلى في خريف حياتي الطويل. فما الذي نفعله بعد وكل شيء أصبح يخوننا: الوقت والجسد الذي ما زال يدافع عن آخر حصونه المحاصرة والحياة التي خذلتنا كثيرا والعالم الذي مازال يكتفي بعرض أشكال موتنا على شاشاته كل يوم.

على كل شيء في هذه المحطات القريبة والبعيدة، وعلى أيامي التي أركض بها وتركض بي أثر من وجعي. هناك أو هنا كنت أقف أمام أقدار حياتي التي تعصف بي مثل جندي مهزوم. وسط هذا السيل البشري المتدفق من حولي كنت أحاول قراءة العالم الذي أغرق فيه، عمّال ومحاربون نجوا من حروب كثيرة، نساء وحيدات كحدائق مهجورة ونساء على موعد مع الحب أو ذاهبات إليه بشوق، كهول عاطلون عن الحياة والموت، وشباب في ميعة الحب لا يتوقفون عن كتابة رسائل قصيرة تطير بأجنحة الواي فاي، مرضى وحالمون على مقعد واحد، سياح بلكنات أجنبية مختلفة ولاجئون لا يتوقفون عن الثرثرة كأنهم يحاولون التغلب على وحشة المنفى بالكلام، نساء تراقب العالم من نوافذ القطارات المسرعة وقد فاتهن كل شيء، وعيون تطارد خيالاتها في البعيد. هنا حيث تتحول الحياة إلى رمية نرد في فضاء العدم، حيث توزعنا القطارات مثل رسائل عاجلة على أرصفة مدن النسيان كنت أحمل حقيبة أحزاني الثقيلة وأركض من ليل إلى ليل ومن قطار إلى قطار كوعل ينزف في غابة ليله الأخير.

2

في هذه المدينة التي لا تنام ثمة أوقات هاربة كنا نصل بينها بأنفاس لاهثة وروح تائهة بين نهار وليل. لا ذاكرة لهذا الليل ولا ذاكرة لي وأنا أضيع في متاهة الأرقام والأرصفة والممرات التي كنت أعبرها بخطى خائفة وقلب حزين. لا سماء هنا نطل عليها أو تطل علينا. لا أشجار ولا نوافذ لا ليل ولا نهار في هذه المتاهة المسكونة بضجيج القطارات التي لا تتوقف عن الركض في كل اتجاه وفي كل وقت. كل شيء هنا عابر وجريح حتى القبلة وتلويحة اليد والكلمات الضائعة في الضجيج. في قاع هذه المدن العجيبة التي تتدفق فيها أنهار القطارات اللاهثة بين ضفاف الإسمنت والحديد ثمة حياة عابرة تتحرك دون توقف بين مطاعم وكافتيريات وبائعي زهور بلكنات أجنبية وثمة مشردون وبائعو مخدرات ولصوص محترفون وأرصفة متعبة من كثرة الأقدام التي تمر عليها قبل أن تتطاير مثل أوراق في ريح خريف لا تتوقف عن الهبوب. هنا لا نعرف من يركض وراء من في هذه الأقفاص الحجرية الباردة، ومن يحاول أن يمسك بثياب من، الوقت المستبد بحياة لا تكف عن الركض أم البشر وقد تحولوا إلى عبيد للوقت . لا أحد هنا ينتظر أحدا ولا أحد يلوّح لأحد. لا أرض للخيال ولا للأساطير. عراء كامل في ليل لا يكف عن التحديق بالعابرين، حيث كل شيء عابر وسريع وقابل للنسيان .

لوحة: أنس نعيمي
لوحة: أنس نعيمي

في ساعات الصباح الأولى كما في ساعات ما بعد الظهيرة، لا شيء يتغير سوى منسوب هذا السيل البشري المتدفق، ونعاس المسافرين وثرثراتهم في عربات الدرجة الرخيصة، التي كانت تغصّ بنا، أو في الممرات التي تصعد براكبي الدرجات الممتازة إلى حيث يطلّون على الحياة من وراء نوافذ عالية بخيال نسر طليق. في الأمكنة التي كانت تصل بين عالم ركاب الدرجة الممتازة والدرجة العادية كنت أتقاسم المقاعد القليلة هناك مع مسافرين آخرين أكثر وحشة وصمتا منّي، أو أكون الراكب الوحيد الذي يمرّ به الآخرون دون التفات كأيّ كائن جدير بالرثاء والشفقة. في هذا الهامش المهمل كنت أنطوي على وجعي، وأنتظر الوصول إلى محطة أخرى أعرف أني لن أجد فيها سوى حياتي التي تركتها ترتجف وحيدة في ليلها الطاعن بالأوجاع. هناك كنت أتابع ركضي المجنون وراء أمل أخاف أن يضيع منّي في أيّ لحظة.

3

على أرصفة هذه المحطات العالية كنت أقف، وفي داخلي يعوي قطيع ذئاب جريح. كنت أطلّ على الشوارع التي تستفيق على صخبها وحيدا ويائسا كجسد معلق من روحه في فراغ. كنت أركض وراء القطارات قبل أن تفوتني مثلما أركض وراء حياة مخافة أن تفوتني، حيث لا أحد يواسي أحدا في هذا العراء العاطفي المخيف. كنت أتحرّك مثل بندول ساعة لا يتوقف عن الحركة أوزع حزني على صباحات العالم، وأنا أتأمل عشرات الوجوه الغريبة حولي كأني أفتح صفحات كتاب سطّر بجميع لغات العالم. كهول بمعاطف ثقيلة وأقدام لا تكاد تحملهم، عاش أغلبهم كابوس الحرب الكونية الثانية ونجوا منها بأعجوبة. كان بعضهم يجلس ساهما طوال الوقت كأنه يحصي خسارات حياته، أو يميل على بعضه مثل أشجار تنطوي على حطام أغصانها في شتاء طويل. كانت النساء من حولي هن الأكثر رغبة في الثرثرة كأنهن يحولن الحياة إلى رواية قابلة للتصديق.

وصلت متأخرا إلى المشفى وكان عليّ أن أصعد سريعا درج الطابق الثاني حيث ترقد زوجتي في غرفة تطل على ممر طويل. كانت الحركة قد بدأت تدور سريعا بين الغرف وفي الممرات لكنه كان عليّ أن أعبر سريعا لمواساة زوجتي العائدة من غرف تصوير الرنين المغناطيسي المخيف. كانت تجلس صامتة ووحيدة على الأريكة، فلم أجد من الكلمات ما يعينني على تبديد صمتها. جلست  قربها صامتا كأن عدوى الصمت انتقلت إليّ. كنا وحيدين نجلس في عراء الوقت ننتظر ما ستفاجئنا الصورة به. كانت حركة الممرضات من حولنا لا تتوقف كأنهن في سباق مع الزمن للعودة إلى البيت كن ينهين واجباتهن على عجل للعودة إلى البيت والاحتفال بليلة عيد الميلاد.

انتظرت أن يتصل أحد بنا أو أن أجد أحدا أتصل به لكي أؤنس وحشة روحي وأبدد شيئا من قلقي المستبد. كنت أخرج جهاز الموبايل من جيبي، أرمقه بحزن ثم أعيده إلى مكانه، وعندما لا أجد ما يخفف عني قلقي كنت أنهض وأسير نحو النافذة. من هناك كنت أتأمل مشهد المدينة الغارقة في خضرة غابتها المغسولة بالمطر وأضواء المساء. على طرف الشارع المحاذي للمشفى كانت تمتد البيوت القرميدية بحدائقها ونوافذها التي اكتست بزينة الأعياد. كانت برودة الطقس تجعل حركة الحياة خارج المنازل شبه معدومة بينما كانت الحياة تضجّ في الداخل. لا أدري كيف استيقظت ذاكرة الجسد عندما كنت أتكوّم على جسدي المثخن بجراحه بعد يوم طويل من التعذيب. أكثر من ثلاثين عاما مرَّ على ذلك اليوم الذي يشبه هذا اليوم، وكأن الألم يوقظ الألم في ذاكرة مثقلة بالآلام. كنت أهوي في ذلك القاع المظلم بخفة عجيبة وأنا أندفع مع ماء نهر كان ينحدر بي من طبقة إلى أخرى دون توقف. لا أتذكر كم من الوقت مرّ حتى استيقظت على ألم صاعق يمتد من ساقيّ التي لا أعرف كيف تحركت إلى قمة رأسي. ثوان بسيطة مرت قبل أن أعود وأستغرق في غيبوبتي من جديد. لم يكن هناك ليل ولا نهار لأعرف ما أنا فيه من ظلمة كانت تغمرني وتغمر المكان من حولي. حاولت أن أحتمي من آلام جسدي بجسدي فانكفأت عليه وتركته يغرق في ظلمة غيبوبته من جديد. دمعة كبيرة وحارة راحت تنساب على خدي وأنا أتذكر كل هذه الحياة التي لم تمنحني سوى الألم والخسران. أسرعت أمسح دمعتي وأنا أتلفّت حولي مخافة أن تراها زوجتي لكي لا أزيدها حزنا على حزن.

كانت ما تزال تجلس على أريكتها حين التفتّ إليها لأقول لها شيئا يستعيدها من أفكارها التي تتقاذفها في بحر توقعاتها الصاخب. نهضت فجأة وطلبت مني أن نعود إلى غرفتها. سارت وسرت وراءها دون أن نتبادل كلمة واحدة، كأنه لم تعد ثمة حاجة للكلام قبل أن يقول الطب كلمته. جلسنا على سريرها صامتين نترقب وصول النتيجة التي تأخر ظهورها. فجأة فتح الباب الغرفة وأطلت الممرضة وهي تحمل ورقة في يدها. كانت ابتسامتها تسبقها وهي تعلن نتيجة الصورة كأنها كانت تعيش معنا تجربة الانتظار المرعبة. ظلت واقفة مكانها وهي تصرخ “كاينه بروبليم.. كاينه بروبليم”. اندفعت زوجتي نحوها تعانقها وهي لا تكاد تصدق ما تقوله لها الممرضة. وقفت حائرا لا أعرف ما الذي يمكن أن أفعله في هذه اللحظة التي لا تشبها أيّ لحظة أخرى. أسرعت ألملم أوراقها وأدويتها وبعض ألبستها وأدفعها في الحقيبة استعدادا لمغادرة المشفى. طوال طريق العودة إلى البيت كانت زوجتي لا تتوقف عن الابتسام وهي تنظر إليّ كأنها لا تصدق ما حدث.

4

تحولت الحياة في المنفى إلى دوائر تتسع أكثر فأكثر ثم تتلاشى مثل بحيرة ألقي إليها بحجر كبير. دوائر للخوف وأخرى للألم ودوائر للضياع الآدمي أمام مصير مجهول. لم يعد سؤال المنفى والوطن يختصر الحياة هنا بعد التطور الخطير الذي طرأ على مرض زوجتي المقيم. لقد تحولت الحياة إلى مجرد كلمات معلقة بشفاه طبيب أو طبيبة في كل جولة من جولات العلاج التي كانت لا تتوقف. كان خوفنا في كل مرة أكبر من قدرتنا على الاحتمال. كنا مثل سجين ينتظر النطق بالحكم المبرم عليه دون أن يكون بمقدوره فعل أيّ شيء. أربع سنوات مرّت وما زلنا نحاول في كل مرة أن نصل إلى المشفى في ساعة مبكرة لضمان الحصول على سرير فارغ. كان الطريق الطويل وسط الغابات والسهول والقرى التي لم تستيقظ بعد آسرا، لكن لا شيء كان بمقدوره أن ينتزعنا ممّا نحن به من خوف وقلق مستوطن.

وصلنا إلى هناك لكننا كالعادة فوجئنا بأن عددا من المرضى قد سبقونا في الوصول. حملت زوجتي أوراقها وطارت بها إلى غرفة الأطباء لإجراء التحاليل الأولية بينما كان عليّ أن أجلس في انتظارها. في كل مرة كنت أستغرق في تأمل وجوه المرضى ومرافقيهم إن وجدوا. كانوا نساء ورجالا من مختلف الأعمار. كان بعضهم صامتا طوال الوقت والبعض الآخر يتبادل أحاديث المواساة والتشجيع بينما كنت الوحيد الذي يواسي نفسه. كنا نجلس ساعات طويلة حتى يفرغ سرير لزوجتي. كنا الغرباء الوحيدين في هذا المكان الغريب نواسي بعضنا البعض للتغلب على غربتنا وخوفنا المؤجل. في ممر المشفى كانت حركة الممرضات والممرضين والأطباء والطبيبات لا تتوقف حتى الساعة الثانية ظهرا موعد مجيء النوبة الجديدة. عالم آخر كان يجعلنا مشدودين إليه بانتظار الحصول على سرير. كل ذلك كان يجعلنا ننسى الحياة  خارج هذه الجدران التي كانت تضيق علينا كثيرا حتى نكاد نختنق بين جدرانها المغلقة على مصائرنا المجهولة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.