ذات يوم في كهف الرعب

الخميس 2022/09/01
لوحة: خالد المقدادي

تعود معرفتي بخيري الذهبي وبمعظم الكتاب السوريّين، أقلّه المقيمون منهم في دمشق، إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي، عندما بدأتُ أكتب قصصاً قصيرة ومراجعات نقدية لبعض الإصدارات الأدبية، وأبحثُ لما أكتبُه عن نوافذ. وأيامها كانت المنابر الصحفيّة في دمشق معدودة، وبالتالي فلم يكن اختراقها هيّناً على المبتدئ، الذي عليه أن يصبر لسنوات، وعليه، إن لم تكن موهبته فاقعة أن يمرّ أوّلاً ببريد القرّاء، أو بصفحات أدب الشباب، قبل أن يرى اسمه إلى جانب الأسماء المهمة، والمعروفة.

وعام 1981 أصبحتُ، بعد نشر أوّل مجموعة قصصية لي، عضواً في اتحاد الكتاب العرب في سوريا، وهو عملياً مع استثناءات قليلة نقابة للكتاب السوريّين، ومَنْ في حُكمهم من الكتّاب الفلسطينيّين، الحاملين للجنسية السورية، فشكّلت عضويتي في ذلك الاتحاد نقلة نوعية مهمة جداً لي، رفعتني على الفور، من وضعية المتلقّي، واحدٍ من الجمهور المتابع للكاتب الفلاني إلى رفيق سهرات له. وعلى الفور، ودون مقدّمات، سأصير زميلاً، وشريك اجتماعات ومداولات دوريّة في اجتماعات الكتّاب، لكُتّابٍ ومبدعين سوريّين، كان لهم بصماتهم الأكيدة على خارطة الإبداع الأدبي السوري والعربي: كُتّاب من وزن: شوقي بغدادي وسعيد حورانية وممدوح عدوان وخيري الذهبي وعادل أبوشنب، وعدنان بغجاتي وحسيب كيّالي، وهؤلاء الذين أذكرهم الآن هم عيّنة مختارة من باقةٍ أكثر وأكبر، صرت منذ ذلك العام زميلاً لهم، أنا الذي كنت إلى قبل عامين أو ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ لا أجرؤ أن أخالطهم، أو أن أتسلّل إلى طاولاتهم، وأن أشاركهم نقاشاتهم الصاخبة في مقهى “اللاتيرنا”، في بوابة الصالحية، “الفانوس” الذي انطفأ لاحقاً، مثلما انطفأ قبله وبعده الكثير من فوانيس حياتنا التي ولا أحلى: اللاتيرنا، وحانة فريدي، ومقهى الحجاز ومقهى الروضة، النبتات الزاهية التي لن يجدها السائر هذه الأيام في شوارع وحارات دمشق مهما فتّش عنها، وقد يجدها فقط في بعض القصص وقصائد الشعر، وفي المذكّرات عندما يحين موعد كتابتها.

ثم تعمّقت العلاقات أكثر وأكثر بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، صيف عام 1982. ذلك الاجتياح الذي كان من نتائجه الفوريّة  انتقال أغلب التنظيمات الفلسطينية، هي وكوادرها وما لها من صُحُف وهيئات حزبية وعسكرية ومؤسّسات اجتماعية من “بيروت” إلى “دمشق”. ورغم كلّ ما قد يُحكى سياسياً عن ذلك الانتقال إلّا أن العقد الممتد من عام 1983 حتى عام 1993، برهة اتفاق أوسلو، كان في رأيي الشخصيّ من أزهى الفترات التي عاشتها الصحافة الفلسطينية، منذ انبعاثها من موتها مع انبعاث الشعب الفلسطيني من موته، ابتداءً من العام 1964، فور إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وما تبعها من نشوء العديد من التنظيمات الفلسطينية، سياسية أو مسلّحة.

والآن، فلو طُلِبَ مني أن أُعدّد الأسباب التي أراها تقف وراء ذلك الزعم؛ زعم ازدهار الصحافة الفلسطينية في تلك الحقبة تحديداً، وأن أرتبها بحسب أهمّيتها، ففي البداية، لن أقلّل أبداً من حجم الخِبْرة والحِرَفية التي كان قد اكتسبها الكادر العامل في المجلات الفلسطينية في عقد السبعينات، أثناء تواجدهم في بيروت، عاصمة الصحافة العربية، عاصمة الرأي والرأي الآخر، وشبكة العلاقات الواسعة التي كوّنوها مع المثقفين العرب قبل انتقالهم إلى دمشق، وبعض هذا الكادر ما يزالون حتى الساعة يتألّقون في التحليل السياسيّ على شاشات التلفزة العربية والدولية، ولكنني سأضع بعد هذا السبب، وعلى الفور، في رأس قائمة أسباب ذلك النهوض: المناخ الثقافي السوري، الذي صارت الصحافة الفلسطينية وبحكم انطلاقها من دمشق، جزءاً لا يتجزأ منه، اغتنت منه وأغنته، فأخذت صفحاتها الثقافية، وكانت هذه إحدى نقاط ضعفها خلال الفترة البيروتية، تكتنز بموضوعات ثقافية أعمق، ومشاركات شبه دائمة من المثقفين والكتّاب السوريّين، ومن المثقفين والكتاب الفلسطينيّين – السوريّين، وفيهم أسماء وازنة فكريا وثقافياً، مثل: يوسف اليوسف وفيصل دراج وأحمد برقاوي وفواز عيد ومحمود موعد، إلى آخره، وصارت لأغلبهم مساهماتهم الثابتة في تلك المجلّات. إنه المناخ الثقافي الذي لم يخلقه وجود تلك الصحافة في دمشق، بل وجدته في انتظارها، المناخ الفكري العام الذي لم يكن في حينها يعرف أو يعترف بأيّ فواصل أو تمايزات من النوع الحادّ بين الشأن الوطنّي والشأن القوميّ، بين ما لسوريا كقضية وطنية خاصة، وما لفلسطين كقضية عامّة، تخصّ كافة العرب، وفي مقدّمتهم السوريون.

وأعود الآن إلى الصديق خيري الذهبي، فقد طوّلتُ عليه. والواقع إنه وحتى أوائل التسعينات، وبرغم اللقاءات الكثيرة والسهرات العرمرميّة التي جمعتنا معاً طوال تلك الفترة، في هذه المناسبة أو تلك، إلا أنّ العلاقة بيننا ظلّت تراوح في الإطار الرسمي، العضوية المشتركة لكلينا في اتحاد الكتاب العرب، وزمالة الكتابة، الهاجس المؤرّق لكلينا. ففي القِسمة التي توازعتها الصحف الفلسطينية التي أخذت تصدر من دمشق ابتداءٍ من عام 1983: الهدف والحرية وفتح الانتفاضة وإلى الأمام ونضال الشعب، وغيرها، كان أبوفارس، في العلاقات التي طوّرها وارتاح لها مع الفصائل والصحف الفلسطينية، كان أقربَ إلى فتح الانتفاضة وصديقاً لأبرز قادتها، والأمر بالنسبة إليه ولغيره من المثقفين السوريّين كان الأمر وما فيه مجرّد صداقات واستلطافات شخصية، لا أكثر ولا أقلّ.

وكنت على معرفة تامّة بمواقفه السياسية المعارضة حتى العظم للنظام السوريّ ولكافة مفرزاته وأُطره، بما فيها اتحاد الكتاب العرب، الذي هو عضوٌ فيه. وكنت قد عرفت من تجربتي في العمل السياسي في سوريا مثل مواقف خيري، بل وما هو أشرس منها، غير أن الذي فاجأني فيه، وشاءت الصدفة المحضة أن أعرف ذلك الشأن عنه عام 1992، أن هنالك بشراً، وخيري واحدٌ منهم، يمكن أن يذهبوا في معارضتهم العلنية التي لا تعرف الهوادة ضد النظام السوريّ، الذي كان أيامها، أيام البيعات الأبدية، في أوج جبروته، إلى حدود خطيرة، مخيفة، حدودٍ تقرّب صاحبها من حدّ الموت، الاغتيال، كثيراً، كثيراً، أو إلى ما هو أقسى من الموت؛ الاختفاء إلى أبد الآبدين في أحد أقبية التعذيب في سوريا، وما أكثرها !

وكنّا أيامها، في أيّار 1992 على أن نذهب، هو وأنا إلى العاصمة الأردنية عمّان، لحضور مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب المزمع عقده هناك في التاريخ المذكور، هو في عداد الوفد السوري، وأنا في عداد الوفد الفلسطينيّ، لنجد نفسينا بعد أن تقدّمنا كلٌّ على انفراد بطلبٍ الحصول على إذن سفر من دائرة الهجرة والجوازات، وهو إذنٌ إجباري على أيّ مسافرٍ سوري ذَكَرْ أن يستخرجه قبل أن يُقامر ويشتري تذكرة سفر، ربما يخسر ثمنها، وجدنا نفسينا مطلوبين لمراجعة الفرع الأمني المسمّى “فرع منطقة دمشق”، هذا الفرع سيء الصيت والسمعة، بل وأيّ فروع الأمن ليس سيء الصيت والسمعة؟

وهكذا، ودون أن يعرف أحدنا بما حدث مع الآخر وجدنا نفسينا معاً، صباح اليوم التالي، التاسعة صباحاً، في مكتب “علي عقلة عرسان” رئيس اتحاد الكتاب العرب، باعتبارنا عضوين في الاتحاد، نشكو له حالتنا، ونطلبُ حلّاً يقينا مخاطر ومفاجآت المراجعة الأمنية التي لا تسبقها أيّ اتصالات، أو وساطات من العيار الثقيل. ويومها قام الرجل باتصالاته، وبخاصة مع العميد هشام بختيار، رئيس فرع المنطقة، كان أيامذاك، الذي وعده خيراً، ولكنه ألّحّ على ضرورة رؤيتنا في مكتبه في تمام الساعة 12 من ظهر ذلك اليوم.

والذي حدث يومها، ودون الدخول بكثيرٍ من التفاصيل، لأنها قد تستغرق صفحات إضافيّة عديدة، أنّ خيري الذهبي، ومنذ أن وصلنا إلى بوابة الفرع، ثم ونحن في ديوان الفرع، ثم ونحن جالسان أمام ضابط التحقيق، لم يكفّ للحظة عن إطلاق الشتائم ضد النظام السوريّ بكافة رموزه ومؤسّساته، وماضيه وحاضره، شتائم بلغ من علوّ نبرتها أن أرعبتني أنا المطلوب مثله، وجعلتني أهتزّ فَزَعاً مثل قصبة نحيلة في مهب ريحٍ عاتية، قبل أن ترعب المخبرين وضابط التحقيق، وتضعهم هم لا نحن في دائرة التحقيق والتساؤل. واحزرْ أين حدث ذلك؟ حدث في مكانٍ لا يُسمح للداخلين إليه، إن كانوا مطلوبين للتحقيق، بالهمس. ما الهمس ؟ حتى الهمس غير مسموح به هناك، لا في فرع المنطقة ولا في غيره من الفروع !

وظللتُ طوال وجودنا داخل المبنى الرهيب لفرع المنطقة وإلى أن صرنا خارجه، وأنا على قناعة تامّة بأنه ما مِن قوة في العالم تستطيع بعد الآن أن تخرجنا من المكان الذي صرنا فيه. نعم، قد نخرج منه، ولكن إلى حتفنا. ويومها نجونا بجلدينا بأعجوبة، ولم يكن السبب الفعليّ وراء نجاتنا غير المهابة التي فرضها الحضور الطاغي لخيري الذهبي؛ والمكانة البارزة التي يحتلّها هذا الكاتب، المقتحم كأسد، والوديع كطفل، وسط خارطة الكتاب والمبدعين السوريّين، الذين ظلّ النظام السوريّ رغم كلّ ضراوته، يحسب لهم ألف حساب، وكان خيري أيامها، أوائل التسعينات، في أوج تألّقة وحضوره الأدبي، وبالأخصّ بعد رواية “حسيبة “، الصادرة عام 1987 وهي من العلامات البارزة في الرواية السورية.

ثم تشاءُ الصُدفة، ويبدو أن الصدفة هي التي تشاء لنا أغلبَ اختياراتنا وأحداثِ حياتنا، أن ألتقي خيري الذهبي، وأن نعيش معاً في الأعوام القليلة الماضية، ابتداءً من عام 2014، هنا في مدينة دبي، من الإمارات العربية المتحدة، في حيٍّ سكنيٍّ واحد. ففي هذه المدينة، الأنيقة من بين مدن العالم، جمعتنا الغربة الإجبارية عن سوريا، جمعنا المنفى والضياع، والسكنى في منطقة سكنية واحدة.

هنا اجتمعنا وعشنا معاً لسنوات لاجئين، منفيّين، تركا خلفهما الكثير الكثير، أو لنقلْ بشكلٍ أدق إنهما تركا خلفهما كلّ ما كان قد تجمّع لهما في كدّ الحياة من متاع الدنيا، تركاه نهباً للقذائف المدمّرة، وللمعفّشين، وحتى العالم الذي بتنا نعيش فيه هنا في دبي، فإنه بكلّ تأكيد ليس لنا، إنه بالأحرى لأبنائنا، ونحن عالة عليهم، إذ ما الذي قد يفعله رجلٌ على حيطان السبعين في دبي، مدينة الفُرص الجمّة والواعدة. بلى، فقد ظلّت لنا ذكرياتنا، وهي شيء كبير وكثير، مع أنها باتت هي الأخرى مهدّدة بالضياع، ذكريات كلّ واحدٍ منا على حِدة، والذكريات المشتركة لكلينا عن دمشق وأهلها والأصدقاء الذين تركناهم خلفنا، أو الأصدقاء الذين استبقوا الكارثة التي حلّت بسوريا، فاختاروا، دون أن ينسوا وطنهم، أوطاناً وهويّاتٍ بديلة.

هنا في مدينة دبي، جمعتني الجيرة أنا وخيري الذهبي في المنطقة السكنيّة المسمّاة: “حدائق” (الجاردنز) آخر دبي، على الطريق الذاهب إلى أبوظبي. وهي بحق، اسمٌ على مسمّى. فإنك وأنت تتمشى في شوارعها وملاعبها ومسابحها تحسب أن المكان، الذي بُني عليه هذا الحيّ السكنّي الفسيح، الدورة الكاملة حول محيطه كانت تأخذ مِنّا قرابة ساعتين، قد كان في أصله الأصلي غابة مدارية. ثم في غفلةٍ من الأشجار، دون إيذاء غصنٍ واحد، أو انقصاف وردة قبل أوان موتها الطبيعي، بُني ذلك الحيّ، لِتُصاب بعد ذلك بدهشة بالغة، عندما تعلم أنه وإلى عشر سنوات خلت، من تاريخ وصولنا، لم يكن في أرض ذلك المكان المسمّى “حدائق”، ولا عُشبة واحدة.

ثم إنّك إلى جانب تلك السكنى المشتهاة، بجوار واحدٍ من ألطف المولات التي قد يصادفها المرء في حياته: “مول ابن بطوطة”؛ ومكانُ سكن خيري كان أقرب إليه من مكان سكني، فإنّ بينهما “قَطْعَةَ شارع”، لا غير، المول الذي كأنك وأنت تتفتّل بين أجنحته المرتّبة على هيئة رقاع جغرافية متجاورة، لا تمشي على قدميك، بل في قلب آلة زمنٍ يأخذك فيها شبحُ الرحالة العربي الأشهر؛ ابن بطوطة في رحلة شيّقة إلى قلب حضارات العالم العتيق، مصر، فارس، الصين، الهند، وقد سكنت في ردهاتها آخر صيحات أوروبا، ما بعد الحداثة.

ففي شوارع ذلك الحيّ السكنيّ، وفي أغلب مقاهي المول، وبالأخصّ مقهى “تشي تشي”، ومقهى “حدّوتة مصرية”، وهذا الأخير كنتُ أفضّله على غيره من المقاهي لشبهه المذهل بـ”مقهى الحجاز”، أحد مقهيَيَّ المفضّلين  في مدينة دمشق هو و”مقهى الروضة”، وقد دثرا الآن، من جملة ما دَثَر من محاسن عاصمة الأمويّين. في تلك الشوارع والمقاهي تمشّينا، وجلسنا، وتحاورنا أنا وخيري الذهبي عشرات المرّات معاً، ومئات المرّات تمشّينا وجلسنا وتحاورنا كلّ واحدٍ منّا بانفرادٍ عن الآخر، يحكي مع نفسه، يسائلها، يُقلّب الدفتر الوحيد الذي ما يزال يملكه، أو يملك أغلب صفحاته: دفتر الذكريات !

لقد تحدّثتُ حتى الآن عن “ابن بطّوطة” الرحّالة و”ابن بطوطة” المول، ولكن “ابن بطوطة” هو أيضاً عنوان جائزة عربية مرموقة وفريدة من نوعها، تُمنحُ في العادة لأفضل الرحلات المحقّقة أو المترجمة، ثم توسّعت في الأعوام القليلة الماضية، لتشمل اليوميّات، أيْ لتشمل مادّة مشاويرنا ورياضتنا المسائية أنا وخيري الذهبي حول الحدائق وفي قلبها. وكان يندفع فجأةً، كأن القهر الذي يغلي في داخله ما عاد يحتمل أيّ تأخير، فيحدّثني أحياناً عن خدمته العسكرية الإلزامية، في أوائل السبعينات، وعن الفترة العصيبة التي قضاها في الأسر الإسرائيلي، 300 يوم، وكنتُ أندفعُ أحياناً، وغالباً بإلحاحٍ منه، أحدّثه عن “مخيم اليرموك”، وعن الأحداث والوقائع التي قادت لأن يتحوّل هذا المخيم الأيقونة من “عاصمة الشتات الفلسطيني”، إلى “عاصمة الخراب العربيّ”، وكأنّ ما كنّا نرويه لبعضنا البعض مجرد بروفة نهارية، لما سوف ندوّنه ليلاً، على اللابتوب، بعد أن يخلد أهل البيت للنوم. كنّا نكتب لنفرّغ على الورق جانباً من القهر – القيح، ونصفّي أرواحنا مما علق بها من خرائب وخيبات. وهكذا، تشاء آخر صدفة جمعتني بخيري الذهبي قبل موته أن يحصل كلانا على “جائزة ابن بطوطة” فرع اليوميّات، هو عام 2019 عن كتابه “من دمشق إلى حيفا/ 300 يوم في إسرائيل”، وأنا عام 2022 عن كتابي “خيمة من الإسمنت/صور، حكايات، يوميّات من الواحة المفقودة”. كتابُهُ، وكتابي، والكُتب التي كُتِبت، والتي لم تكتب بعد، إنْ ضُمّت بعضها إلى بعض، فستشكّل لوحة فسيفسائية لسوريا، التي كانت، وسوريا التي أمست !

والآن، وأنا، أتذكّر باشتياق مشاويرنا، ووقفاتنا لنستريح من المشي على أدراج البنايات، عندما كنا نتعب، أو عندما يحتدم النقاش بيننا حول أمرٍ من الأمور، وبالأخصّ عندما نجيء على سيرة بعض الزملاء الذين آثروا البقاء في سوريا، على التشنطط في بلاد الغربة، أتذكّر مع ذلك التذكّر أن مشاويرنا المشتركة في الحدائق، أو داخل المول، كانت، قياساً بعدد السنين التي أمضاها هنا، قبل أن يرحل إلى باريس ويموت فيها، أقلّ بكثير مما كان ينبغي. فقد كان ينبغي أن تكون أكثر، وأكثر، لأنه ما الذي قد تبقّى لكلينا من مِتَعِ الدنيا بعد هذا العمر وهذه النكبة التي حلّت بوطن السوريّين غير المشي والحكي، والكتابة، التي لم تعد شيئاً آخر غير استذكار الماضي، الماضي وقد صار الحاضر الوحيد لكلينا؟ وسنفتحُ صفحاته بالكثيرٍ من الرفق والتسامح، كمن يحاول انتزاع لقية أثرية من قلب الصخور، إن استخدم معها العنف تتمزقّ، وإلّا فعلينا أن نعود إلى الكثيرٍ من الوراء، إلى أكثر وراءٍ ممكن، هو إلى “حي القنوات” الذي ولد فيه عام 1946 وأنا بعده بأربع سنوات إلى “حي الميدان” الدمشقي.

***

ثم كنّا في غياباتنا، الحضور في الغياب، تمرّ علينا الشهور، لا نرى فيها بعضنا البعض. اتّكلنا على الفرص: إنْ لم أرَ خيري في هذا المشوار، فقد أراه غداً. اتّكلنا على الأيام، على وفرتها، كأن زمامها بأيدينا وحدنا. لماذا صدّقنا نحن الذين عركتنا تجارب الحياة تلك الأكذوبة الفاضحة؟ فها قد أتى غدٌ آخر، فماذا نفعل من أجل مشاويرنا؟ ومَنْ سوف يرثها؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.