رسائل ليلية

الجمعة 2021/10/01
لوحة: وضحة مهدي

          • 27حزيران2021

قررت أن أهديك كل هذا الغياب، وألاّ أكتبك. أن أتناسى حضورك، وأبقيك بعيدا عن تفاصيل يومي، وكنت كالنجمة الوحيدة وسط هذا الغياب، وما كنت أرى غيرك.

“لن أكتب لك”.. قلت في سري، وسأعاقب غيابك بالغياب؛ ولكن أنين “التشيلو” أعادك إليّ، وشكّلك أمامي كلوحة مثيرة، بكل ألوانها وتفاصيلها.. وأنا الحمقاء المولعة باللحن، واللون، والتفاصيل الصغيرة.

وأنت لم تكن مجرد وجه وملامح أتأملها كلما اشتقتك، أنت مجموعة من التفاصيل؛ وكل تفصيل حكاية؛ لها بداية ونهايات كثيرة.. وأنا كنت أبدأ معك الحكاية كل ليلة على نحو مختلف، وأختمها على نحو ما، أو أبقيها معلقة بلا نهاية لا سعيدة ولا تعسة.

لو تعرف ما الذي شدني هذا المساء نحو الورق، لكنت ضحكت، وربما سخرت من حماقاتي.

تذكرت هذا المساء “سميراميس”.. وقررت أن تكون حكايتنا من هنا.. ستقول لي “يا إلهي نبدأ حكايتنا من أسطورة؟”.

وأضحك وأنا أقول لك “لتكن.. فإن أجمل ما في الحب الأسطورة”!.

وتقول لي “حلقي”.. وأبدأ بسرد التفاصيل الصغيرة. وتكتشف وأنا أحكي أني أبدل مطلع الحكاية، وأغير مجرى الزمن، وأتلاعب بالمصائر قليلا.

ماذا لو قلت لك إني رأيت في منامي سميراميس؟ ستقول “حتما تكذبين”، وأقسم لك بأصابعك التي أعشقها أني لا أقول إلا الحقيقة.

“وما الذي جاء بها إلى حلمك يا ترى؟” تسألني.. وأقول لك: لا أعرف، سمعت اسمها منك فقررت أن أدخلها في الحكاية، وقرأت عنها قبل النوم، وتأملت ملامحها.. وربما استحضرتها دون أن انتبه؛ فزارت حلمي.

ليس هذا ما يهم. ولكنها قالت لي بأنها لم تكن سعيدة لكونها أسطورة.. قالت “اسمي معناه الحمامة، وكل ما تريده الحمامات والطيور عموما التحليق؛ هل سمعت عن حمامة كانت تسعى لتكون أميرة، أو أن يوضع على رأسها هذا القيد اللامع المذهب الذي تطلقون عليه تسميات غريبة.. تاج الملكة أو الأميرة، مملكتي هناك في مشاع الأزرق”.

وانتفضت من نومي مرعوبة؛ حتى هي كانت مهووسة مثلي بالأزرق؛ وخشيت أن تنازعني على قلبك، وقررت أن أقتلها، وفكرت طويلا كيف أقتلها.. وفي النهاية قررت أن أكتبها كي أقتلها؛ أن أدخلها الحكاية؛ حكايتنا وأقتلها هناك.

رفعت حاجبيك مستغربا.. قلت لك: لا تشغل بالك تلك قصة طويلة وعادة من عاداتي القديمة؛ أقتل بجرة قلم، أدخل من أشاء حكايتي وقد أمنحه الخلود، وقد أقتله هناك دون أن ينتبه.

لذلك قلت لك مرة وأنت تسألني ممازحا.. “متى أدخل نصك؟” قلت لك” عندما تموت، أو حين أقرر اغتيالك”.

قلت “لا أفهم”!.

وضحكت، ولم أرد على سؤالك.

لكن ملامحك تبدلت فجأة واكتسى وجهك الأسمر بلمحة شفيفة من الحزن وصفرة قليلة.

أعرف ما الذي كان يدور في رأسك.. كنت تفكر؛ أيعقل أن تكون كل هذه الحماقات حقيقة، وهل…

وأدركت مدى حيرتك، ومخاوفك؛ فأخذت كفك بين يدي وقبلتها، وهمست لك: لا تشغل بالك يا حبيبي؛ أنت حكايتي التي لن أكتبها، والنص الوحيد الذي لن يكون أبدا شاهد قبر، ولا أسطورة.

 

          • مساء 29 حزيران 2021

قلت لك وأنا أنظر في عينيك مباشرة “ماذا لو”… لو تعلم كم أحب هذه الـ”ماذا لو”؛ فهي لا تفتح عمل الشيطان كما يقولون؛ بل تفتح عمل الكتابة.

ماذا لو كتبت المحذوف، تخيل معي كم من التفاصيل حذفناها بقصد، عامدين متعمدين.

فنحن نخاف أن نتعرى، لا أمام الغرباء فحسب؛ بل وأمام أنفسنا أيضا؛ ويكذب من يقول أتعرى أمام المرآة لأشاهد نقائص نفسي ولا أخشاها. كلنا أمام المرآة جبان

حتى لو تعرينا أمامها سنتفادى النظر مباشرة في أعيننا، وسنشيح نظراتنا عنا، ولن نرى انعكاسنا، مكتملا، سنركز نظرنا على شيء واحد منا ونتجاهل التفاصيل الأخرى.

ماذا لو فكرت بشكل جاد، وبعد تفكير طويل قررت تجميع كل ما سقط مني وما شطب من نصوصي وقررت كتابتها على صفحات بيضاء.. يا إلهي، تخيل!

سيكون الأمر أشبه ما يكون بلعبة تجميع ضخمة؛ أو “بازل” وستكون بقطع كثيرة، كثيرة، لا تعد ولا تحصى؛ وستكون كافية لتغطية بلد بأكمله أو بلدان كثيرة، وربما أكثر.

إنها عمرنا المحذوف، لحظاتنا المحذوفة، ودقائق وثوان وساعات ضائعة. إنها أمنيات مهدورة، والكثير الكثير من البوح؛ ومن من المسكوت عنه؛ والكثير من الجبن والخوف وحبات العرق.

كم كنا جبناء حين مارسنا الحذف، كم كنا جبناء حين سكتنا؛ فالسكوت حذف أيضا، والصمت حذف.

أن تسكت كي لا تحكي. تخيل كم سكتنا وكم حذفنا بسكوتنا وصمتنا، وربما كم قتلنا أيضا.

قتلنا مشاعرنا، أحاسيسنا، رغباتنا، أحلامنا. حذفناها وتجردنا منها كي نتواءم مع الواقع؛ وكأن كلامنا إعاقة والسكوت أفضل طريقة للمواءمة.

كم ترعبني فكرة تجميع وإعادة كتابة ما حذفت.

لو كان لي أن أكتب المحذوف؛ ربما كنت كتبت نفسي؛ صحيح أني كتبت عنها كثيرا، ولكنني لم أكتبها أبدا، وكنت أمارس الحذف مرارا وتكرارا، وأسقط عنها ما قد يثير حنق القراء.

كنت كغيري أتقنع بأقنعة متعددة، وأحيط نفسي بهالة من الغموض.

لا تصدق من يقول لك “أحبك وأرضى بك كما أنت”.. لا أحد يحبك كما أنت؛ حتى في الحب أنت لست أنت؛ وسيضعون عليك الكثير من طبقات المكياج والصفات كي تتوافق مع رؤاهم وأحلامهم إنهم يمارسون عليك الحذف على نحو ما، فكل إضافة حذف أيضا.

أنت لا تشبه نفسك حتى في خيالك. تدخل الخيال لكي تتجمل؛ وهناك أيضا تمارس الحذف على ذاتك وظروفك وواقعك؛ ولفرط الحذف تصبح ما يريدون لا ما تريد.

لو كان لي أن أكتب ما حذفت؛ سأكتب عن كل من أحببتهم ولم يحبوني. عن هزائمي؛ عن من أحبوني ولم أحبهم، عن من خذلتهم وخذلوني، عن الحماقات التي ارتكبتها بحق نفسي، عن الظلم الذي ألحقته بي وغيري، عن الندم الذي يعتريني في لحظة لقاء عابرة مع النفس، عن فراري المستمر مني، وعن خوفي من الدخول إلى متاهات ذاتي.

لو كان لي أن أكتب ما حذفت؛ كنت سأكتب أسماء من عبروا حياتي، وكل من أسعدها أو أفسدها، وكل من عذبني وكل من قتلني وكل من قتلته بلا رحمة؛ فلست بريئة لا من دمي ولا من دمائهم..

آثمة أنا وضآلة، مزاجية أيضا. أتعذب وأعذب غيري، ولست بريئة تماما كما تظنون؛ حذفت الكثير من الوجوه، ألقيت بها دون رحمة في هاوية النسيان، ولم أترحم على أصحابها، أبقيت أجسادهم مكشوفة ولم أذرف عليهم دمعة ولم ألقي بحفنة تراب واحدة. لعنتهم وتركتهم يموتون مرارا في العراء، قلت وأنا أودعهم: “لتأكلكم كل السباع والوحوش ولتنهش أجسادكم الغربان، ولينخر النمل عيونكم، ثم استدرت ومضيت”.

حذفت نفسي أيضا وكثيرا؛ ألغيتها تماما.. فإن كنت سأكتب المحذوف، فلن أكتب إلا نفسي.

 

          • مساء 30 حزيران 2021

دخلت عزلتي المعتادة، تركت للعتمة الحرية المطلقة لخلق خيالات سترافقني حتى بزوغ الفجر؛ ولكي يكتمل المشهد وتُخلق الحكاية من ظلال وخيالات، لا بدّ من التحديق مليًا في سقف الغرفة الذي يبدو كالمعتاد بلا لون.

حدّقت طويلا، لم أر أي تفصيل صغير لحكاية يمكن أن تنكتب على هذا السقف الفارغ تمامًا من كل شيء حتى الأشباح. وعرفت بحكم التعود والعادة أنها ليلة ليلاء، بلا خيال ولا حكايات.

حوّلت نظري إلى الحائط الباهت وأنا أرسم عليه خيبة أمل أخرى.. لا أتذكر كم مرة خربشت على الحائط خيباتي؛ أظنها كثيرة لدرجة اختلطت فيها الخربشات والخيبات، ولم أعد قادرة على تصنيفها لا من حيث الخط الزمني، ولا أنا قادرة على إعطائها أي تسلل منطقي، وللأمانة، أنا لا أكترث كثيرا؛ لتكن خربشات فوق خربشات، أو تراكم خيبات فوق خيبات، أو لتكن حتى سنوات عمر بلا معنى ولا فائدة، لتكن تعداد سنوات في سجن أو معتقل.. أليست الحياة سجننا الأكبر؟

ثم إن من عاداتي القبيحة التي لم أستطع التخلص منها بتاتًا الكتابة فوق الكتابة، تسألني كيف؟ سأقول لك باختصار.. حينما تتشكل على أصابعي فكرة ما وأعجز تماما عن التخلص منها، حتى لو قمتُ بحك أطراف أصابعي بهذا الحائط الخشن، وحتى لو أدميت أصابعي وفاض دمي على الحائط تبقى الفكرة هناك؛ وأعرف أن الطريقة المثلى للتخلص منها بتدوينها على الورق، وأحيانًا لا أعثر إلا على دفتر مدرسي قديم عليه خربشات قديمة، ولأن الفكرة الوحيدة التي تلح عليّ حينها هي التخلص من الفكرة بكتابتها، أكتب دون اكتراث، ولا اهتمام ولا أشغل نفسي إن كانت قابلة للقراءة أم لا.. المهم أني أزحتها وانتزعتها أخيرًا من رأسي.. هكذا أرتاح وتعود لي هدأة نفسي.

ألقي بالدفتر في مكان ما، وقد أعثر عليه بعد حين، وأبدأ أقلّبه، وتبدو كل محاولاتي عابثة، فلا أستطيع فصل الكلمات عن بعضها أو فهم طلاسمه.

لا أعرف لم أُدخلك في متاهات نفسي، ولم أقص عليك حماقاتي الصغرى، وهل هذا حقًا ما أردت قوله؟

طبعا لا، لكنني أحاول أن أدخل في كل الطرق المتعرجة خشية أن ألتقيك وجهًا لوجه، أحاول أن أتفادى وجهك ونظراتك، بل إني أقاومك بكل ما أوتيت من ضعف، فانكسار القلب مرة أخرى ليس بالأمر الهيّن ولا السهل، إني لا أريد العبور إليك من ممر الضوء كي لا أحترق، ويروقني مثلا أن تبقى مجرد فكرة تلّح عليّ ولا أكتبها، أدمي أصابعي وأعضّها ولا تزول، أحك بها جلد ليلي المسيج بالشوك والخوف وتبقى عالقة، لا تسقط ولا تُمحى كوشم الأبدية على جسد، أو شامة سرية في القلب لا يعرف مكانها إلا أنت وأنا.

وهل هذا أيضًا ما أردت قوله في هذه المقدمة التي تبدو مثل حشو زائد لا يزيد ولا ينقص المعنى، هل هذا ما يجعلني أقلّب نظري بتأفف بين السقف الباهت والحائط متعدد الخطوط والخربشات وكأن ألف أسير مرّ من هنا؟

حتمًا لا، ليس هذا ما يجعلني أتقلّب على نفسي هذا المساء، كل ما في الأمر أني أشتاقك وأريد أن أُدخلك إلى حلمي على نحو ما ولم أعثر على فكرة واحدة تجسدك في واقعي، ولا في حلمي، قلت أحتال وأبتكر؛ سأمشي على رؤوس أصابعي حتى الشرفة، أتجاوز حراس الليل الحمقى، أخطف بعض وريقات النعناع، وأعود مسرعة لاهثة إلى فراشي، وبخفة سارق أخفيها تحت الوسادة، وبخفة ساحر أستحضرك بها لتكون ماثلاً أمامي.

أغمض عينيّ، أفتحهما، يتلون السقف بالأزرق، ألمح ورقة نعناع واحدة، ثانية، ثالثة، حوض أحواض كثيرة، يضرب النعناع جذره على الحائط، تورق على الخطوط والخربشات أوراق صغيرة نضرة، وفي كل مرة أمدّ فيها أصابعي إلى زر قميصك الأول تعبق في أنفي رائحة نعناع بري.

هل تعرف النعناع البري؟ أنا أعرفه، عندما كنت صغيرة بعمر شتلة منه كنا نذهب إلى النبع، نلتقط أوراقه البرية وتعدّ لنا أمي منه أقراصاً.. واليوم لا شيء؛ لا النبع، لا النعناع، لا أمي ولا أقراصها.

يا إلهي، لم أقص عليك كل هذا؟ كل ما هنالك أني أحاول فقط أن ألتقيك في الحلم، ولأنني عاجزة أن ألتقيك في أي واقع عابر اختلقت قصة النعناع هذه، ربما اختلقناها معا، قلت لك: “لو كنتَ على مرمى بصري ويدي سأعدّ لك كوب شاي بالنعناع، وأجلس أمامك أراقبك بصمت وأنت ترتشفه على مهل، وقد تثير الورقات الخضر شهيتي، وقد تأخذني الرائحة إليك، وقد أتذوق الشاي للمرة الأولى من شفتيك، فأنت تعرف جيدًا أني متحيزة للقهوة!”.

وضعتَ الكأس جانبًا وضحكت، قلت لي ممازحا “جربي القهوة بالنعناع!”.

ولأنني حمقاء خضت التجربة غطّست خصلة منه في فنجان قهوتي.. لم يكن الأمر بهذا السوء لكنني ضحكت من حماقتي ومن حماقات الحب. ولا أعرف إلى أين أخذتني الرائحة والطعم، ولا أعرف إن كنتُ رأيت في خيالي أو في منامي أني أقطف عن صدرك وريقات نعناع يانعة، وهمست لك “خبأت لك في صدري شتلة صغيرة من النعناع البري تموت عطشًا لشفتين مبللتين!”.

ولا أعرف كيف اختلط حلم بحلم وكيف غمرتني الرائحة، وكيف استيقظتُ على صوتك وأنت تهمس في أذني وعبق الرائحة يوقظ حواسي كلها، ولم تقل سوى جملة واحدة.. “نعناع يفيض من الجسد!”.

 

          • مساء 17 تموز 2021

لوحة: وضحة مهدي
لوحة: وضحة مهدي

معضلة الكتابة أنها اعتراف مبطن بما تخفيه دواخلنا من سعادات مسروقة أو خيبات لا تنتهي، كيف أجعل منك قارئي الأوحد وأنت لا تقرأ، هل تفعل؟ لا يهم، كل ما في الأمر أن تراكم الكلمات ينهكني ويثقل على قلبي، فأستصرخ البياض اللامتناهي وأسكب عليه حبري البنفسجي. تجلس أمامي، تخفي غموضك في ياقة قميصك، تراقب ارتباكي كما المرة الأول التي جلست فيها أمامك لا يفصلني عنك سوى هذا الارتباك، وذاك الكتاب، كنتَ تسافر عبر الصفحات تقرأ هنا وهناك، وكنتُ أقرأ صفحة وجهك، أسترجع بها زماني الذي مضى، تجسدّتَ أمامي حقيقة لبرهة من الزمن، كان بإمكاني أن أتحسس كفك وقد كنتَ على مرمى كفي، كان بإمكاني أن أفرغ لك كل ما في قلبي، كنتَ مرآتي التي ألمح على حوافها انعكاس روحي لا وجهي.. كان بإمكاني أن أمنحك أثمن عطايا القلب.. لكنَّ غموضك المتخفي في ياقة القميص وقف حائلاً بينك وبيني، هل رأيتُ الوجوه التي أحاطتني وقتها؟ هل سمعت الكلمات التي تناثرت في فضاء تلك الغرفة الصغيرة؟ لم أسمع إلاّ صوتك ولم ألمح إلاّ وجهك. كان صمتي سيد موقفي وغموضك سيد موقفك، إلاّ أنّ نفسي التي انفصلت عني لحظتها وقفت أمامك وأخبرت عني كل ما كتمه صوتي.

كلماتي صوتي الوحيد الذي أعبرُ به ظلمات الواقع، أستند على الحرف كي أعبر من نفسي إلى فضاء أكثر رحابة، أتشبث بأطراف أوراقي كي أُحلّق بعيداً من هنا.. بعيداً حيث المكان غيمة والزمان نجمة والأفق أزرق..

لو كنتَ تقرأ، أو كنتَ تسمع لكان لكلماتي وقع آخر، ولصوتي يدين، كنتُ سأختار من الورد البنفسج ومن العطر الياسمين أمزجهما في كفي وأكتب لك كل ما هو لك، لو كنتَ قارئي كنتُ سأمنح بقيتي لك، وحاضري لك، وقادمي لك، وكل ما هو خلف الغيمات البعيدة لك، كنت سأنزع عني معطف صمتي وأزيح عن ياقة قميصك غبار الغموض.. فقط لو كنتَ تقرأ.

 

          • مساء 25 تموز2021

صار همي الوحيد أن أنتهي من هذه الرواية الملعونة، ولا أدري إن كانت كلمة “هم”، و”ملعونة” تتناسب مع رواية، أو قراءة رواية؟

للعام الثاني على التوالي وأنا عالقة بين صفحات هذه الرواية التي سأسميها هنا “الرواية الملعونة”، وليعذرني كاتبها على هذه التسمية.. ربما هو يعلم في قرارة نفسه أنها كذلك، وربما لا يعلم؛ فلم أسمع أبدا عن كاتب يقتفي مصائر كتبه ولا قرائه، أي بمعنى أثرها وتأثيرها! ولن استخدم ما اصطلح عليه النقاد من تسميات، مثل المرسل والمتلقي…فأنا لا أنبش في تأثيرها من حيث التلقي والقبول وغيره مما يندرج تحت مسميات النقد والأدب.

أنا أكتب عن حالة غريبة، وعن صدفة عجيبة أدخلتني في مداراتها؛ فصار الكتاب لعنة تلاحقني، وكلما قلبت صفحاته هبت علي النكبات والأعاصير من حيث لا أدري. أتركها، ألقي بها بعيدا، أبتعد عنها لشهور، ألعنها وألعن كاتبها.. لكنني أعود، أحس برابط غريب يربطني بها، بسحر أقوى من إرادتي، فأجدني منساقة إليها مرة أخرى.

تقولون” الأمر هين، لا يبطل عمل السحر إلا النار.. أحرقيها ولينته كل هذا الجنون. “

لكنني لا أتفق معكم، قلت لكم.. الأمر يفوق إرادتي؛ وسأكون صادقة أكثر أريد أن أصل إلى نهايتها، ربما إلى نهايتي.

لا أحب النهايات المعلقة، أريد أن أقرأ نهاية الرواية متزامنة مع نهايتي. ولا أعرف كيف ستكون! الأمر أشبه ما يكون بمشاهدة فيلم رعب، ترعبك مشاهد القتل والدم والموت.. لكنك تصر على الوصول إلى النهاية، حتى لو مات البطل.

 

          • مساء 26 تموز 2021

أكتب لأسخر من غيابك الطويل..

الحماقة أن أتوقف عن اقتراف الحماقة. لم، ولن أفعل؛ لكنني غبت في نفسي قليلا، دخلتها للحظات أبحث فيها عنك، وكنت هناك، وكان لابد من الكتابة لك وعنك؛ لأسخر من غيابك الطويل. أقصد من هذا الغياب الذي لن ينتهي إلى حضور، وليس حضورك أو عدمه ما يؤرق قلمي وليلي. بل ربما أنا في قرارة نفسي أريدك أن تكون الغائب الأبدي! أما لماذا؛ فلكي أكتبك، أقصد لأكتبك كما يحلو لي.

كم مرة أدخلتك نصوصي وعلى هيأت مختلفة، كم مرة تحايلت وبدلت تفاصيلك وملامحك، وكم مرة نظرت إلى نفسك في مرآة نصوصي وقلت “كأنني أنا..؟”.

وكم من قارئ قال “كأنه هو..؟”.

وكنت أنت لا أحد سواك؛ صغرت وكبرت في نصوصي ولم تمتلك حق الاعتراض؛ وتلك كانت إحدى فضائل الغياب.

اليوم انتهيت من قراءة “الرواية الملعونة”، ولا أدري لماذا طبعت على غلافها قبلة حين انتهيت، لا تنظر إليّ هكذا؛ فأنا لا أقصد أبدا أن أثير غيرتك.. ولم قد تصيبك الغيرة من مجرد رواية؛ كل ما في الأمر أنني شعرت وأنا أطوي الصفحة الأخيرة أني أحبك أكثر، لا علاقة لخاتمة الرواية أو نهايتها بشعوري ولا مشاعري.

أعرف أن الحديث عن الأدب والكتب والكتابة لا يروقك؛ ستقول لي ” متى تكبرين يا بنت؛ كلام الأدب لا يروي القلب؛ الكلام يبقى كلاماً. والكلمات لن تخلق واقعاً مهما كانت واقعية..”.

“لا أريد أن ندخل في جدال عقيم…” قلت لك.

كل ما في الأمر أنها كانت قبلة عفوية، لا تخف تجنبت اسم الكاتب وأنا أطبع القبلة..” وضحكت، وضحكت لضحكتي. نظرتُ بعيداً بعد أن تلاشت الضحكة، كنت أتجنب النظر في عينيك؛ قلت بصوت خافت” لا أدري هل كنت سعيدة، أو خائفة حين بلغت النهاية؛ لأنني كنت أربط مصيرها بمصيري والعكس صحيح. ربما كانت قبلة شكر لأنني انتهيت بسلام، هل تصدق.. للحظة كان سيكتشف أمرها وأمري؛ ولو حدث ما كنت أخشاه لكانت كارثة!

استغربت وأنا ألفظ بخوف كلمة كارثة.. قاطعتني وقلت وأنت تخرج من ذهولك “كارثة…لا أفهم؟”.

ولأنني لم أشأ أن أثير مخاوفك أكثر؛ أخذت كفك بين يدي؛ وقلت وأنا أحاول أن أبدد خوفك وارتعاشة أصابعك. لا تخف؛ لم يمت أحد بسبب رواية؛ أنا هنا.. تلاحقني اللعنات منذ الأزل ولكنني مازلت رغم كل شيء على قيد الحياة، ولا فضل لي في بقائي لكن أوان الموت لم يأت بعد.

 

          • مساء 28 تموز 2021

وكان عليّ أن أصدق أن ما كان بيننا كان حقيقة، أو أقرب ما يكون إليها؛ لا لشيء إلا لأغفر لي ما ارتكبت بحق نفسي من عذابات انتظارك، وما اقترفت بحق قلبي من حماقات لا تعد ولا تحصى.

كان علي أن أصدق كي أستمر، وإن تسألني بأي شيء أستمر؟ أقول لك كي أستمر في تصديقك؛ ألم تقل لي يوما “سنكون أنا وأنت الحكاية التي لا تنتهي..!”. ولا أدري لم كان علي تصديق هذا الجملة التي تبدو كأنها مقتبسة من رواية ما، لم علي أن أخالف معتقداتي أنا التي كنت أكررها مرارا بأن الحب المقتبس ليس بحب، وكل حب يولد من رواية أو يقتبس منها لا يعول عليه فكيف صدقتك، ومشيت مغمضة العينين وراء وهمك؟

كيف لجملة أن تكون بداية حكاية، وكيف ارتكبت حماقة الحب.. حبك؟

صدقتك لأنني أردت أن أصدق، وقلت في نفسي ولها وأنا أطمئنها ” الحب الذي ولد في ليلة ماطرة طاهر وصادق، جاء محمولا على غيمة، وحين سقط في قلبي كان قد تعمد بأصابع الريح التي أوصلته نقيا إلى قلبي، فكيف لا أصدق؟!

وصدقت وعد المطر وفتحت قلبي لانهمار قطرات حب بكر في حواشيه. ونمت ليلتها وأن أرهف السمع لأصابعك التي كانت ترتب إيقاعات قلبي وتبعثرها وكان صوتك يحكي على مسمع الليل قصة البداية.

وكانت البداية، وكان انبهاري بها كما يكون الانبهار بكل بداية.

أغمضت عيني ليلتها وأنا أطوي الحكاية تحت رأسي، وأتشبّث بوعودك، وأعزف كلماتك على أطراف أصابعي. وأغمضت عيني على صورتك، ونمت؛ ورأيت في منامي ما اختزله عقلي وما خبأته مخيلتي، وما خزنه سمعي وبصري. وكانت الليلة الأولى التي تختفي فيها الكوابيس، ويصمت فيها عواء الوحدة، وتكف فيها مخالب الضجر عن نهش قلبي. نمت كلحن أخير على وتر.. اهتز الوتر اهتزازات متتالية قبل أن يرتخي ويعود لما كان عليه من سكون وترقب وانتظار. وانتظرتك كثيرا… وكان الليل موعدنا المرتقب، أتحينه كي أختلي بك، وكنا نسرق أنفسنا من واقع ثقيل، نهرب أحلامنا الصغرى في لفلفة وقت مختلس.

وكنا نختلس السعادة ونفرح لسرقاتنا، ونضحك من سذاجتنا.

كان الليل لنا ولم نحلم بأكثر من ليل، واكتفينا بساعات تمضي سريعا مثل برق.

ثم ماذا؟ لن أقول ماذا، فما زال غيابك غصة في حلقي وليلي. أسألك السؤال للمرة الألف، هل كنت هنا حقا وهل كنا، وهل كان علي أن أصدقك، وكيف انتهت الحكاية التي لا تنتهي، ومن مزق الصفحة الأخيرة، وما مصير الليلة الثانية بعد الألف؟

وغبت وتركتني للحزن..

والحزن لا يباغتني إلا ليلا،

يصيبني بالهشاشة،

وحالة أقرب ما تكون إلى الشلل،

يتقوس ظهري،

ترتخي أطرافي،

يحدودب ظهري أكثر،

يرتطم رأسي بركبتي،

لا سلطة لي على جسدي،

أتكوم على نفسي،

أتكور في رحم المعاناة،

أسبح في اللاشيء،

أعوم في هذا السائل اللزج،

يدخل الماء إلى رئتي،

أختنق به،

تتملكني محاولة يائسة للصراخ،

أصرخ بلا صوت،

لا أحد يسمع،

أشرب الصمت اللزج،

أفتح عيني في ماء متعفن،

تنمو الطحالب فيهما،

أرى لا شيء..

لا أرى،

وحين أفتح فمي لأصرخ للمرة الأخيرة..

يشربني عدم لزج.

 

          • مساء 3 آب 2021

سألتني بيقين من يمتلك مصباح علاء الدين وفانوسه السحري “بماذا تحلمين؟”.

لو كنت أطلب النجاة من الحماقة لقلت “لا شيء”… لكنني لن أفعل ولا أريد النجاة.

ولكي أستعيد حلمي؛ أغمضت عيني واسترجعت تفاصيله كلها.. قلت لك بيقين من يعلم أن الأحلام وتحقيقها خارج منطق الواقع، ولم تكن يوما في متناول يديه، قلت لك “أحلم أن أتلاشى؛ ربما أن أتحول بكليتي إلى نص.”

قلت “لا أفهم!”.

قلت لك “ولا أنا أعرف كيف!”.

لو كنت حقا تمتلك ذاك الفانوس السحري لقلت “حك لي حلمي عليه، وصيرني إلى نص بغمضة عين، ولتكن تلك أمنيتي الوحيدة والأخيرة التي ستكلفني عمري كله. لتكن، من قال إني أكترث!”.

الفكرة تراودني منذ مدة، لكن الكلمات تخونني كلما كتبت؛ الأمر أشبه ما يكون بنحت تمثال من قطعة رخام خرساء.. الرخام بين يدي لكنني لم أصل إلى الملامح النهائية بعد؛ الوجه تنقصه بعض التفاصيل، واليدان مازالتا بلا أصابع!

أريد أن أكون صلصال حكايتي؛ أن أشكلني بيدي، وأن أتلاشى، وأن أتماهى في الجزيئات.

ضحكت وأنت تراني على كل هذا الحماس والإثارة، لدرجة أني وقفت على قدمي ولم أنتبه أني صرت أشكل العدم بين يدي وكأنه غيمة ماء وصلصال. كنت أشكل وهمي بيدي وأنا مغمضة العينين، وحين فتحتهما لم أجد بين يدي شيئا.

قلت لك “لا تنظر إلي بإشفاق وأنت تراني أحاول بعبثية تامة أن أخلق نفسي بيدي، وفي كل مرة أفشل. لا تنظر إلي هكذا؛ سأكون يوما ما أريد، سأتحول إلى نص، لا بدافع الكمال وإنما الاكتمال. أحاول أن أملأ فجوات الغياب بالكلمات، وأن ألتقط ما تساقط مني، وأن أعيد ترميم ذاتي ولو كان كل ذلك في فضاء نص، ومن صلصال كلمات.”

كلما كتبت شيئا قلت هذا أنا.. الآن اكتملت، الان أستطيع أن أسلم نفسي لعدم مطلق، الآن أستطيع أن أنزف دمي حتى النهاية بعد أن نزفت روحي على الورق. الآن انتهيت.

وعندما أخرج من التمثال وأتأمله وأمرر أصابعي على المنحوتة، وتسقط أصابعي في بعض الفجوات، أو ترتطم أطرافها ببعض النتوءات، أدرك حينها أني لم أكتمل. أتأمل خلقي مجددا وأجده ناقصا، فيه أناي غير المكتملة، فيه صلصالي ورخامي ولكن بلا روح، فألعن ما خلقت وأعيد النص إلى بدايته، وأعيد صقلي من جديد.

لا أعرف كيف استمعتَ وأنصتَ بصبر حكيم لكل هذه الحماقات، لا أعرف كيف احتملت جنوني. لكنني أرى في عينيك تلك النظرة التي أعرفها جيدا، وأعرف كيف امتزجت الدمعة بالشفقة والعطف.

“لا تشفق علي” قلت؛ فكل خالق أدرى بما خلق؛ وأنا حاولت خلق نفسي من نتف حكايا، وكنت على استعداد تام أن أتخلى عن كل صفات البشري في لأصير نصي. لا أقول أن أتحول إلى ملاك، بل إلى نص مكتمل!

فشلت، أتدري كيف؟ لأنك الآن ترى من وراء كلماتي امرأة، دمعها أو قلبها أو ارتعاشاتها؛ وهذا يعني أني لم أكتمل بعد. ولا أعرف كم مرة علي المحاولة لأصير نصي المكتمل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.