رسالة إلى ديما

السبت 2022/10/01
لوحة: إسماعيل نصرة

عزيزتي ديما

أعلم أنك لا تشاهدين التلفاز، ولا تسمعين الأخبار منذ وقت طويل، ترفضين أيّ اتصال مليء بالهزائم، أو أيّ رسالة محملة بالشوق لأرض ضجت بالانكسارات؛ فالأمور وصلت حد التخمة وبات الواقع أشد ضراوة من الخيال، وصار واجباً الكتابة باليد اليمنى عما جرى في بلادنا، بعد أن بترت يدي اليسرى وشيء من الكبد.

ربما وشى لك أحدهم أن انفجاراً وقع في المدينة، وأن الشظايا تطايرت فأصابت عين الشمس وأحرقت الحقول المجاورة، وربما قال لك إن المدينة ترتجف من الصقيع ولا أسمال تستر خوفها وجوعها، فإذا ما ذكر ذلك فصدقيه.

لم يعد هناك أيّ مقعد في المقهى المجاور للبحر، لقد التهمت النيران كل شيء، احترقت الأخشاب لتصدر طقطقة كأنها قصيدة ثائرة، ورفاق الشِّعر ماتوا بصمت، دون أيّ مشهد مهم يلفت انتباه وسائل الاعلام التي انتشرت في المكان.

أتذكرين الحوار الذي جرى بيننا قبل عام في الزاوية التي أشبعتك فيها قبلات شرهة، كأنك كنت تريدين الانتقام من الآخرين لأننا لم نحظ بلذة كاملة:

ستموتون أيها الرفاق في هذا المكان الضيق/المعتم، ولن يبكي على موتكم أحد.

نحن لا نموت يا عزيزتي، نحن الحياة.

هكذا أنتم، تعتقدون أنكم مركز الكون.

نحن مركز السعادة عند الأدباء والفنانين الواعدين.

إنهم مخدوعون بكم، فأنتم عدم.

إذاً، اقرعي نخب العدم عند رؤوسنا، ونحن نسكر في القبر.

مشكلتكم أنكم تفلسفون الأمور، تجمّلون الخيبة بكلام منمق، لهذا ستظلون بلا قيمة.

نحن خالدون بما نكتب.

أنتم إلى زوال…

***

لوحة: اسماعيل نصرة
لوحة: اسماعيل نصرة

عزيزتي ديما

اليوم فقط فهمت رسالتك قبل أن تغرقي في دمك أمام المتظاهرين: “إن أعادوا لنا الأرض، فمن يعيد لنا الشهداء”. ترى كيف سيعود المقهى وقد خلت الأماكن من رائحة عطرك والأغنيات؟ كيف سيعيدون نصب اللوحات والصور التي مضت عليها سنوات طويلة فباتت معلماً لا يمكن تجاوزه؟ الجدران المتآكلة، الفئران التي تجري بين أقدامنا فنحدث ضجة وجلبة بحثاً عن أقراننا في التشرد، صوت النادل الخمسيني وهو ينادي “يلله جاي” بعد أن وسدته شظية غادرة التراب. كيف وقد وعدت مؤسسات دولية أن تعيد بناء المقهى بطراز حديث لا روح فيه، بلوحات لفنانين جدد لا نعرفهم؟ المهم أن نلزم الصمت ونبارك النظام اللعين في دولتنا الرشيدة.

ربما ستطلبين مني كالآخرين الكف عن الثرثرة، لئلا ألحق بك… وأنا أحاول إطفاء الغضب الكامن بداخلي، مصلياً أن يأتيك الصراخ برسالتي؛ فإن وصلت، اصعدي إلى سدرة المنتهى وأَلقيِ بسلة الأسئلة في غابات التيه، اسألي الأنبياء والرسل، الوعاظ والسلاطين، الحكام والقضاة، الأولياء والنساك عن سبيل لليقين والوصول. اسأليهم –بالله عليك- كيف سيعيدون الحكايات والقصص المسلية التي يتحفنا بها المتخمون بالفقر؟ الأغاني التي يكتبها الهاربون من زوجاتهم والديون الطائلة؟ كيف سيعيدون المهمشين عن خارطة الأخبار؟ كيف يا عزيزتي وهم ليسوا سوى أصفار بلا قيمة عند صناع القرار والمسؤولين في الدولة؟

إنهم ليسوا وزراء أو نوابا أو حتى شخصيات اعتبارية كي تضج مواقع التواصل الاجتماعي وواجهات التلفاز بموتهم، يكفي أن تستيقظ المدينة على خبر عاجل: “محاولة اغتيال فاشلة للوزير فلان أو النائب علان أو حتى القائد فلان العلان”. أما الآخرون الموجوعون بسبب ذلك الفشل، فإنهم هامش على ورقة الحياة، يمكن للمسؤولين أن يتجاوزوها دون تفكير، بلا شعور بالذنب، حتى الدراجة الهوائية للطفل الممدد على الأرض، والزجاج المتناثر في محيط الانفجار لمطعم صغير يملكه عجوزان فقدا شاباً في معركة، والفتاة التي تمسك في يدها اليسرى وردة حمراء، والمرأة مبتورة الرأس، كلهم يا رفيقتي بلا قيمة، وذكرياتهم لا تعني أحداً، مجردون من المعنى، والحكاية فقط هي محاولة اغتيال “ابن القحبة” الذي عاش يحصد مالنا ودمنا وأحلامنا وحتى ذكرياتنا.

لعلهم لا يذكرون لك شيئاً في سماواتك العلا، أو أنك لا تريدين سماع المزيد من القصص، لذا كان لا بد أن تسمعيني للمرة الألف، كي لا يخدعك رؤساء الوزارات والهيئات والاتحادات والسلطات ممن غادروا الحياة بتخمة في المعدة أو بفايروس كورونا المستجد.

ستقولين في فردوسك الأعلى بسخط بينما أندب حظي العاثر: “أريد أن أحظى بكل دقيقة معك دون خوف من الحاضر أو المستقبل، أريدك أنت، خبري الطازج والعاجل، أريدك خبزي وقهوتي وجنتي أيها الأحمق المثقل بهموم الآخرين”.

الآن؛ لا أجد من يخبرني عنك أو يذكرني بجنونك الأزلي، رقصاتك في وضح النهار أمام المارة المكبلين بالديون، قبلاتك عند مفارق الطرق، عناقك الدائم لي عند زاوية المقهى المنسي، رسائلك التي لا تتوقف كل ليلة، لتوقظ فيّ شغف الحياة.

***

ديما

هل كان يحدث كل هذا يا صديقتي أم أنني أتخيل الأحداث كما أتمنى؟ هل أنا حي مثلك أم متّ بعدما سقطت هراوات رفاق السلاح على رأسي لأنني متمرد على قصيدة الزعيم؟ هل أنت حقيقة أم وهم أيتها الطارئة على متن هذا النص، تماماً كالأخريات اللواتي تنصلن عن كل لحظة فرح قضيناها في حضرة النبيذ والعرق؟

عزيزتي

إن أعادوا لنا الوطن، فمن يعيدك لي؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.