رشيد الخيون المبتلى بالثالوث المعرفي

الجمعة 2015/05/01
رشيد الخيون بريشة جمال الجراح

بين اعتباره باحثاً في كل ما يصله بالشأن العراقي، في مكوناته الدينية مرجعاً، واعتباره مفكراً، وهو يتعدى حدود البحث، لحظة الذهاب بالمقبوس إلى ما وراءه وتبيّن نسابته الثقافية وقيميّتها، وتأهله بالرؤية النقدية بصدد ما يبحث فيه ويتفكره وينهم به من وجوه عدة بغية تلمس المفارقات العالقة، يحمل العراقي رشيد الخيون كتابه الثقافي الكبير والمنير بأكثر من معنى في يمينه٠

يغامر رشيد الخيون في وضع إيلامي، حيث لا أعتقد أن هناك من يحسده فيما يقوم به ومنذ عدة عقود زمنية، طالما أن الذي تحقّق باسمه من كتابات لافتة بتوازنها البحثي-الفكري- النقدي، يتطلب جهوداً ومكابدة روحية، وخصوصاً حين ينتمي بداية إلى محيط جغرافي معتبَر هو العراق، وتالياً إلى محيط جغرافي أكبر هو العالم العربي، وثالثاً، حين يصار إلى ربطه بأوقيانوس برّي مأهول بألسنة وشعوب، أي العالم الإسلامي، وأن أنسى لا أنسى، فهو انتماؤه المقدَّر إلى ما هو إنساني، وهو الذي صيّره هكذا.بين اعتباره باحثاً في كل ما يصله بالشأن العراقي، في مكوناته الدينية مرجعاً، واعتباره مفكراً، وهو يتعدى حدود البحث، لحظة الذهاب بالمقبوس إلى ما وراءه وتبيّن نسابته الثقافية وقيميّتها، وتأهله بالرؤية النقدية بصدد ما يبحث فيه ويتفكره وينهم به من وجوه عدة بغية تلمس المفارقات العالقة، يحمل العراقي رشيد الخيون كتابه الثقافي الكبير والمنير بأكثر من معنى في يمينه، رغم أن ذلك وضع إيلامي، حيث لا أعتقد أن هناك من يحسده فيما يقوم به ومنذ عدة عقود زمنية، طالما أن الذي تحقّق باسمه من كتابات لافتة بتوازنها البحثي-الفكري- النقدي، يتطلب جهوداً ومكابدة روحية، وخصوصاً حين ينتمي بداية إلى محيط جغرافي معتبَر هو العراق، وتالياً إلى محيط جغرافي أكبر هو العالم العربي، وثالثاً، حين يصار إلى ربطه بأوقيانوس برّي مأهول بألسنة وشعوب، أي العالم الإسلامي، وأن أنسى لا أنسى، فهو انتماؤه المقدَّر إلى ما هو إنساني، وهو الذي صيّره هكذا.

العراق الغيور بعقله

يعتبَر رشيد الخيون في صدارة المعنيين بالحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي في العراق، ومقاربة مغذياته، متحرياً دور الفاعل الديني وتشعباته، وكيفية تشكل المذاهب الدينية وتلاوينها، ومن ثمة بروزها في مواقع مختلفة فارضة حمولتها القيمية بظلالها ورداتها العنفية كما هي تلال الجليد العائمة على مياه محيط لا يهدأ، ولعل توصيفاً كهذا، كما أعتقد، يختصر شخصية الخيون الريادية في هذا المضمار المفتوح.

نعم، يمكن التذكير بالدور الذي قام به جواد علي “1907-1987 “، في “مفصّله” الشهير، وما ألّفه عباس العزاوي “1888-1971“ وترك بصمته الثقافية، وتحديداً في ” العراق بين احتلالين-8 أجزاء”، وحتى “عشائر العراق-أربعة أجزاء”، وعبدالرزاق حسني “1903-1997“، فيما يشبه التأسيس لثقافة تاريخية عراقية حديثة، من خلال مجموعة كتبه، وفي الواجهة “تاريخ الوزارات العراقية”، ومن ثمة الباحث الاجتماعي الكبير علي الوردي “1913-1995“، في موسوعته “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، وثمة آخرون لهم حضورهم البحثي في الشأن التنظيري السياسي “حسن العلوي، نموذجاً”، والشأن السياسي الفلسفي “ميثم الجنابي، نموذجاً”..الخ، لكن يبقى للخيون طول باعه وقد سعى جاهداً – ولا زال، في مجمل كتبه، وخصوصاً تلك التي لعبت دوراً كبيراً في التأريخ للأديان، ومن ثمة العودة إليها مراراً، إلى درجة تكرار مقاطع وأحياناً أقسام، في كتبه ذات العلاقة “بين: الأديان والمذاهب، ولاهوت السياسة، مثلاً”، ولعله بذلك يترجم خاصية الابتلاء بالثالوث المعرفي، وفي الساحة العراقية، كما لو أن كل تكرار، ومع إضافة، أو إنارة فكرة، تعزيز لحرارة هذا الهاجس المعرفي، إنما أكثر من ذلك، لهذا القلق الوجودي الخاص لديه، إن جاز ذلك، كما لو أن ما كان يستمر فيما هو كائن، وربما صوب الآتي.

هنا أشير إلى قائمة الكتب التي أمكنني التوقف عندها:

الأديان والمذاهب بالعراق، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا،ط 1، 2003.

رشيد الخيون: ضد الطائفية: العراق.. جدل ما بعد نيسان 2003، مدارات، بيروت، ط1، 2011.

المشروطية والمستبدة “مع كتاب: تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة” معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد- بيروت، ط1، 2006 .

المجتمع العراقي “تراث التسامح والتكاره”، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد-أربيل-بيروت، ط1، 2008.. الخ.

لاهوت السياسة “الأحزاب والحركات الدينية في العراق”، دراسات عراقية، منشورات الجمل، ط 1، 2009 بغداد-أربيل- بيروت.

100 عام من الإسلام السياسي بالعراق، دار المسبار، دبي، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 2011، 1-الشيعة-2- السنة.

إنها الكتب التي استأثرت باهتمامي، إلى جانب أنها تفرض حضورها وفي الآن الراهن تحديداً، بقدر ما تستجيب لأكثر من حاجة بحثية ومعرفية، وحتى في سياق الهم الوطني العراقي، وعلى مستوى أشمل عربياً، وبالنسبة إلى باحث الأديان وميكانيزمها التاريخي. الكتابة، من هذا القبيل، لا تسمّي طرفاً بعينه، إنما الأطراف جميعاً، وخصوصاً، لأن ما حاول الخيون القيام به، لم يقتصر على دين أو مذهب، أو فرع من أيّ منهما في العراق إلا وتجاوب معه، وربما لا أبالغ، وكما تابعت، أنه في كل مقاربة بحثية تاريخية وفلسفية ونقدية لعقيدة معينة، برموزها وفضاءاتها الثقافية، يخيَّل إليّ أنه يمارس ترجمة ذاتية لنفسه.

لا يعني ذلك إطلاقاً، أن كتابة ما، مهما أفصحت عن خاصية حيادية، تعدِم النسبة إلى جانب ذاتي ما في الكاتب، وهي من البداهات، والخيون يتعرض لهذه القائمة الكبرى من الأديان والمذاهب في العراق، اعترافاً له جهتها، جرّاء تأثيرها النافذ في مجالات الحياة المختلفة، ليس هذا فحسب، إنما لأن شاغله المعرفي يتجاوز به حدود العراق القائمة، انطلاقاً من المؤثر المذهبي المحيطي: الشيعي الإيراني خصوصاً.

الخيون لا يتعامل مع النصوص بوصفها طيّ غلافين، أو جامدة، أو تلتزم مواقعها المسماة فقط، إنما وهي نابضة بحيوات مذهبية ومواقفية وقابضة عليها في آن، بل هي التي تحفّز فيه إرادة البحث عن الحقيقة العائدة لكل منها، وتلك الجامعة فيما بينها، وتلك التي تحمل بصمته هو بالذات.

يقول في بداية كتابه “الأديان والمذاهب بالعراق”: (في المقدمة: تتعايش بالعراق أديان ومذاهب عديدة، متقاربة تارة ومتنافرة تارة أخرى. غير أن تقاربها وتنافرها لم يصل إلى حد الإلغاء، سواء بالضم أو بالهجرة القسرية.ص5…)، ولعله بالطريقة التعريفية وحتى المفهومية هذه ينطلق من أرض الواقع عملياً، من الجانب التراتبي لما يسمّي، فالسلطة رأس البلاء، وهذا ما نتلمسه في كتابه الآخر، والذي أرى فيه محاولة جادة ومأسوية في آن، لرأب الصدع المرئي، وتخوفاً مما هو مقدَّر، وأعني بذلك “المجتمع العراقي” تراث التسامح والتكاره” : (لم يشهد التاريخ العراقي مواجهات شاملة جامعة بين الأديان والمذاهب والقوميات، فلم نعثر على حرب عربية كوردية، أو كوردية توركمانية شاملة، أو مواجهات شيعية سنية شاملة، خارج سلطة أمير أو وال أو آغا. ص12).

هذا التوصيف ينبني على قلق اعتباري والذي يخص توجهات المجتمع العراقي بكل مكوناته، ولا أدل على ذلك، مما يستهل به كتابه الآخر”لاهوت السياسة: الأحزاب والحركات الدينية في العراق، دراسات عراقية”: (لا غرو أن ظاهرة التحزب الديني في البلاد العراقية، من التي ظهرت بوادرها في عشرينيات القرن الماضي، غدت بعد عقد السبعينيات منه تشكل ظاهرة خطيرة، حين تبدلت مطاليبها من الحفاظ على الحالة الدينية إلى المناداة باستلام السلطة بقوة السلاح. ص5).

وقبله ما ورد في مستهل كتابه “ضد الطائفية”: (ليس هناك أكثر تداولاً، في هذا العصر، من مفردة الطائفية، ودلاً ضدها، إذا علمنا أن واحداً من معاني الجدل هو شدة الخصوصية، فالكل يشير إلى الكل بتهمة الطائفي، مع أن الجميع، من القوى الدينية، وشخصيات اللادينيين، من الذين لا شأن لهم بدين، أو بإيمان، لكنهم يظهرون أكثر طائفية من المتدينين أنفسهم. ص7).

وربما أسمح لنفسي القلقة مثله، بالمضي قليلاً صوب أحدث كتبه، تبعاً لمعلوماتي، وهو “100 عام من الإسلام السياسي بالعراق”، حين يقول (يجمع مصطلح “الإسلام السياسي” كل الجماعات التي تتخذ من الإسلام، كدين، في تحركها السياسي أيديولوجية، وترنو إلى تطبيقه عند الوصول إلى السلطة، على أنه منهج للحياة صالح لكل زمان ومكان. ص9)، ومن ثمة لاحقاً (لا غرو أن ظاهرة الحراك الديني السياسي بالبلاد العراقية، التي ظهرت بوادرها في عشرينيات القرن الماضي، غدت بعد عقد السبعينيات منه تشكل ظاهرة سياسية خطيرة، حين تبدلت المطاليب من الحفاظ على الحالة الدينية والالتزام الديني المعقول إلى المناداة باستلام السلطة وبقوة السلاح، وفرض حالة التدين. ص13).

ما تردد هنا ليس تصعيداً بالموقف، إنما تقرير حال عن سوء الأحوال، إذ لم يعد ممكناً القول بأن الأديان والمذاهب، وخصوصاً في الآن الراهن، تتجاور فيما بينها دون منغصات، لا بل ومناوشات وتهديدات جانبية، ولا أصدق من المرئي والمسموع معاً، في ضوء التطرف المميت والناسف لكل عقد اجتماعي يمكن الالتفاف عليه وتبنّيه، والعنف الدموي الدائري في العراق وسوريا وأبعد منهما، وما هو متخوف منه، يكاد يحيل كل عقيدة أو مذهب ديني إلى ما يشبه حقل ألغام، وفي الشأن الإسلامي العملي في العمق.

وقد لا أكون مجانباً الصواب، إن أشرت إلى أن هاجسه المعرفي الآخر في “المشروطية والمستبدة”، قد تم تجاوزه هو الآخر إزاء تنامي سطوة العنف المهدّد لكل حيّز حياتي في العراق، وهو الذي ربط بين الصراع القائم بين المشروطية والمستبدة، وهما تتعلقان بكيفية تنقيح السلطة أو ضبطها، قبل أكثر من مئة عام، وأن أحداث العراق اليوم “إبان صدور كتابه ذاك”، تشابه مناخات ما كان “ص 6“، وفاجعة هذا التعيين، في إطار”صراع المرجعيات”، كما لو أن الزمن عدِم زمنيته، بقدر ما تراجع إلى الوراء سلباً، وفي الآن عينه، يكون الشيخ الميرزا النائيني، صاحب كتاب: تنبيه الأمة وتنزيه الملّة “للميرزا النائيني”، والذي ماثل كتاب الكواكبي “طبائع الاستبداد” قبل قرن ونيّف، حيث أفصح الخيون عن ذلك في “المشروطية والمستبدة”، خارج الرهان المتوخى، لهول الحدث طبعاً، أي أكثر بكثير مما ورد في كتابه عن أن الاستبداد يصل بالجهل (جهل يصل الإنسان بالبهيمية بالسيرة. ص 387-2)، وآفة الاستبداد الضارية والصعوبة الكبرى في مكافحتها (شعبة الاستبداد الديني وعلاج هذه القوة من أعسر الأمور وأصعبها، وذلك لشدة رسوخها بالأذهان والقلوب.. وأصلها من بدع معاوية بن أبي سفيان.. ص389)، سوى أن تمرير عبارة الاستبداد وإحالتها إلى معاوية باسمه المعلوم، تقويل لتاريخ مبالغ فيه بشكل لافت، لأن ثمة ما مهّد لتربة الاستبداد هذه، ومعاوية لا يعتبَر خميرة ظاهرة ورحمها، إنما الفاعل اللافت فيها بوصفها استبداداً يتمازج مع أهواء السلطة، ويكون النائيني الشيعي الإيراني فيما نظّر له وتحرَّى أمره ينتسب اليوم إلى المشروطية بشكل لافت، في تركيا، رغم مخاضها العسير في غرفة “عناية التاريخ المشدَّدة”، وليس الدستورية الإيرانية راهناً، إن نظِر في مسار “الجمهورية الإسلامية” ومسبار الدين فيها.

ولا بد أن الخيون الآن، وفي ضوء متابعاته القائمة والحثيثة يعيد النظر فيما كتبه، فيما كان مسموحاً به وصار محظوراً، فيما كان محظوراً في درجة خوفه، وبات مرعباً، وتلك القائمة الطويلة من الرموز الدينية وتداخلاتها مع السلطة وقائمة المثقفين بأهواء أيديولوجية بعثية وغيرها، افتئاتية من داخل المذهب الواحد، والعنف الموصول بالحركات أو الجماعات المسلحة في العراق “لاهوت السياسة، ف 6، ص 209“، وما من شأنه القيام بكتابة أخرى ومن نوع آخر، تعمّق في بنية ما هو معمَّق معرفياً، إنما لتلمس حدود العنف، ونسبه الديني والقيّمين عليه، أكثر مما قام به الشيخ الخالصي وكذلك محسن الحكيم في الستينيات في القرن الآفل في الإفتاء للسلطة بتصفية الخصوم “تكفيرهم وقتلهم”، ولعلها لعبة السلطة وغوايتها، حين يصبح قتل الآخر: الجار والقريب وشريك الوطن هو المطلوب رأسه، وربما أكثر من ذلك، داخل العائلة الواحدة، كون الغواية المذهبية إذا بلغت شدتها تتمثل النار التي تأتي حتى على شاعلها في نهاية المطاف المأسوية جداً.

ويبقى سؤال معلَّق، وهو: تُرى إلى أي درجة يمكن لباحثنا ومفكرنا وناقدنا المعرفي والعراقي، أن يحدد موقعه، والمسافة الفاصلة بينه وبين هاتيك الأديان والمذاهب ولاهوتها السياسي، ليتمكن من رؤيتها فيما بلغته من جنوح خارج المتوقع راهناً؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.