رعاف الحاسّة السابعة

الثلاثاء 2022/11/01
لوحة: مالفا عمر

تئنّ بصفة متواصلة، لا يعير أحد اهتماما لشكواها في الصّباح، ويعلو ضجيج الصّراخ والضّحك على نداءاتها التي تشبه نباح كلب يتسوّل حينا، ويهدّد أخرى طائرة يعتقد أنّها كرة صوف هاربة من عيون الإبر التي تجبرها على التبرّع بلحمها لبصيرة القمر، لتصنع منه غطاء تتدثّر به، ويحميها من اللسعات الباردة للنجوم التي تحسدها على ضياء مستعار. يتمتم القمر: “حتّى في الموت لا أخلو من الحسد!”.. ويغفو، ليمشي في نومه طريقا معبّدا في التكرار المؤبّد.

يشبه صوتها نباح كلب يهدّد السماء لترجع له ماعزه الذي شذّ عن القاعدة، وطار عاليا بعد خضوعه لعمليّات تجميل واستئصال وزرع، لتعويض القلب الذي يحبّ عزف النّاي بسذاجة، بآخر يجيد الرقص على أنغام “الميتال” و”الهارد روك”، هذا القلب الذي تكفيه أقداح الوقود التي تقدّم إليه بسخاء ليترنّح قليلا ثمّ ينطلق عاليا.

قد تغادر النّشوة القلب تاركة إيّاه وحيدا في الفضاء، فيفزع كطفل تاه عن أمّه في السّوق، ويبقى مكانه ينتظر قدومها، لا بدّ أنّها تبحث عنه وستطلّ ابتسامتها، ويحلّ المساء ولا تعثر الشّمس عن أمّه، تغرورق عيناه بالدمع، ويشعر أنّه قزم ستدعسه أقدام السحب العملاقة التي لا تعترف بوجوده، فيهرب إلى ذاكرته ويرى نفسه في مرآتها׃ إنّه ماعز وعليه العودة سريعا إلى المرعى قبل أن يغضب العشب من خيانته فيقرّر الرحيل.

ما قيمة حياته دون اجترار؟

لا تتوقّف عن الكلام إلاّ لتسترجع أنفاسها، وتعود لتوجّه إليهم حديثها، يهربون إلى النّوم تاركين إيّاها وحيدة، لكنّ، صوتها يحرمهم الرّاحة، ينتظرون أن تتعب فتخرس، أو يغلبهم النّعاس فيفرّون من لومها الذي يلحّ أن يتشبّث بأسماعهم.

يعمّ الصّمت لثانية.

تكاد الفرحة المقعدة في صدرها تهبّ من كرسيّها المتحرّك وتجري نحوهم، غير أنّها سرعان ما تنكفئ على وجهها، أملا ملّ من قذف الكرات لمنعها من السّقوط، أملا ما عاد مهرّجا منذ فقد أنفه.. سرقوا أنفه وفقد الحاسّة السابعة.

يدركون أنّها توقّفت لتخطف ضفدعا آخر تلقيه في رحاها، وترمي إليهم مستنقعه، يظلّ الضفدع يلقي أشعار الحنين إلى وطنه، أشعارا تصطاد السّاعات من بحر ليلهم الذي سيجفّ قريبا، وهم لم ينعموا بالسّباحة نوما.

حاولوا إقناعها بالسّكوت، أبت، كمّموا فمها بشريط لاصق، بصقته لتواصل حديثا تكرّره دون تعب.

اِضطرّوا بعد فشل المحاولات إلى جلب جار لمعاينة حالتها، اِستمع إليها طويلا علّه يعرف سبب معاناتها، ويدرك ما يعتمل بصدرها من هموم، سعى إلى دفعها للبوح بسرّ هذا الداء.. فجأة، صمتت وتشبّثت بالسكون، وحسب الجميع أنّ الأزمة اِنفرجت، والعافية اِفتكّت منها سياطا ما انفكّت تجلد به لياليهم لوعة.

بعد ساعتين من مغادرة الجار، عادت تتحدّث، لكن ليس بنفس الطريقة الأولى التي وإن كانت مستمرّة، إلا أنّها رصينة ومتأنيّة، أصبح كلامها جارفا كالسيل، فأسرعوا بجلب مختصّ مشهود له بالخبرة.

طلب منهم الانسحاب حتّى يتمكّن من الانفراد بها للتركيز في حالتها، وطمأنهم أنّه سيهبها الشفاء، ويرجع لهم الرّاحة التي سلبتها منهم، وأنّها لن تسبّب لهم إزعاجا، لن تحتجّ ولن تثور، سيتكفّل بإعادتها مواطنة صالحة تطيع أوامرهم، ولا تبذل طاقتها إلا في سبيلهم، و.. أغلق باب الغرفة.

لم يمض وقت طويل حتّى خرج وقد برّ بما وعد، لم يبالوا بتشخيصه لحالتها، ما همّهم إن كان الدّاء في اللّوزتين أو في القلب أو..؟.. المهمّ أن تكفّ عن إزعاجهم!

منذ ذلك اليوم، لا تتكلّم إلاّ عندما يسألونها، وتجيب طلبهم لتعود إلى الصّمت المطبق، أوهمتهم أنّها تخلّصت من حمّى العصيان التي أجبرها على الهذيان، واقتنعوا بتمثيلها دور المطيعة، الذي لا تؤدّيه اختيارا، إنّما ما عادت تريد أن يأتوها بذلك المختصّ أو غيره، ويعرّيها ليعبث بجسدها، ويمرّر أصابعه على جميع تفاصيلها ومفاصلها، تشعر أنّها تتفكّك قطعة قطعة بدعوى البحث عن مكمن الوجع، دون أن يلتفت لجرح لونها النّازف!

لا تريد أن يكتسحها ذاك الخوف من جديد، وهي في انتظاره للملمتها ويبتعد عنها، ما عادت تحدّثهم لأنّهم لا يريدون الإصغاء، واكتفت بمحادثة نفسها، تناجي أعماقها كما يحلو لها، اِكتفى بوحها بمعانقة الجدار دون العزف على أوتار الصّحون المكوّمة حتّى الصّباح في حوض الغسيل.

تحدّث الحنفيّة نفسها، وتنسكب الكلمات ماء، ويرعف أنف المهرّج دمعا ملوّنا، دمعا لا يتفطّن إليه أحد وهو ينسكب من الشريان الحديديّ المثقوب، ليترقرق وينتشر على صدر جدار المطبخ الذي تغطّيه المربّعات الخزفيّة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.