رواية التبدل العميق

الجمعة 2016/04/01

أدرك بأن الكثير منّا يزهد اليوم بأهمية وتأثير الكتابة في خضمّ الكارثة الإنسانيّة التي يعيشها السوريون اليوم. لكني أرى بأن أهمية الآداب، وخصوصًا الرّواية، تتضاعف وتتكثّف في هذه الأوقات بالذات. فالتأثير الآني السريع والبراغماتي، حدّ التوحّش، الذي تمارسه السّياسة، وكذا هيمنتها الطاغية والمدوّية على مصائر الشعوب، التي تجعلها تتمدّد بحروبها وبالدّم والبارود والكره، يقابلها الحفر البطيء والمتراكم الذي تشتغل الرّواية عليه بصمت. بمعنى: الصمت العميق للرواية مقابل الصخب الهمجي للسياسة.

فالرّواية تعمل اليوم، كما هي دومًا، على نقيض السياسة، كأنها صرخة ضدها، موقف مضاد، تصنعه بروية وهي تلج الأعماق لتنبش هناك بعيدًا عن سطحية الخبر والبروباغندات الإعلامية، ومن الدواخل تؤسس للمستقبل. وذلك التقلّب المجنون للسياسة، لعبة المصالح المتزايدة، لن يكون هناك بين طيّات رواية، فهي أشبه بحجر نُقشت عليه تعويذات سحرية!

ربما لن تُقرأ الرّواية اليوم، فكلنا منشغلون بالبقاء على قيد إنسانيتنا (بكل ما للكلمة من أهوال). ولكن، ولأنها ذلك التاريخ السري الذي يحكي حقًا ما حدث والذي يخالف ويعارض التاريخ الرسمي بكل نسخه، فسيقرؤها أولادنا وأحفادنا، سيقرؤها العالم، وبهذا لن تذهب حكاياتنا أدراج النسيان. ففي الرّواية ليس المهم عدد الذين ماتوا، الأرقام اختصاص السياسة، كنه الرّواية يركّز على قصة كلّ من هؤلاء الموتى على حدة، ما هي تفاصيله؟ وبماذا شعر لحظة الموت؟ هل كان الموت برصاصة قناص أو بقذيفة أو مات حزنًا.

العجز الاقتصادي بالأرقام وكم بيتًا تدمّر ليس عمل الرّواية، المهم هي تفاصيل كل بيت، وما هي الروائح التي كانت تفعمه، وقصص أرواح ساكنيه. هنا تتألق الرّواية.

عدد اللاجئين والأزمات التي يسببونها في بلاد اللجوء أمر مهم، لكن الرّواية تحكي عن الألم والقهر الذي كان يعتصر قلب الطفل الذي كان يقف في طابور الإعانة الطويل وينتظر علبة صغيرة فيها قوت يومه، وربما أسبوعه.

هذا ما تعمل عليه الرّواية، ولا أحد يمكنه أن يأخذ هذا الدور منها.

على كل، وفي النهاية، ليس للروائيين إلا أن يكتبوا، هذه أدواتهم التي يجيدون استخدامها، وهذا واجبهم الأخلاقي تجاه ما يؤمنون به، بغض النظر عن آرائهم ومواقفهم وفي أيّ جهة يصطفون في زمن الاصطفافات الهستيرية. ولا أعتقد بأن مقولة تجريد الرّوائيّ من أيديولوجيته الخاصة ومن مواقفه العامة هي مقولة صحيحة. الفن بكلّ أشكاله موقف وكلمة تبقى للتاريخ مهما اختلفت تمظهراتها. على هذا ستكون الرّواية صرخة أيضًا في وجه الاستبداد، في وجه القبح لتحريض الجمال، في وجه اليقين الاستبدادي لتوليد الأسئلة والنقد. أن نقول لا، عبر تلمّس تفاصيل الإنسان وروحه العميقة.

نُشر في هذه الفترة عدد كبير من الروايات، في معظمها تتحدث عن الوضع السوري الحالي أو أسباب حدوثه، منها ما كان أسير الانفعال والرؤى الضبابية، لكن مع ذلك هي ضرورية. ولا بد أن تخرج من هذا الكم تجارب جيدة. هي فترة للتفريغ والتعبير، تمهّد لتغيير حقيقي سيطرأ على المشهد الإبداعي بالعموم. فأنا أزداد اقتناعًا يومًا بعد يوم أن ما حصل ويحصل هو هزّة كبرى، تشبه الهزّات الكبرى التي حصلت عبر التاريخ من ثورات وحروب وكوارث، لن نعود كما كنّا، سيتبدّل كل شيء، والكتابة، الرّواية بشكل خاص، هي إحدى تمظهرات هذا التبدّل العميق.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.