روح‭ ‬المراهقة

ليس‭ ‬يرضي‭ ‬الفلسفةَ‭ ‬قولُ‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬يفسر،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تؤسس‭ ‬قولها‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬جرى‭ ‬التحقق‭ ‬من‭ ‬أحكامه‭. ‬إنها‭ ‬وهي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬المراهقة‭ ‬المفسَّر‭ ‬بيولوجيا‭ ‬ونفسيا‭ ‬أحد‭ ‬مفاهيمها،‭ ‬فإنها‭ ‬تمنح‭ ‬المفهوم‭ ‬نفسه‭ ‬فضاء‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الفضاء‭ ‬الممنوح‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬العلم،‭ ‬فتحرره‭ ‬من‭ ‬محدودية‭ ‬البيولوجي‭ ‬والنفسي‭.‬
الأحد 2018/07/01
لوحة: إلياس ايزولي

ما‭ ‬المراهقة؟

ليس‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بالأمر‭ ‬السهل،‭ ‬فالفلسفة،‭ ‬لأسباب‭ ‬أجهلها،‭ ‬لم‭ ‬تنشغل‭ ‬بهذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬فليس‭ ‬لدينا‭ ‬ما‭ ‬نتزود‭ ‬به‭ ‬ممّا‭ ‬يسهل‭ ‬علينا‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تعريف‭ ‬فلسفي،‭ ‬إلا‭ ‬بعض‭ ‬شذرات‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬تعليم‭ ‬الفلسفة‭ ‬للمراهق‭. ‬

بيولوجيا‭ ‬تنتمي‭ ‬الفئة‭ ‬العمرية‭ ‬من‭ ‬سن‭ ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭ ‬حتى‭ ‬الرابعة‭ ‬والعشرين‭ (‬يُختلف‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬السن‭) ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة،‭ ‬وهذه‭ ‬مرحلة‭ ‬تشهد‭ ‬نموا‭ ‬جسديا‭ ‬وهرمونيا‭ ‬وتغيرا‭ ‬نفسيا‭ ‬وعقليا‭ ‬يقيم‭ ‬قطيعة‭ ‬ظاهرية‭ ‬مع‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬ينشأ‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬بالأنا،‭ ‬وتتغير‭ ‬الحاجات،‭ ‬وتنشأ‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الانزياح‭ ‬عن‭ ‬المألوف،‭ ‬وتظهر‭ ‬عاطفة‭ ‬الحب‭ ‬بطابعها‭ ‬الرومانسي،‭ ‬ويغوص‭ ‬الفتى‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأحلام،‭ ‬والتخيلات،‭ ‬وتنمو‭ ‬لديه‭ ‬روح‭ ‬المغامرة،‭ ‬ونزعة‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬السلطة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬السلطة‭ ‬الأسرية‭. ‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المعروف‭ ‬والملاحظ‭ ‬حسيا‭ ‬وواقعيا،‭ ‬والمفسَّر‭ ‬علميا،‭ ‬على‭ ‬أهميته‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬التربية،‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬شيئا‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬المراهقة‭ ‬بوصفها‭ ‬حالة‭ ‬أنطولوجية‭ ‬كلية،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬كما‭ ‬تطمح‭ ‬الفلسفة‭. ‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬نجرد‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬من‭ ‬تعيّنات‭ ‬المراهقة‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬الشروط‭ ‬الأسرية‭ ‬والطبقية‭ ‬والمحلية‭ ‬التي‭ ‬ينشأ‭ ‬فيها‭ ‬المراهقون‭ ‬ويعيشون،‭ ‬فاختلاف‭ ‬سلوك‭ ‬المراهقين‭ ‬باختلاف‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭ ‬المعيشة‭ ‬لا‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬ماهية‭ ‬المراهقة‭ ‬التي‭ ‬سميناها‭ ‬روح‭ ‬المراهقة،‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬المعنى‭ ‬الأنطولوجي‭ ‬للمراهقة،‭ ‬والمقصود‭ ‬بالمعنى‭ ‬الأنطولوجي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المراهقة‭ ‬هي‭ ‬نمط‭ ‬وجود‭ ‬للإنسان،‭ ‬ذو‭ ‬تعيّن‭ ‬متعدد‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬والنظرة‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ارتباط‭ ‬مباشر‭ ‬بالمرحلة‭ ‬العمرية‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عنها‭ ‬البيولوجيا‭ ‬وعلم‭ ‬النفس‭ ‬كما‭ ‬قلنا‭ ‬أعلاه‭.

حين‭ ‬تعلن‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬وصولها‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة،‭ ‬فإنها‭ ‬تعبر‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بالتمرّد‭ ‬الكلي‭. ‬والتمرّد‭ ‬الكلي‭ ‬هنا‭ ‬تمرّد‭ ‬وجودي‭ ‬وليس‭ ‬تمرّدا‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬الذات‭ ‬أملا‭ ‬بتحسين‭ ‬وضعها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬التمرّد‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬ألبير‭ ‬كامو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬التمرّد‮»‬‭. ‬أي‭ ‬التمرّد‭ ‬الميتافيزيقي،‭ ‬تمرّد‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬فروح‭ ‬المراهقة‭ ‬هنا‭ ‬تظهر‭ ‬ما‭ ‬سميته‭ ‬مرة‭ ‬بالنزعة‭ ‬اللائية‭. ‬إن‭ ‬‮«‬اللاء‮»‬‭ ‬هنا‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أول‭ ‬وعي‭ ‬بالحرية

فروح‭ ‬المراهقة‭ ‬تسكن‭ ‬أنواتٍ‭ ‬بوصفها‭ ‬ذات‭ ‬معنى‭ ‬وجودي‭ ‬ونظرة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة،‭ ‬وليس‭ ‬بوصفها‭ ‬لحظة‭ ‬عابرة‭ ‬تزول‭ ‬بزوال‭ ‬العمر‭ ‬الذي‭ ‬نشأت‭ ‬فيه‭ ‬وتطورت‭. ‬وعندها‭ ‬تكون‭ ‬الذوات‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬قد‭ ‬فقدت‭ ‬السمات‭ ‬الأكثر‭ ‬تألقا‭ ‬للنفس‭. ‬

فالأنا‭ ‬التي‭ ‬تتعين‭ ‬بفترة‭ ‬الحياة‭ ‬بين‭ ‬سني‭ ‬14‭ ‬و24‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬حتى‭ ‬لحظة‭ ‬العدم‭. ‬حتى‭ ‬الشعور‭ ‬بحالات‭ ‬الإحباط‭ ‬واليأس‭ ‬والقنوط‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬المتقدمة‭ ‬أو‭ ‬المتأخرة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬لا‭ ‬تُفهم‭ ‬إلا‭ ‬بوصفها‭ ‬هزيمة‭ ‬روح‭ ‬المراهقة،‭ ‬وبالقياس‭ ‬إلى‭ ‬المعنى‭ ‬الوجودي‭ ‬لروح‭ ‬المراهقة‭. ‬

والكائنات‭ ‬التي‭ ‬فقدت‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬هي‭ ‬الكائنات‭ ‬التي‭ ‬تحوّلت‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬لذاته‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬ذاته‭. ‬

فالأنا‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬إلى‭ ‬العلن،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬المراهقة،‭ ‬بوصفها‭ ‬مشروع‭ ‬وجود‭ ‬ممتلئا‭ ‬بالحرية‭ ‬هي‭ ‬الوجود‭ ‬لذاته‭ ‬بالمعنى‭ ‬السارتري‭ ‬للكلمة‭. ‬وحين‭ ‬تستمر‭ ‬الأنا‭ ‬وجودا‭ ‬لذاته‭ ‬فإنها‭ ‬تحتفظ‭ ‬بتلك‭ ‬الروح‭ ‬المراهقة،‭ ‬وبالعكس‭ ‬إذا‭ ‬فقدت‭ ‬الأنا‭ ‬وعيها‭ ‬بذاتها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مشروع،‭ ‬أو‭ ‬وجود‭ ‬لذاته،‭ ‬فقدت‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬وتحولت‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬والوجود‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬تحول‭ ‬الذات‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬فاقد‭ ‬للحرية‭ ‬والإرادة،‭ ‬وما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬غارقا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كائن‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الرضا‭ ‬المقيت‭.‬

المراهقة‭ ‬وروح‭ ‬التمرد

حين‭ ‬تعلن‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬وصولها‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة،‭ ‬فإنها‭ ‬تعبر‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بالتمرّد‭ ‬الكلي‭. ‬والتمرّد‭ ‬الكلي‭ ‬هنا‭ ‬تمرّد‭ ‬وجودي‭ ‬وليس‭ ‬تمرّدا‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬من‭ ‬أوضاع‭ ‬الذات‭ ‬أملا‭ ‬بتحسين‭ ‬وضعها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬التمرّد‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬ألبير‭ ‬كامو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬التمرّد‮»‬‭. ‬أي‭ ‬التمرّد‭ ‬الميتافيزيقي،‭ ‬تمرّد‭ ‬على‭ ‬العالم‭. ‬فروح‭ ‬المراهقة‭ ‬هنا‭ ‬تظهر‭ ‬ما‭ ‬سميته‭ ‬مرة‭ ‬بالنزعة‭ ‬اللائية‭. ‬إن‭ ‬‮«‬اللاء‮»‬‭ ‬هنا‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أول‭ ‬وعي‭ ‬بالحرية،‭ ‬المراهق‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬الطفل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعيها،‭ ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬أصبحت،‭ ‬بفضل‭ ‬وعيها‭ ‬لأناها،‭ ‬واعية‭ ‬بحريتها،‭ ‬وبفضل‭ ‬وعيها‭ ‬بحريتها‭ ‬نمت‭ ‬لديها‭ ‬قوة‭ ‬الرفض‭ ‬المعبر‭ ‬عنها‭ ‬بـ»لا‮»‬‭ ‬المتمردة‭ ‬والتي‭ ‬تميز‭ ‬روح‭ ‬المراهقة،‭ ‬حتى‭ ‬ليمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬هي‭ ‬روح‭ ‬التمرّد‭. ‬والذي‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬التأفف‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يألفه‭ ‬الطفل‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬الطفل‭ ‬متكيّفا‭ ‬عليه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ذا‭ ‬قيمة،‭ ‬وصارت‭ ‬أمام‭ ‬المراهقة‭ ‬بوصفها‭ ‬تأففا‭ ‬مهمة‭ ‬إعادة‭ ‬التكيّف‭ ‬مع‭ ‬العالم،‭ ‬فليس‭ ‬المراهق‭ ‬هو‭ ‬الكائن‭ ‬الجديد‭ ‬بل‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬جديد‭ ‬ويحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬تكيّف‭ ‬جديدة‭.‬

هنا‭ ‬بالذات‭ ‬يظهر‭ ‬التوتر‭ ‬والصراع‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬الجديدة،‭ ‬التوتر‭ ‬هو‭ ‬النتيجة‭ ‬الضرورية‭ ‬لروح‭ ‬التمرّد‭. ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬أمام‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرارات‭ ‬متعلقة‭ ‬بالمصير‭.‬

هذا‭ ‬الوصف‭ ‬المجرّد‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬أنحاء‭ ‬مختلفة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مشتركا‭ ‬لدى‭ ‬جميع‭ ‬المراهقين‭.‬

لأن‭ ‬المراهق‭ ‬يحضر‭ ‬بوصفه‭ ‬تاريخ‭ ‬طفولة‭ ‬وتربية‭ ‬ودرجات‭ ‬قمع‭ ‬وحياة‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬عنف‭ ‬أو‭ ‬فقر‭ ‬أو‭ ‬دعة‭ ‬أو‭ ‬حرمان،‭ ‬يحضر‭ ‬كل‭ ‬المكبوت‭ ‬اللاشعوري‭. ‬أجل‭ ‬إنه‭ ‬كينونة‭ ‬جديدة‭.‬

ولكن‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬ترافقه‭ ‬طوال‭ ‬مسار‭ ‬حياته،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬ظهوره‭ ‬في‭ ‬الحياة‭.‬

فإذا‭ ‬انطوى‭ ‬التمرّد‭ ‬والتأفف‭ ‬المراهقي‭ ‬على‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬المجهول،‭ ‬ومن‭ ‬السلطة‭ ‬الأبوية‭ ‬القامعة،‭ ‬وأدّى‭ ‬إلى‭ ‬العزلة‭ ‬والانطواء،‭ ‬رافقت‭ ‬حالة‭ ‬العزلة‭ ‬والانطواء‭ ‬الذات‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الذات‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬منها‭ ‬قط‭.‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬انطوت‭ ‬روح‭ ‬المراهق‭ ‬المتمرّد‭ ‬والمتأفف‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬المغامرة،‭ ‬فإن‭ ‬الذات‭ ‬هنا‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالخطر‭. ‬ففي‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬فيها‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬عائشة‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬مستقر،‭ ‬فإن‭ ‬روح‭ ‬التمرّد‭ ‬تتعيّن‭ ‬في‭ ‬المغامرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬خطر‭ ‬كبير،‭ ‬إنها‭ ‬مغامرة‭ ‬سفر،‭ ‬انفصال‭ ‬عن‭ ‬الأسرة،‭ ‬هروب‭ ‬من‭ ‬المدرسة،‭ ‬حبّ‭ ‬يصل‭ ‬حدّ‭ ‬الهوى،‭ ‬حبّ‭ ‬امرأة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬عمره،‭ ‬هجرة‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬أخرى،‭ ‬اختيار‭ ‬مهنة‭ ‬يحبها‭ ‬ولا‭ ‬تحوز‭ ‬على‭ ‬موافقة‭ ‬الأهل‭.‬

في‭ ‬الستينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬ظهرت‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬المتمرّدة‭ ‬والمغامرة‭ ‬بصورتين‭ ‬ساطعتين‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬والغرب‭ ‬مجتمعات‭ ‬مستقرة‭ ‬نسبيا‭ ‬متجاوزة‭ ‬مآسي‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية؛‭ ‬ظاهرة‭ ‬الهيبيز‭ ‬وثورة‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭.‬

‮ ‬أما‭ ‬ظاهرة‭ ‬الهيبيز‮ ‬‭(‬Hippies‭) ‬والتي‭ ‬ظهرت‭ ‬كحركة‭ ‬مراهقين‭ ‬تتراوح‭ ‬أعمارهم‭ ‬بين‭ ‬15‭ ‬و24‭ ‬سنة‭ ‬في‮ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إبّان‭ ‬الستينات،‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬أوروبا‭. ‬كانت‭ ‬ظاهرة‭ ‬الهيبيز‭ ‬أسطع‭ ‬ظاهرة‭ ‬في‭ ‬معاداة‭ ‬الجانب‭ ‬المتوحش‭ ‬من‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬ظاهرة‭ ‬احتجاج‭ ‬تمّت‭ ‬خارج‭ ‬الحركات‭ ‬الشيوعية‭ ‬والعمالية‭ ‬ضدّ‭ ‬اغتراب‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التقنية‭ ‬والسلعة‭ ‬والحاجات‭ ‬التي‭ ‬يخلقها‭ ‬الرأسمال‭. ‬ولقد‭ ‬امتلأت‭ ‬الجامعات‭ ‬بالآلاف‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬المتمردين‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬الأميركية،‭ ‬وراحوا‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬الحبّ‭ ‬والحرية‭ ‬والسلام‭. ‬وتعبيرا‭ ‬عن‭ ‬نزعة‭ ‬الرفض‭ ‬والتمرّد‭ ‬راحوا‭ ‬يميزون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بالمظهر‭ ‬الخارجي‭ ‬ذي‭ ‬الرداء‭ ‬البسيط‭ ‬والزِّيّ،‭ ‬وإطالة‭ ‬الشعر‭. ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬انتقال‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬الشرق‭ ‬الآسيوي‭ ‬القديم،‭ ‬كبلاد‭ ‬العرب‭ ‬وبلاد‭ ‬الهند‭ ‬علّهم‭ ‬يجدون‭ ‬الراحة‭ ‬والهدوء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الروحي‭- ‬الطبيعي‭.‬

بينما‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬انفجار‭ ‬لروح‭ ‬المراهقة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬هو‭ ‬ثورة‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬سنة‭ ‬1968‭. ‬لقد‭ ‬خرج‭ ‬المراهقون‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬احتجاج‭ ‬ثورية‭ ‬لتغيير‭ ‬الوجود‭ ‬الفرنسي‭ ‬وليس‭ ‬لتغيير‭ ‬النظام‭. ‬خرجوا‭ ‬متمردين‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الأبوي‭ ‬القارّ‭ ‬في‭ ‬الأسرة‭ ‬والمؤسسة‭ ‬والسلطة،‭ ‬رافعين‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬منع‭ ‬الممنوع‮»‬،‭ ‬محتجين‭ ‬على‭ ‬القوانين‭ ‬المانعة‭ ‬للحرية،‭ ‬رافضين‭ ‬سلطة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة‭ ‬التي‭ ‬بسببها‭ ‬راح‭ ‬الطلاب‭ ‬والعمال‭ ‬يعيشون‭ ‬حالة‭ ‬الحرمان‭.‬ ‬لقد‭ ‬حملت‭ ‬ثورة‭ ‬الطلاب‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬سارتر‭ ‬وفوكو‭ ‬ودولوز‭ ‬على‭ ‬الاندراج‭ ‬فيها،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والشعراء‭.‬

لوحة: إلياس ايزولي
لوحة: إلياس ايزولي

‮ ‬أرعبت‭ ‬ثورة‭ ‬المراهقين‭ ‬هذه‭ ‬شارل‭ ‬ديغول‭ ‬بطل‭ ‬تحرير‭ ‬فرنسا‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬الألماني،‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬تحالف‭ ‬اليمين‭ ‬الفرنسي‭ ‬مع‭ ‬اليسار‭ ‬الستاليني‭- ‬الشيوعي‭ ‬قد‭ ‬أجهض‭ ‬الحراك‭ ‬الطلابي‭ ‬لكن‭ ‬روح‭ ‬ثورة‭ ‬الطلاب‭ ‬مازالت‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الفرنسي‭.‬

‮ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬ترافق‭ ‬انفجار‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬مع‭ ‬مجتمع‭ ‬يعيش‭ ‬حالات‭ ‬من‭ ‬التغيرات‭ ‬الرديكالية‭ ‬وعلى‭ ‬أعتاب‭ ‬تحولات‭ ‬رديكالية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تأكله‭ ‬حرب‭ ‬أهلية،‭ ‬فإن‭ ‬جمهور‭ ‬المراهقين‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬من‭ ‬المغامرين‭ ‬الذين‭ ‬يذهبون‭ ‬للخطر‭ ‬بكل‭ ‬سعادة‭.‬

لقد‭ ‬وجد‭ ‬جمهور‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بالمخيمات‭ ‬وغير‭ ‬المخيمات‭ ‬في‭ ‬انطلاق‭ ‬الثورة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ضالتهم‭ ‬في‭ ‬خوض‭ ‬المغامرة‭ ‬الوجودية‭. ‬ففكرة‭ ‬الوطن‭ ‬والتحرير‭ ‬والعودة‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬معاني‭ ‬الجهاد‭ ‬والجنة‭ ‬كانت‭ ‬جوهر‭ ‬التمرّد‭ ‬المغامر‭ ‬وركوب‭ ‬الخطر‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الشباب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬والعربي‭ ‬عموما‭ ‬يعيش‭ ‬مناخات‭ ‬رديكالية‭ ‬عالمية،‭ ‬وفكرة‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬الصهيونية‭ ‬عكست‭ ‬تلك‭ ‬الميول‭ ‬الثورية‭ ‬الشبابية‭ ‬الطافحة‭ ‬بروح‭ ‬المراهقة‭ ‬المتمردة‭.‬

وفي‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬عيد‭ ‬تُحمل‭ ‬أطنان‭ ‬من‭ ‬أغصان‭ ‬الآس‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬الشهداء‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك‭ ‬لتوضع‭ ‬على‭ ‬قبور،‭ ‬أغلبُ‭ ‬أعمار‭ ‬ساكنيها‭ ‬بين‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬والرابعة‭ ‬والعشرين‭.‬

‮ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬تحولت‭ ‬الثورة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬حالة‭ ‬تمرّد‭ ‬قصوى‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬خلاصي‭ ‬لعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المراهقين‭ ‬السوريين‭ ‬واللبنانيين‭ ‬والعرب‭ ‬عموما،‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الفئات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬وراحت‭ ‬تلهمهم‭ ‬معنى‭ ‬الفداء‭. ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬الظاهرة‭ ‬الجيفارية،‭ ‬حيث‭ ‬تحوّل‭ ‬جيفارا‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وموته‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬أعلى‭ ‬للتمرّد‭ ‬والفداء‭.‬

الأيديولوجيا‭ ‬وروح‭ ‬المراهقة

يمكن‭ ‬القول‭ ‬بكل‭ ‬اطمئنان‭ ‬بأن‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬مصيدة‭ ‬المراهقين،‭ ‬وهي‭ ‬الأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬الجذب‭ ‬والإغراء‭ ‬لهذا‭ ‬العالم؛‭ ‬عالم‭ ‬المراهقة‭. ‬وتفسير‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬تستجيب‭ ‬لنزعتين‭ ‬أساسيتين‭ ‬من‭ ‬نزعات‭ ‬المراهق‭: ‬الرومانسية‭ ‬والطوباوية‭. ‬وهما‭ ‬نزعتان‭ ‬مترابطتان‭ ‬غالبا‭. ‬فروح‭ ‬المراهقة‭ ‬روح‭ ‬وجدانية‭ ‬حدسية‭ ‬عاطفية‭ ‬تسحرها‭ ‬الأهداف‭ ‬العظيمة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يكتنف‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬من‭ ‬غموض‭ ‬ولاعقلانية،‭ ‬ويزداد‭ ‬سحر‭ ‬الأيدلوجيات‭ ‬تأثيرا‭ ‬أكثر‭ ‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬الآمال‭ ‬المستحيلة‭ ‬فيها‭ ‬أكثر،‭ ‬وصورة‭ ‬المستقبل‭ ‬زاهية‭ ‬أكثر‭.‬

وغالبا‭ ‬ما‭ ‬تعيش‭ ‬الأوتوبيا‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬معا‭ ‬وتموتان‭ ‬معا،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬أوتوبيا‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬أوتوبيا‭ ‬أيديولوجيا‭. ‬وكلتاهما‭ ‬تنطويان‭ ‬على‭ ‬الوعد،‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬متجاوزٍ‭ ‬للواقع‭. ‬وروح‭ ‬الرومانسية‭ ‬قابعة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الأوتوبيا‭ ‬أصلا‭. ‬حتى‭ ‬ليمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬تتعيّن‭ ‬في‭ ‬الأيديولوجيا‭.‬

لندقق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية‭ ‬التي‭ ‬نطرحها‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬العربية‭ ‬أيام‭ ‬ازدهارها،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المستنقع‭ ‬العربي‭ ‬الراهن‭.‬

فلقد‭ ‬انخرط‭ ‬الشباب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬أنماط‭ ‬من‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬الكبرى‭: ‬القومية‭ ‬والشيوعية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬السبعينات‭.‬

كانت‭ ‬النزعة‭ ‬الطوباوية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬قوة‭ ‬للإغراء‭ ‬نادرا‭ ‬ما‭ ‬نجا‭ ‬منها‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬بداياتها‭.‬

وروح‭ ‬المراهقة‭ ‬لا‭ ‬تطرح‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬واقعية‭ ‬الفكرة،‭ ‬بل‭ ‬تتوحد‭ ‬مع‭ ‬الفكرة‭ ‬بشكل‭ ‬صوفي‭. ‬فالأمة‭ ‬العربية‭ ‬الواحدة‭ ‬ذات‭ ‬الرسالة‭ ‬الخالدة‭ ‬والمعبر‭ ‬عنها‭ ‬بكلمة‭ ‬وجدانية‭ ‬مؤثرة‭ ‬‮«‬البعث‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬تستعيد‭ ‬ذكريات‭ ‬المجد‭ ‬المسطورة‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬والقارّة‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬والمتداولة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الشفهي،‭ ‬واستعادة‭ ‬الاعتداد‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬وبالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬العروبة‮»‬،‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬أيّ‭ ‬تحفظ‭ ‬للسؤال‭ ‬لدى‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬الجامحة،‭ ‬والحاوية‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬على‭ ‬حظ‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬مهيّأة‭ ‬لذلك‭.‬

يظن‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬الفيلسوف،‭ ‬وهو‭ ‬الحكيم،‭ ‬مبدع‭ ‬تجاوز‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬يفهم‭ ‬ويفسر‭ ‬بأداة‭ ‬المنطق‭ ‬الصارمة‭. ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفيلسوف‭ ‬عقلا‭ ‬يفهم‭ ‬ويفسر‭ ‬ويتمنطق،‭ ‬فهذا‭ ‬صحيح،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬غادر‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬فهذا‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الظن‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬إثم‭.‬ فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬ذروة‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬الجمالية‭ ‬المبدعة

وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الخطاب‭ ‬السوري‭ ‬القومي‭ ‬المتشابه‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬للخطاب‭ ‬القومي‭ ‬العربي،‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬حجم‭ ‬المقدّس‭ ‬القومي‭ ‬وحدوده‭ ‬وتاريخه‭.‬

بينما‭ ‬انطوت‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬الإسلاموية‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬انطوى‭ ‬عليه‭ ‬الخطاب‭ ‬القومي،‭ ‬ولكنها‭ ‬زادت‭ ‬عليه‭ ‬المقدّس‭ ‬الإلهي‭ ‬والشهادة‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬وأمر‭ ‬الله،‭ ‬كانت‭ ‬فكرتا‭ ‬البعث‭ ‬العربي‭ ‬والبعث‭ ‬الإسلامي‭ ‬تقومان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تاريخا‭ ‬أثيرا‭ ‬يجب‭ ‬بعثه،‭ ‬فقامت‭ ‬هذه‭ ‬الرومانسية‭ ‬التاريخية‭ ‬بدور‭ ‬الجاذب‭ ‬لروح‭ ‬ترفض‭ ‬الواقع‭ ‬المرفوض‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬وجوده‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬يكره‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭.‬

أما‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬حس‭ ‬أخلاقي‭ ‬عالٍ‭ ‬بفكرة‭ ‬المساواة‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬ونزعة‭ ‬رديكالية‭ ‬ضد‭ ‬القيم‭ ‬السائدة‭ ‬التي‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬التفاوت‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬فقد‭ ‬وجدت‭ ‬ضالتها‭ ‬في‭ ‬أوتوبيا‭ ‬مجتمع‭ ‬بلا‭ ‬طبقات،‭ ‬وبشرية‭ ‬أممية‭ ‬بلا‭ ‬عنصريات،‭ ‬وجنة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬الناس‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬حاجته‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬شيوعي‭ ‬أشبه‭ ‬بالمدينة‭ ‬الفاضلة‭.‬

والحق‭ ‬بأن‭ ‬الإغراء‭ ‬بالجنة‭ ‬الأرضية‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الإغراء‭ ‬بالجنة‭ ‬السماوية،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الجنة‭ ‬السماوية‭ ‬أكثر‭ ‬تجذّرا‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ ‬الأرضية‭.‬

ولقد‭ ‬شهدت‭ ‬المنطقة‭ ‬صراعات‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المصيدات‭ ‬الثلاث؛‭ ‬صراعات‭ ‬على‭ ‬المصير‭ ‬المتخيل،‭ ‬صراعات‭ ‬مازالت‭ ‬بقاياها‭ ‬حاضرة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

فضلا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬جميع‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬تخفّت‭ ‬وراء‭ ‬المصيدة‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬وهي‭ ‬حروب‭ ‬مادتها‭ ‬الأساسية‭ ‬الفئة‭ ‬العمرية‭ ‬بين‭ ‬16‭ ‬و25‭ ‬سنة،‭ ‬أي‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬تتمتع‭ ‬بروح‭ ‬المراهقة‭. ‬والمصيدة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬للحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬إما‭ ‬مؤسسة‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬قومية‭- ‬إثنية‭ ‬وإما‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الفكرتين‭ ‬معا‭.‬

والموت‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬فكرة‭ ‬أثمن‭ ‬من‭ ‬الذات،‭ ‬والقتل‭ ‬لكائن‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬له‭ ‬بالقياس‭ ‬إلى‭ ‬الفكرة،‭ ‬هو‭ ‬ذَاك‭ ‬جوهر‭ ‬المصيدة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬للحرب‭ ‬الأهلية‭. ‬وهذه‭ ‬المصيدة‭ ‬تلتهم‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬التهاما،‭ ‬إنها‭ ‬الوقود‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬دونه‭ ‬لن‭ ‬تنفجر‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬ولن‭ ‬تستمر‭.‬

المبدع‭ ‬وروح‭ ‬المراهقة

‮ ‬تقول‭ ‬فرضيتي‭ ‬حول‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬وروح‭ ‬المراهقة‭: ‬إن‭ ‬المبدع‭ ‬موهبة‭ ‬تحتفظ‭ ‬بروح‭ ‬المراهقة‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭. ‬ومن‭ ‬أبدع‭ ‬مراهقا‭ ‬وكفّ‭ ‬عن‭ ‬الإبداع‭ ‬شيخا‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬ماتت‭ ‬فيه‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭.‬

فالمبدع‭ ‬يحتفظ‭ ‬بكل‭ ‬صفات‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬التي‭ ‬ذكرت‭ ‬ويعيّنها‭ ‬فيما‭ ‬يبدع‭. ‬فهو‭ ‬رومانسي‭ ‬طوباوي‭ ‬متمرّد‭ ‬حدسي‭ ‬حساس،‭ ‬إلخ‭. ‬إن‭ ‬شئتم‭ ‬قولوا‭ ‬المبدع‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬الموهوبة‭ ‬المصقولة‭ ‬ثقافيا‭ ‬ومعرفيا‭. ‬وتجربة‭ ‬شهوة‭ ‬الحضور‭ ‬عند‭ ‬مراهقي‭ ‬طلاب‭ ‬المرحلة‭ ‬الإعدادية‭ ‬والثانوية‭ ‬عبر‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر‭ ‬والخواطر‭ ‬وعبر‭ ‬الرسم‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬عامة،‭ ‬لكن‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬الموهوبة‭ ‬وحدها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬الحضور‭ ‬إبداعا‭.‬

ونحن‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬كبير‭ ‬عناء‭ ‬في‭ ‬تتبع‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬المبدعة‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولا‭ ‬يضير‭ ‬فرضيتنا‭ ‬مثل‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يعارضها‭ ‬أو‭ ‬ينفيها،‭ ‬فالاستثناء‭ ‬يؤكد‭ ‬القاعدة‭. ‬والسيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الشعرية‭ ‬للشاعر‭ ‬المبدع،‭ ‬مهما‭ ‬تنوّعت‭ ‬موضوعاتها،‭ ‬وصقلت‭ ‬أساليبها،‭ ‬واغتنت‭ ‬بمفرداتها،‭ ‬تظلّ‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬الروح‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬فجّرتها‭. ‬فبين‭ ‬قصيدتي‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬‮«‬سجّل‭ ‬أنا‭ ‬عربي‮»‬‭ ‬و»أحمد‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬فرق‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬الشعرية‭ ‬لكن‭ ‬روح‭ ‬الشاعر‭ ‬واحدة،‭ ‬وليس‭ ‬للشاعر‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬روح‭ ‬شعريته‭ ‬بقرار‭ ‬واعٍ‭ ‬منه،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تغادره‭. ‬فروح‭ ‬التمرّد‭ ‬النزارية‭ ‬ظلت‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬لوليتا‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬التراب‮»‬‭.‬

وإن‭ ‬روح‭ ‬التمرّد‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬الشاعر‭ ‬أبدا،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬تمرّده‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬المألوفة،‭ ‬مرورا‭ ‬بتمرّده‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬وانتهاء‭ ‬بتمرّده‭ ‬على‭ ‬الوعي‭. ‬فشيخ‭ ‬المعرّة‭ -‬رهين‭ ‬المحبسين‭- ‬ظل‭ ‬روحا‭ ‬وقّادة،‭ ‬متأففا‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬العامي‭ ‬واللاهوتي‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬حياته‭. ‬والخيال‭ ‬الشعري‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬للشاعر‭ ‬بمغادرة‭ ‬روح‭ ‬المراهقة،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬التخيل‭ ‬أحد‭ ‬معالم‭ ‬بلوغ‭ ‬الكائن‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬فإن‭ ‬الخيال‭ ‬المبدع‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬هو‭ ‬استمرار‭ ‬لهذا‭ ‬النزوع‭ ‬نحو‭ ‬التجاوز‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خلّاق‭.‬

وليست‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬مرتبطة‭ ‬باستمرار‭ ‬عاطفة‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬الشاعر،‭ ‬واحتفاله‭ ‬الدائم‭ ‬بالمرأة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تظل‭ ‬أيضا‭ ‬حاضرة،‭ ‬احتفالا‭ ‬بالبيان‭ ‬ذروة‭ ‬الوعي‭ ‬الجمالي،‭ ‬فالجمالي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬احتفال‭ ‬بالوجود‭ ‬والحياة‭ ‬بلغة‭ ‬راحت‭ ‬تقيم‭ ‬العلائق‭ ‬بين‭ ‬الكلمات‭ ‬لتصوغ‭ ‬منها‭ ‬السحر‭ ‬البياني‭.‬

ولا‭ ‬يختلف‭ ‬الرسام‭ ‬والنحات‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬إلا‭ ‬بأسلوب‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭- ‬اللوحة‭ ‬والتمثال‭. ‬وروح‭ ‬اللعب‭ ‬هنا‭ ‬حاضرة‭ ‬حضورا‭ ‬قويا،‭ ‬اللعب‭ ‬بالألوان‭ ‬والحجر،‭ ‬وما‭ ‬روح‭ ‬اللعب‭ ‬إلا‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬المبدعة‭.‬

ومن‭ ‬ذَا‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتخيل‭ ‬مبدعا‭ ‬موسيقيا‭ ‬ليس‭ ‬غارقا،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬إبداعه‭ ‬بشعور‭ ‬الفرح‭ ‬والسعادة‭ ‬والبهجة‭ ‬والطرب‭ ‬والمرح‭ ‬أو‭ ‬الحزن‭ ‬والشجن‭ ‬والشجو‭ ‬واليأس‭ ‬والضيق‭. ‬إنه‭ ‬وهو‭ ‬يقيم‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬علامات‭ ‬السلم‭ ‬الموسيقي‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬نمط‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬العواطف‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬فيخرج‭ ‬مكبوته‭ ‬حين‭ ‬يؤلف،‭ ‬ويخرج‭ ‬مكبوت‭ ‬السامع‭.‬

ويظن‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬الفيلسوف،‭ ‬وهو‭ ‬الحكيم،‭ ‬مبدع‭ ‬تجاوز‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬يفهم‭ ‬ويفسر‭ ‬بأداة‭ ‬المنطق‭ ‬الصارمة‭. ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الفيلسوف‭ ‬عقلا‭ ‬يفهم‭ ‬ويفسر‭ ‬ويتمنطق،‭ ‬فهذا‭ ‬صحيح،‭ ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬غادر‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬فهذا‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الظن‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬إثم‭.‬ فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬ذروة‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬الجمالية‭ ‬المبدعة،‭ ‬فإن‭ ‬الفيلسوف‭ ‬ذروة‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬العقلية‭ ‬المبدعة‭.‬

يقول‭ ‬كاليكليس‭ ‬في‭ ‬محاورة‭ ‬أفلاطون‭ (‬جورجياس‭) ‬‮«‬إن‭ ‬الفلسفة‭ ‬يا‭ ‬سقراط،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬سحر،‭ ‬إذا‭ ‬خصص‭ ‬المرء‭ ‬حياته‭ ‬لها‭ ‬باعتدال‭ ‬في‭ ‬الصغر،‭ ‬ولكن‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شخص‭ ‬موهوب‭ ‬واستمر‭ ‬في‭ ‬التفلسف‭ ‬حتى‭ ‬سن‭ ‬النضوج‭ ‬فيستحيل‭ ‬ألا‭ ‬يصير‭ ‬غريبا‭ ‬عن‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعرفها‭ ‬ليصير‭ ‬إنسانا‭ ‬مهذبا‭ ‬محترما‮…‬‭ ‬إن‭ ‬الفلسفة‭ ‬حسنة‭ ‬إذا‭ ‬أخذنا‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬ينفع‭ ‬للتعليم‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬عار‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تفلسف‭ ‬الإنسان‭ ‬وهو‭ ‬صغير،‭ ‬ولكن‭ ‬المرء‭ ‬الناضج‭ ‬يأتي‭ ‬شيئا‭ ‬مضحكا‭ ‬يا‭ ‬سقراط‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬التفلسف،‭ ‬وأشعر‭ ‬من‭ ‬ناحيتي‭ ‬إزاء‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬بما‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬نفسه‭ ‬حيال‭ ‬رجل‭ ‬يتهته‭ ‬ويلعب‭ ‬كالطفل‮…‬‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬صغيرا‭ ‬أتذوق‭ ‬الفلسفة‭ ‬لديه،‭ ‬وتكون‭ ‬في‭ ‬مكانها،‭ ‬وتدل‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬إنسان‭ ‬حر،‭ ‬ويلوح‭ ‬لي‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتعاطاها‭ ‬ذَا‭ ‬نفس‭ ‬غير‭ ‬حرة‭ ‬وعاجزة‭ ‬دائما‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تسمو‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬نبيل‭ ‬وجميل‭. ‬ولكني‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭ ‬يا‭ ‬سقراط‭ ‬عن‭ ‬الرجل‭ ‬الكهل‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬دون‭ ‬توقف،‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬جدير‭ ‬بالجلد‮»‬‭. (‬أفلاطون،‭ ‬جورجياس،‭ ‬ترجمة‭ ‬محمد‭ ‬حسن‭ ‬ظاظا،‭ ‬القاهرة،‭ ‬1970،‭ ‬ص‭. ‬90‭-‬91‭).‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أحد‭ ‬المحاورين‭ ‬السفسطائيين‭ ‬لسقراط،‭ ‬وليس‭ ‬هو‭ ‬رأي‭ ‬أفلاطون‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬بعض‭ ‬الدارسين،‭ ‬فرأي‭ ‬أفلاطون‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬سقراط‭. ‬وما‭ ‬أوردت‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الطويل‭ ‬موافقة‭ ‬لما‭ ‬جاء‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬رأي،‭ ‬بل‭ ‬لأكشف‭ ‬عن‭ ‬الترابط‭ ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬الفلسفي‭ ‬والمراهقة‭. ‬فالصغير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬هو‭ ‬المراهق‭ ‬نفسه‭. ‬وما‭ ‬من‭ ‬فيلسوف‭ ‬تفلسف‭ ‬مراهقا‭ ‬وكفّ‭ ‬عن‭ ‬التفلسف‭ ‬كهلا‭. ‬فهذا‭ ‬السفسطائي‭ ‬يلتقط‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تفلسفها،‭ ‬ويرى‭ ‬فيها‭ ‬أمرا‭ ‬محمودا،‭ ‬ومذموما‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استمرّت‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الكهولة‭. ‬لقد‭ ‬ربط‭ ‬كاليكليس‭ ‬بين‭ ‬تفلسف‭ ‬المراهق‭ ‬والحرية،‭ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬تفلسف‭ ‬المراهق‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬الكائن‭ ‬الحر،‭ ‬وعلى‭ ‬السمو‭ ‬وعلى‭ ‬النبل‭. ‬وبالعكس،‭ ‬فمن‭ ‬لا‭ ‬يتفلسف‭ ‬مراهقا‭ ‬فهو‭ ‬كائن‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالحرية،‭ ‬وخلا‭ ‬من‭ ‬السمو‭ ‬والنبل‭.‬

ولأن‭ ‬التفلسف،‭ ‬بوصفه‭ ‬روح‭ ‬المراهق‭ ‬يظل‭ ‬مستمرا‭ ‬بوصفه‭ ‬نمط‭ ‬وعي‭ ‬الفيلسوف‭ ‬بالعالم‭ ‬حتى‭ ‬الكهولة،‭ ‬فإن‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬المتوقدة‭ ‬فلسفيا‭ ‬تظل‭ ‬هي‭ ‬روح‭ ‬الفيلسوف‭.‬

تتكون‭ ‬روح‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكلية‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬أرواح‭ ‬متشابكة‭: ‬التأمل،‭ ‬الشك،‭ ‬التمرد‭ ‬وما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭. ‬أرواح‭ ‬تزهر‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬انبلاج‭ ‬صبح‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬دهشة‭ ‬وتأمل‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬سؤال،‭ ‬ولأن‭ ‬المراهق‭ ‬سآل‭ ‬فهو‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يشك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬وتلقاه‭ ‬من‭ ‬تلقين‭.‬

ولا‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أضرب‭ ‬الأمثلة‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬وحياتهم‭ ‬لأدلل‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬ما‭ ‬أقول،‭ ‬حسب‭ ‬القارئ‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ ‬والفلاسفة‭ ‬من‭ ‬طاليس‭ ‬وحتى‭ ‬جيل‭ ‬دولوز‭.‬

وبعد،‭ ‬لقد‭ ‬حاولنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬أن‭ ‬نجعل‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬مفهوما‭ ‬مجردا‭ ‬كليا،‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬اعتاد‭ ‬المتناولون‭ ‬لواقعة‭ ‬المراهقة‭. ‬والحق‭ ‬أني‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬المضني‭ ‬الذي‭ ‬بذلته،‭ ‬وجدتني‭ ‬لم‭ ‬أستنفد‭ ‬القول‭ ‬فيه‭. ‬ولكني‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬واضح‭ ‬ومتميز‭ ‬وهو‭: ‬إن‭ ‬المبدع‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الموهوب‭ ‬الذي‭ ‬تسكنه‭ ‬روح‭ ‬المراهقة‭ ‬الدائمة‭ ‬حتى‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬بوابة‭ ‬العدم‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.