سيارة جدي الملقب بشريف روما

“قال أبو دحية القاص لتلاميذه ذات يوم: كان اسم الذئب الذي أَكل يوسف هملاج، فقال له أحدهم: ولكن الذئب لم يأكل يوسف يا مولانا بل ألقى به إخوته في البئر! فقال أبو دحية: إذن فـ”هملاج” هو اسم الذئب الذي لمْ يأكل يوسف!!”.
(1)
ماذا يفعل الإنسان حين يعرف أنه كان مغفَّلاً؟ هل يضحك؟ أيبكي؟ أيتغافل عمّا أصابه؟ أيمضي أيامه في لوم نفسه حتى يموت كمدا؟ لأنه لم يكن واعياً بما فيه الكفاية، ولولا ذلك ما صار مغفلاً هكذا. العديد من الاسئلة ردّدها أبي على نفسه، وعلى الآخرين ليُخفّف على نفسه ما أصابه من حَيْف.
لم يستطع أن ينظر بعيني جدّي، ولا بعيون إخوته، ولم يختلِ بزوجته في ذلك اليوم الأسود، الذي رجع فيه إلى الدار، وقرر أن يعود من جديد إلى بغداد بعد أن أبلغ إخوته، وأباه بتلك الفجيعة.
وأخبرهم أيضاً أنه لن يعود إليهم حتى يقع على من سرق سيّارة جدي ويعود بها، وسكتوا جميعاً، ولم يثنه أحد عن عزمه مخافة أن تقتله العبرة، والحسرة بين أربعة جدران إذا بقي في البيت يلوم نفسه هكذا.
عاد أبي إلى العاصمة في اليوم التالي في القطار العادي الصاعد إلى بغداد رافضاً أن يصطحب أحداً من إخوته، ورفض أن يأخذ المتاع الذي أعدّته له جدتي من التمر المديوف بالدهن الحر، والدقيق وحبة الحلوى..
كان يشعر بالاستهانة بنفسه ومتطلبات جسده بل إن إخوته أقسموا بعد ذلك أنهم سمعوه يدعو الله أن يميته، ويريحه من هذا العالم، وروى لنا فيما بعد أن حرقة الغدر به قد أشعلت عليه ملابسه، واضطرته إلى ركوب مركب التشرد.
فأخذ يعمل حمالاً في أسواق الشورجة ببغداد ليلاً، وفي النهار يمشي في الطرقات والدروب باحثا عن سيارة جدّي المسروقة..
زار الكراجات ومرآب تفكيك السيارات، وزار مواقف شرطة المرور ليطّلع على السيارات المقبوضة، وذهب إلى الجوامع، وراقب الوجوه عسى أن يجد طلبته، وزار قبور الأولياء والصالحين طالباً عونهم في محنته الأليمة.
ولم يغب عنه وجه في أسواق بغداد لم يطالعه، ويتحراه مردداً مع نفسه لَيْتَ الزمان يجود عليّ بمن غدرني فأعلمه ما يفعل الغدر بالناس، ويريه أنه من قوم يبحثون عمّن غدر بهم أربعين عاماً دون أن يمسهم جناح النصب والإحباط واليأس.
وإنه من قوم ما استكانوا لمغتصب، وما هجعت رؤوسهم على وسائد، وما ضمتهم أفرشة في أحضان نسائهم مادام مغتصب حقوقهم يسير في الطرقات طليق اليد واللسان، خالي البال.
وأقسم بأن لن يجمعه فراش الراحة والهناء مع امرأة حلالاً أو حراماً ويلمه معها موطن، ويهنأ له رزق حلال أو حرام، مادام من كسر قلبه وقلب أبيه حراً طليقاً.
هذا الذي أضاع مستقبل أسرة، ليست أسرة واحدة من أتعبها بل أهان فخذاً كاملاً من عشيرة بل عشيرة بكامل أفخاذها وبطونها، من شيخها إلى عبدها ومواليها من الأغراب والباحثين عن حماية.
ودابة المرء حين تسرق كأنما سرق شرف المرء، واستبيح عرضه، وما السيارة إلا دابة هذا العصر، ووسيلته في التنقل، وناقته التي لا مثيل لها بين الأصائل..
ذهب جدّي إلى إخوته، لتعريفهم بما جرى لسيارته، التي سُرقت من ولده في بغداد، وذهبوا بعد ذلك جميعاً إلى شيخ العشيرة.
كانت عينا الشيخ مصابتين بالرَّمد، لكن ذلك لم يمنعه من إرسال موفديه إلى كافة أفخاذ العشيرة في بغداد، والقرى المحيطة بها وإلى المدن الأخرى، إلى الجنوب منها، والعمارة والناصرية، للبحث عن السارق والسيارة المسروقة.
كانت كل عشائر آل محمد، والبيضان والسودان والحمران، وآل أزيرج في الجنوب تعترف لعشيرتنا وشيخها بالكفاءة، والسرعة في مسائل تسوية قضايا الثأر، ولكن لم يجرّب أحد كفاءته في العثور على المسروقات والسارقين، وكانت قضية السيارة المسروقة اختباراً حقيقياً لإمكانياته في البحث والتقصّي ومعرفة مكان اختباء الجاني.
في البداية هرش شيخ العشيرة لحيته البيضاء، وعدّل من وضع الخرقة على عينيه الرَّامدتين، وركز عقاله حول رأسه، وقال:
– إن أمراً من هذا النوع لم تجرّبه العشيرة من قبل.
وتنهد وبعد قليل أكمل:
– لو كان المسروق قطيعاً من البقر، لعرفنا كيف نتقصّاه حتى نجده ونعثر على سارقه من آثار حوافره، وطريقة سرقته، ففينا من يستطيع تمييز الطريقة، ومعرفة إن كان الفاعل من المعدان أو من رجال العشائر الأخرى الموتورين أو من الحضر وسكّان المدن، فلكل واحد طريقته بالسرقة! وله أسلوبه الخاص في الهرب بما سرق، والوقت الذي يناسبه في فعل ذلك، ومن كل ذلك نعرف كيف نستدل عليه.
وتنهد من جديد وقال متمنياً لو كان ثأراً لأرسلنا من يأخذه من ابن شيخ العشيرة المطلوبة! أو أحد رجالها المهمين، تاركين الفاعل الحقيقي، لأنّ لا قيمة له أمام الشخصية التي سنقتص منها.
وسيكون الثمن الذي تدفعه العشيرة المطلوبة مضاعفاً بقتل أحد وجهائها!
وضرب كفاً بكف وقال:
– أما البحث عن سيَّارة مسروقة، وسارق حضري في شوارع البلاد وأزقتها، فهو أمر لا يستطيع فعله إلا المجانين.
وهنا ابتسم وقال:
– ونحن منذ زمان بعيد والعشائر تنعتنا بالجنون والتهور والرّعونة، ومنذ اليوم الذي ستبحث فيه العشيرة عن السيَّارة المسروقة سنؤكد لهم صدق ما تقولوه عنا وحسبنا الله ونعم الوكيل!
وبهذا القول الذي فاه به الشيخ، فهم أبناء عمه أن الأمر قد تقرر بالبحث عن تلك السيَّارة المسروقة، مهما كانت النتائج، وفي ذات الليلة سافر عشرة من رجال العشيرة الأشداء إلى مختلف أنحاء البلاد باحثين عن السيَّارة المسروقة، وفي جيوبهم رقمها.
وقد جرت كتابته في بعض الأحيان بطريقة خاطئة، وفي أحيان أخرى يصادف أن يكون حامل الورقة لا يعرف القراءة والكتابة، وفي ساعة الحاجة، وعند الاشتباه بسيَّارة يكلف من كان قريباً منه من الصبيان والرجال بقراءة الرقم، ومقارنته بالرقم، الذي يحمله، ولم يكن دور هؤلاء العشرة في حقيقة الأمر سوى تبليغ الأخبار لمئات غيرهم من عائلات العشيرة المنتشرين في طول البلاد وعرضها.
ويكتفي هؤلاء بتوجيه عمليات البحث التي يقوم بها أفراد العشيرة في المدينة التي يحلّون بها ضيوفاً على رئيس فخذ العشيرة هناك.
وبعد يومين من سفرهم بدأت النتائج تظهر أمام دار جدي الكبيرة على شكل سيارات كبيرة مخطوفة على شاكلة سيَّارته المفقودة، وداخل كل سيَّارة ثلاثة من رجال عشيرتنا الملثّمين باليشماغ أو أكثر، وقد وضعوا فوهات مسدساتهم باتجاه رأس السائق المسكين.
طالبين منه التوجه إلى دارنا لمعرفة إن كان هو السائق الذي سرقنا، وجعل عشيرتنا أضحوكة أمام العشائر الأخرى.
وتهرع عائلتنا صغيرها وكبيرها لتفحّص رقم السيارة ووجه السائق، والمسكين يتوسل إلى خاطفيه بأنه لم يفعل شيئاً مشيناً طوال حياته. وحالما تنتهي عمليات التدقيق برقم السيارة وصاحبها إلى نتيجة لا ترضينا يطلقون سراح صاحب السيارة مع تعويض مالي يدفعه جدّي إلى صاحب السيارة لقاء ما سببه له الخطف من خسائر، وقطع أرزاق.
ولكن في أغلب الاحوال تأبى كرامة السائق أن يأخذ تعويضاً مادياً عمّا أصابه من ضرب بأعقاب المسدسات، والشتائم والمهانة، واتهام باطل بالسرقة، فيرفعون رؤوسهم إلى السماء طالبين من الله الانتقام لهم من عشيرتنا وشيخها ومواليها وبطونها.
وبعد شهر من ذلك العمل الدؤوب بلغ عدد السيَّارات المختطفة أكثر من عشر سيَّارات، ودون فائدة تذكر، وكان السائقون يتواصلون بينهم ويروون قصصاً خرافية عمّا أصابهم على أيدي رجال عشيرتنا من ضروب المهانة والعنف.
فصار الواحد من السائقين لا يشغل محرك سيَّارته في الصباح إلا بعد أن يتأكد من وجود مسدس معبأ بالعتاد في صندوق سيَّارته لرد غارات عشيرتنا وعلى لسانه شتيمة للصوص أبناء اللصوص.
وخلال ذلك الشهر من الخطف والترحيل إلى دار جدي الكبيرة وقعت مصادمات عنيفة بين رجالنا، والسائقين ووقع العديد من الجرحى.
وازداد دعاء المظلومين على شيخ عشيرتنا، فأصيب في اليوم الأربعين من رمده واليوم الثلاثين من حملة خطف السيَّارات بالعمى التام!
ولم يعد يميز شيئاً من حوله، فاضطرت العشيرة، وبجلسة طويلة مفعمة بالصراخ والسباب والاتّهامات المتبادلة بالغباء، وقلة النخوة، والشهامة وسوء التدبير، واللصوصية إلى تنحيته عن مشيخة عشيرتنا لصالح ابنه بعد أن فقد الصلاحية الشرعية لقيادة مركب أولاد عمه وعشيرته.
وحسبما تنص قوانين العشائر على ضرورة توفّر السلامة البدنية والعقلية لشيخ العشيرة، وكما جاء على لسان زاير عاتي، وبمجيء ابنه، الذي كان من الجيل الجديد، الجيل الذي يستنكف أفراده من وضع اليشماغ والعقال على الرأس، وكان يحرص على أن يفرق شعره بمشط الخشب من مفرق الرأس، ويزيته بزيت نباتي، ويرفض لبس العباءة الجوخ والصاية الإنكليزية، التي تظهر سرواله القطني الأبيض الطويل..
(2)
في بداية عهد الشيخ (الابن الميمون) أمر بتوقيف عمليات البحث الجارية عن سيَّارة جدّي التي كلفت العشيرة خيرة رجالها توقيفاً في أقسام الشرطة، والمستشفيات.
وطلب طيَّ صفحة الماضي المخجل، والاعتماد على شرطة المرور للبحث عمّا ضاع منهم، وأخبر جدّي لتلطيف وقع الأمر الجديد عليه بأنهم على استعداد لجمع المال اللازم من أفراد العشيرة لشراء سيارة تماثل المسروقة، وإعطائها لجدّي، وإنهاء هذا الموضوع الدامي، الذي لطّخ سمعة العشيرة بأردأ النُعُوت وجرَّ رجالنا إلى أسوا العواقب.
فنظر جدّي إليه باحتقار شديد، وفي ذهنه أنه شاب ناعم أفسدته المدارس، وعلّمته تمشيط شعره بالزيت، مثلما تفعل البنات، وأطرق الشيخ السابق الذي صار ضريراً، ولا حَوْل له ولا رأي في مجلس العشيرة، وقال جدّي بصوته الجهوري ليسمعه الجميع:
– إنه ليس بحاجة لجمع الصدَّقات من أولاد عمه وعشيرته، ولو كان الحادث قضاءً وقدراً لاشترى بدلاً من السيارة سيارتين، دون أن يحك له أحد لحيته أو يستشيرهم في شيء، لكنهم الآن في موقع المهانين المعتَدى عليهم، وسيشجع خنوعهم العشائر الباقية على هضم حقوقهم، والاستهانة بهم إلى حدِّ تلفيق النكات والمفارقات الضاحكة بحق وجهائهم وكبرائهم.
وترك المجلس العشائري المنعقد في أوج أزمته بين مؤيد له ومؤيد لشيخ العشيرة الجديد، وخرج دون أن يلقي بتحية الوداع على أهله وأولاد عمه، ولكن الشيخ الجديد ملس شعر رأسه المفروق من الوسط بكلتا كفيه وضحك بعد انصراف جدي وقال:
– يريد عمنا يحفظه الله أن نبقى بعقولنا القديمة، وهو لا يعرف أن الزمن تطور، وأصبحنا طوال الفترة الماضية في أفواه الناس من جراء فرط حمقنا أضحوكة لا تنتهي.
وبقي جدّي في تلك الليلة يلف لفافات التبغ ويحرقها مالئاً صدره بذلك الدخان الأزرق، الذي يتصاعد بعد ذلك خارجاً من فمه، وأنفه على شكل سحابات من الغيظ المنطفئ، وجدَّتي لا تتوقف عن إلقاء المُطَّال، في الكانون، لغرض زيادة النار في الموقد لتسخين القهوة والشاي بسرعة أكبر، لمجاراة ذلك الغضب الساحق، الذي يموج به صدر جدّي.
وكان بين الحين والآخر يتحدث إلى نفسه بصوت عال، كأنما لايزال ذلك الاجتماع العشائري منعقداً، وهو يصول فيه ويجول مثل الفرس الرهوان، وحين يلتفت ولا يرى غير زوجته بحزنها الأبدي، وانعقاد حاجبيها، كأنما هي على وشك البكاء لا تتكلم، ولا تعلّق بكلمة أثناء ساعات ضيقة، مكتفية بتحريك دلال القهوة، وإبريق الشاي المسودّ، وتجمع حولها بالمنكاش جمرات النار، فيصرخ بها:
– القهيوة يا ابنة الأخيار..
وبالرغم من أن جدَّتي تجاوزت الستين من عمرها فإنه لم يتوقف يوماً عن النداء عليها واصفاً إياها بالصبية الصغيرة الجميلة الحَبّابة.
( 3 )
عاد أبي إلى البيت بعد مدة تشرد دامت طويلاً، لم يسأله أحد أين كان أو ماذا فعل، وأمّي التي تجللت بالسواد طيلة تلك المدة التي فارق بها أبي البيت ظهرتْ على وجهها الذابل ابتسامة، وبدت فرحة مشدودة إلى حلم ما، وهي تضع قدر الماء على البريمز الضخم استعداداً لتسخين الماء لاستحمام أبي.
كان جدّي في مشراقة البيت، مستمتعا بأشعة الشمس، وبيده ماكينة حلاقة يدوية قديمة، وهو يحلق لحيته، ويجعل هيئتها على شكل مثلث متساوي الساقين، متتبعاً آخر تقليعة للّحى عند الشيوخ كانت منتشرة في تلك السنة.
ارتجفت كفا جدتي، وهي ترى ابنها مقبلاً دافعاً باب الصفيح الخارجي على سعة الفتحة بملابسه القديمة المرقعة، وعليه تلك السترة العتيقة التي اشتراها من أحد أسواق بغداد للأشياء المستعملة.
وبدا عليه أنه كبر عشر سنوات.. كنت جالساً قريباً من جدي في المشراقة أسمع أصوات شهقات جدتي، وهي تحتضن أبي وتقبله.. جدي حين رأى ابنه قال ضاحكاً:
– ها هو أبوك، لا يزال فارساً صنديداً كما تركنا، ولكن قبل أن تذهب لتقبيل يديه اذهب وانظر من باب الدار إلى الطريق.. هل استعاد سيارتي المسروقة أم أنه أضاف المزيد من العار لعائلتنا بتشرده طوال الشهور الماضية؟
لم أجرؤ على التحرك باتجاه أبي، كان يبدو لي غريباً، ولا أعرفه، ومازلت أتذكر أني فكرت لحظتها، لو أنني كبرت مثله، وتزوجت امرأة كأمّي، وتساءلت، هل أصبح مثله بهذه اللحية السوداء النامية بكثافة، وذاك الشارب الكثّ، والشعر الملفوف كالأسلاك الرفيعة المجدولة، وتلك الحدبة الصغيرة الظاهرة بين الكتفين؟
في تلك اللحظة كرهت أن أكون بقذارته، ويأسه وحزنه وفقره الظاهر، وعدم مقدرته على التعبير عن نفسه وقت الفشل، كرهتُ أن أكون مثله تاركاً امرأتي وابني طيلة تلك الشهور باحثاً عن شيء يسمونه سيارة مسروقة!
ولم أكن أفهم بعد تلك المعاني الكبيرة المترددة على ألسنة الكبار، حول الشرف والعار، ونظرات الشماتة في عيون الأعداء، لا أدري كيف أخذني أبي والفرحة تطل من عينيه، وهو يرفعني إلى صدره صارخاً بفرح حقيقي:
– ابني صار كبيراً ولم أعد أستطيع حمله!
كانت أمّي في فناء الدار، وبيدها مغرفة الطعام، والحشد العظيم من أبناء عمومتي الصغار، ونساء أعمامي وأعمامي الكبار، والصغار يركضون صاخبين باتجاه القادم.
شعرت بقلب أبي ينبض قريباً من قلبي عندما رفعني عن الأرض بصعوبة، واحتضنني، وفي تلك اللحظة الضاجة بالحنين غفرتُ له كل شيء، وتمنيت أن أكون مثل جدتي، التي لم تخفِ فرحتها، واشترت بما ادّخرت من مال عجلاً سميناً.
وقدم جدي خروفين من خرافه التي يرعى بها أحد أولاد عمي في مزابل المدينة، وأطراف المزارع، ووجّه جدي الدعوات إلى كل أفراد عشيرتنا، والجيران واستثنى شيخ العشيرة، قائلاً لمن سأله عن السبب في عدم دعوته للشيخ أن الذي يفرق شعره بالمشط من الوسط، كما تفعل الصبيات، ويدهن شعره بالزيت لا يحق له الجلوس مع الرجال!
وذهبت مقولة جدي بحق الشيخ إلى كل بطون العشائر وبيوتها، وتناقلها الأفراد، كما يفعلون مع الشعر الشعبي الجيد، وقد ساهمت هذه الكلمات، التي قالها جدي بالقضاء تماماً على مستقبل ذلك الشيخ بين العشائر، وصار أضحوكة، ولم يحترم كلمته أحد بعد ذلك، ونظر إليه شيوخ العشائر حين التقوا به أثناء عقد الفصول والحشوم* والأفراح والمعازي نظرتهم إلى مدّع، وبدعة من تلك البدع التي يبتلي بها الله العشائر بين وقت وآخر، ليجرّب إيمانهم وصبرهم، وتمسكهم بدينهم الحنيف، وأعرافهم العشائرية.
وأقسم بعضهم على عدم مدَّ أيديهم لمصافحته إلا في وقت الضرورة القصوى، وإذا فعلوا ذلك عمدوا بعد ذلك إلى غسل اليد التي صافحته أربعين مرة، لمسح نجاسته، والتي أشاعوا أنها تبطل الصلاة!
( 4 )
ظهر أبي في ذلك الاحتفال الكبير، الذي أقامه جدي بمناسبة رجوعه إلى البيت بعد تشرده الطويل بثياب بيض جديدة، وعقال أسود رفيع ويشماغ أحمر، بوجه حليق ذابل تبرز منه عظام الفكين، كأنما عانى طويلاً من جوع وحرمان مريرين.
لن أنسى شكله ذاك أبداً، وكثيراً ما جاءني في عالم النوم، كملاك أبيض له أجنحة كثيرة، وهو على تلك الصورة، التي طلّ بها على جمع المدعوين في ذلك اليوم البعيد.
وفي تلك الليلة التي ما زالت أصداؤها في رأسي غنّى الموهوبون بالغناء من عشيرتنا أغنيات جنوبنا الحزينة عن الفراق، وحكوا في إحداها عن مفاخر جدي، الذي سافر إلى روما مع محمد العريبي، أكبر إقطاعيي جنوب العراق في العهد الملكي، واستطاع أن يصرع مصارعي روما في “المصارعة الزيتية”، والتي كان يُغمر فيها المتصارعون أجسادهم وملابسهم بالزيت، والفائز بالبطولة يُلقب بـ”باش بهيلوان”، لكن جدي لم يلقب بهذا اللقب، لأنه بعد فوزه الكبير ذاك، كافأوه بثلاث نساء متبرّعات، ليقضي ليلته معهن، حسب تقاليد أهل ذلك الزمان، لكنه رفض اصطحابهن إلى غرفته بالفندق ورعاً وخوفاً من الله، ومن ذلك اليوم سُمّي بين أفراد العشيرة بشريف روما.
وحكت الأغنية عن اللقاء الذي يمتد في الزمن للحظة واحدة فقط في فورة الحياة وديمومتها، وعن جمال نسائنا وألحاظهن القاتلة، وإخلاصهن العبودي في تنفيذ وعودهن لأحبابهن، وعن حماية العشيرة للدخيل، وعدم خوفنا من الموت، ومداعبتنا لأهدابه كل يوم من أيام حياتنا..
كانت أمي مسرورة بذلك الاحتفال بعودة زوجها، وقد لبست أجمل ثيابها، وغسلت شعرها من الحناء، وعطّرت ثيابها بالبخور، ورأيت لأول مرة بعد غياب أبي شبح ابتسامة مستدقة على شفتيها.
وفي هذه الأثناء ضبطت جدتي ابن عمي مرهون، الذي كان أكثر شيطنة من جميع أبناء أعمامي قاطبة، أثناء نقل طعام الدعوة إلى المدعوين، وقد كان جالساً فوق سور البيت، قريباً من البوابة التي يمر منها الرجال، وهم يحملون على رؤوسهم صحاف الطعام المعدنية الواسعة، فيعمد إلى سرقة قطع اللحم الكبيرة من فوق تل الأرز، ويضعها في قدر وضعه في حضنه دون أن يشعر به أحد.
وبعد أن يمتلئ قدره يفرغه في أحضان مجموعة من أطفال المدينة من أصحابه، وقفوا بعيداً عن مكان الاحتفال متظاهرين بعدم الاهتمام بما يجري، لكنهم يزدردون بأكفهم غير المغسولة، ما غنموه من قدر مرهون من اللحم بفظاظة تشبه ما يفعله جيراننا المعدان في الولائم.
أمسكت به جدتي، وهو يسرق أكبر قطعة لحم، وحاول أن يفلت من قبضتها الحديدية فوق السور، وبيده قدر المسروقات، ولشدة ارتباكه وقع من فوق السور فوق رأس أحد أولئك الأوغاد الصغار، فشج القدر رأس الصبي، وأخذ الدم يسيل من رأسه.
كان منظر الصبي وهو مشجوج الرأس، والدم يسيل على ثوبه القديم يذيب أكثر القلوب قسوة، وفي حقيقة الأمر أن ذلك الصبي لم يحصل على شيء من الطعام في ذلك اليوم. فحنَّ قلب جدتي عليه واصطحبته إلى داخل الدار، وغسلت جرحه من الدم، وأحرقت قطعة قماش، وأطفأتها ووضعت ذلك الرماد على جرحه، فتوقف سيل الدم، وأمرتْ له بطعام يحتوي على أكبر قدر من قطع اللحم.
وما زلتُ حتى هذه اللحظة وأنا أرى ذلك الصغير يزدرد قطع اللحم من دون مضغ، والدموع تسيل من عينيه من ألم جرح رأسه، ومخاطه يسيل من أنفه مختلطاً بخيط متقطع من الماء والدم، مقرفصاً، كالمتسول في باحة الدار، ورؤوس العشرات من أوغاد المدينة الصغار، الذين كانوا يحاولون تسلق سور بيتنا لرؤية ما جرى لصاحبهم الذي شُج رأسه.
وحين رأوا الحال التي صار عليها، أخذوا يطلقون صيحات الحسد، والتمني على الله أن يحلّوا محله، حتى لو كلفهم ذلك قطع رؤوسهم، وليس شجها فقط، وأحدهم صرخ: هنيئا لك يا عم باللحمة الهنيئة، ويا ليتنا كنا معك مولاي.. ألف عافية.
** الفصول والحشوم: مفردها فصل وحشم، وهو المال المقدم من قبيلة إلى أخرى دية عن مقتول أو تعويضاً عن خسارة.