سَرْدِيَّةِ اللَّهَب

معرض "حروق الأحياء" لخديجة الجايي
الجمعة 2022/04/01

صُورٌ نصفيَّةٌ بطبقات، يَنْتَهِكُها تَخْريمٌ في صفحة الوجه، مُعَدِّلاً التقاسيم. يكتسح التخريم العينين أحيانا، أو قد يتلافاهما، مُحَصِّناً قدرة التعرُّف على الوجه. وصُوَرٌ شخصية لجسد ناهض، يُفْصِحُ عن تَطَلُّعِهِ، ويُضْمِرُ ما هو عليه من إنهاك، مَسَامُّ الجلد تُطِلُّ من رداء بدا كفَضْلَةٍ نجت من حريق عَصَفَ بدولاب؛ الثوب يُهَنْدِسُ بثغراته متباينة الأحجام مواطن الوجع في الجسد الغضِّ. ولوحات خمارات نسائية طُرِّزَت تخطيطاتها على هيئة ندوب. ومُنْشَأَة في شكل جدارية تتجاور في استطالتها الأفقية صناديق زجاجية متماثلة، منطوية على حزم ورقية بتدرجات سوداء متباينة التكوين، تُجْليها في هيئة سفوحٍ شَوَّهتها حمَمٌ مُلتهبة. ومصوغات خشب وقماش ومطاط مقدودة من جمر…، على هذا النحو نَجَّمَتْ خديجة الجايي في معرضها الذي يحتضنه رواق “كنتوار دي مين غاليري” بمراكش (ما بين 04-03-2022 و 04-04-2022)، شظايا سرديتها الفردية، المُرَوَّعَة بعُنْفُوانِ اللهب، وخَبْوِ الرماد، وما يتأتّى عنها من مجازات لونية تستبطن تضاريس المنتهك والممحو والمنذور للفناء.

تبدو أعمالُ التركيب والكولاج، والفوتوغرافيا، والصباغة على المُزَقِ المرتصفة، أو النابتة من جذر محبوك، وكأنما تستأنف فصولا متسارعة لجذوة متأصلة في الجسد والنُّسُوغِ، لذات وافدة من يفاعة مُشْتَقَّةٍ من عتبات ضريح، ومدينة مغربية عتيقة، مأهولة بالتباس درامي، “مولاي إدريس زرهون“ التي درجت خديجة الجايي بين بيوتاتها الحانية، ودروبها الظليلة، قبل أن تعيد صياغة ما رشح من رواء عبر ثنايا جدرانها وأرصفتها وحواريها، ومن ضيائها وظلالها القادمة من زمن مضى، عبر تأويلات بصرية تمزج بين نوازع التَّمَثُّلِ والانتقاد والرثاء، لقدر إنساني لا فكاك منه. إيحاء صاعق بكيان لا يبرحه الشغف بالأصل، والتشوف إلى تطويق حلم يسكن أطفالا ونساء وأناسا بسطاء، ويلهب رغبة الخروج في دواخلهم، عن عتبات الحصن المنيع.

في معرضها الحالي الحامل عنوان “حروق الأحياء”، لا تبرح خديجة الجايي جرحها الأصلي، ولا تتخطى تفاصيل ما أرّقها باستمرار من أسئلة بصدد “وجود الذات في غير محلها”، و”القهر المضاعف للهوية النسائية”، و”تداخل طبقات الأرض والجسد” و”التباس حواضن العذاب”، و”رمزية الجثة” و”ارتهان المدن والمسارات الشخصية إلى جرح أزلي”، و”اللجوء إلى سحر الكلمات والصور التي لا تفتأ تمّحي”، وما يتصل بها من تفريعات موضوعية، واختراقات استعارية… ولم يكن الوفاء لتقنية اللهب نحتا ورسما وتحويرا وتركيبا، إلا حفاظا على أداة تحدد في جوهرها الاختيار الأسلوبي، ذا المنحى المأتمي، مهما تغيرت أشكال السند، وطبيعة المواد، وأصول الخامات، في تكوين ملامح المقترحات الفنية، لتنتهي إلى تكوين لا يخلو من جُرأة في تقليب احتمالات اللوحة المعاصرة، في رهانها على الخروج باسترسال عن قواعد المهارات المأثورة، وما قد يعلق بها من وقع عابر.

جدل الأرض والجسد

لوحات

في عمل مركزي من متوالية وسمتها بـ”مقام الخلود”، في معرضها الراهن، ضمن مشروع “مجاز”، يَمْثُلُ هرم بِلَّوْرِيٌ من صمغ وورق وخيوط وأصباغ متباينة، يحتضن ما يشبه تكوينا صخريا بتجاويف في الأطراف والحنايا، تقعيرات لها تخوم تَضْمُرُ شيئا فشيئا في انحدارها إلى العمق، مؤلفة كتلة فراغات داكنة، تتخللها نتوءات بياض مكتوم، للحمة الورق المضاعف. وتَرْتِقُ الحوافُ المساحةَ بين الفجوات بلون بشرة متعفنة، يسري في المساحة البيضاء، مشكلا غطاء لونيا شبيها بالصدأ. يوحي النصب الشفاف أن لا مومياء بالداخل ولا ناووس، فقط جمر خامد، وبقايا أثر لما استعر ذات يوم. فالعنفوان الدنيوي المتطلع إلى تأبيد العيش، لا يسعه تحنيط النضارة، ولا الاسترسال في الوقت دون حد. واصطناع المقام (أو الضريح) لا يحتفظ بالجسد القديم، وإنما يُبقي الشغف. إذ الأهرامات حُجُبٌ، وتمائمُ لدرء النسيان، واللحود بشتى مراتبها رموز لتقديم الأجساد قرابين لفورة الحمم المستعرة في الباطن. وكأنما العمل الفني ينظر إلى محمول مفردات المعري “خفف الوطء لا أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”؛ من أفق بصري يُحِلُّ طبقات التراب مكان المومياء المفقودة، ويعيد رسم ملامح الجدل بين اللهب والرفات، ثم بين التراب والأثر. هل هو مجاز الضريح الذي يسكن الذاكرة؟ ربما، لكنه أيضا تقليب لأوجه فعالية المقامات التواقة للخلود بشتى صنوفها، حيث يستكين رفات الاسم والسطوة، مُوهِمًا بخموده، لكنه يُطلُّ بقناعه اللَّحْدِي على من بالخارج، لمنحهم جذوة الفعل والتعلق والسعي.

ولم يكن غريبا، من ثم، أن تتجلّى الأعمال المتلاحقة لمتوالية “مقام الخلود” المجبولة من نفس مكونات الهرم الصمغي، على المنوال ذاته، كاشفة للحَشَا، فما بداخلها لا يحتوي إلا طبقات جمر منطفئ، يحدث ثلماته الغائرة على الامتداد المنبسط، المُخَضَّبِ بما يشبه الدم الفاسد. بشكل يجعل الفجوات تتغلغل في العمق، كأوهاد تشق أحشاء الأرض، ومثل مَهاوٍ مسترسلة.

في عمل من معرض سابق لخديجة الجايي حمل عنوان “بركان” (ومتوالية “مقام الخلود” تنويع على بركان استعاري)، تبدو للناظر لحاءات ورقية بعضها فوق بعض، يُكَدَّرُ نصوعها تدريجيا بما تتشربه الحواف من لون رمادي ينتهي بأخاديد سوداء، تتجلى شبيهة باخترقات الحمم الصخرية لأديم هش. ترتصف المنشأة من مربعات زجاجية بعدد يتجاوز الثلاثين بقطعتين، تحتوي السطح الأبيض المتخلل بالفراغات، الذي يقتبس تجاعيده المشعّة من الغيوم الداكنة المتخللة بسريان الضياء الخاطفة. تبدو الصفحة مرآة عاكسة لما فوق في السماء، ولما في الباطن، حين تتأملها لا يكون بمقدورك كف الذهن عن مقارنة الأخاديد المتفحمة في اللحاء الظاهر بما يناظره من اختراقات الندوب للجلد الناعم في صفحة الوجه المصور، أو شظايا الأعضاء في متواليات لاحقة.

أمواج العتمة الناطقة

لوحات

هكذا تسترسل مجازات التنويع والإبدال في تبيين وهج الرماد ما بعد خمود اللهب، وسطوع عتبات الفناء، ففي سلسلة أعمال أخرى تحمل عنوان “رفات الأرض”، (لوحات/تركيبات)، تبدو خديجة الجايي وكأنها بصدد إعادة رصف قطع البازل المصطنعة عشوائيا، على نحو مُرْبِك، يستهدف، عن قصد، تبديد الوحدة المتجانسة؛ ثمة شظايا صور مسوَّدة الحواف، لما مثّل يوما ما هيكل جسد حي، وأعضاء مبتورة، ووجوها ملغزة، تطفر من ثناياها عيون جاحظة، انتُشلت من طبيعتها السوية، وغُرِسَت خارج النسق الناظم، في وضع يَرْتَقُ النُّثَار، ويُثْبِتُ الكيان وينفيه في الآن ذاته، يمحوه ويُؤثِّلُ فجيعته؛ شيء شبيه بإعدام ألبومات عائلية في نار مِدْفَئَة ذات يوم شتائي، يعقبه ندم مباغت، وانتشال للمُزَقِ في رمقها الأخير، على عتبة الفناء، فتستقيم فسيفساء شائهة، لا رابط بينها، إلا نجاتها جميعا من اللظى. ذلك ما تثبته على نحو أخاذ لوحات المتوالية المنعوتة بـ”رفاة الأرض” (وهل للتراب جثة؟) المتقاطبة والمتنائية في آن، تبرز المزَقُ مثل ألسنة مُشْرَعَة، فالورق لسان ناطق بعتبات صور، صحيح أنها أشكال مثلومة، ومقتطعة من امتدادها، بيد أن صمتها مقرون بإيحاء مَوج هادئ، يضبط إيقاع التلاشي، فالفناء سفر في الزمن، وانتقال في عتمة التراب.

وفي متوالية أعمال ثالثة من المعرض حملت عنوان “وجع الكائنات” تتخطى تكوينات الغضون الغائرة قاعدة الطبقات، لتستكين على الصفحة الحاملة لتقاطعات الخطوط والأسطر والانحناءات، في وضع تتشابك فيه تكوينات صاهر المعدن اللاهب على الورق، تقاطعات تَدِقُّ شيئا فشيئا لتستحيل في بعض الأعمال إلى نمنمة، يتخايل لناظرها طيف شجر السدر الواخز، أو طحالب في عمق مائي، أو قطعة وَبَرٍ مقتطعة من امتدادها، مجبولة من ورق ومطاط وصباغة إكريليك، لتفصح عمّا بعد تحلل الجسد وتلاشيه، ولعل اجتثاث الجزء المقلص من التكوين الظاهر والدال، إلى ما بعده، أي انتقاله إلى جثة منذورة للتشريح والدفن أو الحرق، تَطَلُّعُ إلى جعل الرائي يقف أمام حقيقة الوجع الجحيمي الذي لا ينكشف إلا باعتباره ذرة في بدن عاتٍ.

***

لوحات

على هذا النحو تراهن خديجة الجايي في عملها على أن تخرج إلى مساحة الضوء، الكاشف والمبهر، التشوهات المضمرة، وجعل ما يعتمل في وجدان الأفراد من شعور جهنمي يتعرى عبر ندوب مرئية، تبرز نوازع المداراة والصمت، وما يتصل بها من كوابح، وما قد يستتبعه اختراقها من عذاب، هو الذي ينهض حائلا، في لحظات جمَّة، دون تجاوزها، قبل أن تنحفر تدريجيا كأخاديد في الداخل العميق، هي نفسها التي تُحَوِّل التركيبات إلى أشكال وأحجام، وكتل بصرية صاعقة. ولا جرم من ثم أن تنهض فكرة الطبقات، وتآكلها واحتراقها، بدور جوهري في إبراز خضوع الكتلة الحية لمراتب من الحجُب العصية على الاختراق، إلا على نحو فطري.

والشيء الأكيد أن ما اقترحته الصيغة البصرية لمعرض “حروق الأحياء”، على فُتُوَّة صاحبته، يفصح عن تَطَلُّعٍ باد إلى الخروج من صيغ الأزمات الظرفية ذات البعد الاجتماعي أو العقائدي، إلى أفق إنساني أرحب، له بلاغته الأسلوبية، وشفافيته في تركيب الجرح الشخصي ضمن محكية جماعية تتقاسم قدر الفناء، كما ينطوي أيضا على رغبة لاعجة في استذكار أصل ومرتع،  شاء مكر التاريخ أن يُحَوَّلَ جوهره المديني إلى مجرد عتبة لضريح.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.