شظايا الأثر المُستَنسَخ

الأعمال البصرية لريّان ثابت
الأربعاء 2021/12/01

لعل من أبرز رهانات الفن المعاصر الارتقاء بالأشكال المادية إلى كيانات لا تُثقلها المضامين الأصلية، وتخليصها من شَوائب الاستعمال المُؤقّت والحضور البشري، وتركها تستقل ببلاغتها المظهرية عن الحواضن، وما يرافقها من أهواء ومنافع وأوهام وكروب. العمل البصري المعاصر بهذا المعنى ناطق بمُضْمَره القابل للتجريد، وبقدرته على تخطّي مجاله الدنيوي المحكوم بالزمن والمسافة؛ أي بتواريخ المدن والأرياف والصحارى وطوبوغرافيتها المتحوّلة، ومن ثم استشراف “ما بعد” اندثار الأصل، وما يلفُّه من شذرات تَخَيُّلِيَة، واستنبات معان طارئة “ما بين” عناصر الأشكال المجردة.

ذلك ما تثبته للرائي متوالية الأعمال التركيبية للنحات والمعماري اللبناني ريّان ثابت الذي ينتمي إلى جيل ما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، شأنه شأن عشرات الفنانين البصريين اللبنانيين ممن ألفوا أنفسهم رهائن الوجود البرزخي بين عوالم الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وتَحَوَّل العمل البصري في اشتغالهم إلى صيغة لتخطي عجز المفردات عن انتشال الأشياء من قدر الامّحاء؛ مزيجٌ من الإقامة ضمن محكيات الجذور العائلية، والسرديات التاريخية والسياسية، عبر جسر الكتلة الحسية المهملة، الحاملة لجذوة الاستذكار، في جغرافية متقاطعة التخوم والذهنيات والمسارات.

“ما بين” لبنان والجنوب السوري والغرب الأردني والشمال الفلسطيني وبحر ميت قسَّمه قرار الأمم المتحدة في أربعينات القرن الماضي بين ثلاثة كيانات (الأردن وفلسطين والاحتلال الإسرائيلي). تَطْفُرُ من أديم الأرض بقايا عابرة للوقت وانزياح الحدود وهجرة الأمكنة، شركاتٌ وعلاماتٌ تجاريةٌ، وألبومات شخصية، ومذكرات، وأرشيف استعماري ممتد من أدبيات المنقّبين عن الآثار إلى سجلاّت شركات البترول، وسكك الحديد المنتهية الصلاحية، والقوارب المتروكة لعجزها، والأثاث العتيق المُنَجَّمِ بين الأسر، وخِيَم الرحل المنزوعة من اشتراطات الخرائط،… تتحول كل هذه المتلاشيات إلى مدوّنة نثرية بليغة بقُدرتها على تحجيم المسافة والوقت، “ما بين” فراغات الاقتلاع، في فسيفساء المنطقة الملتهبة، لتنتهي هياكلها، إلى ما بعد الكنه الوظيفي، في مسعى لاستنساخ شظايا الأثر، عبر تجهيزات تتداخل فيها توصيفات الحكاية المُلَمْلِة، بالتركيبات المعدنية والخشبية والزجاجية، والمجبولة من ملح وتراب وزيت، بتفاصيل كولاج مختلط، وتخطيطات على ورق، وأرشيف فوتوغرافيا، وتسجيلات فيديو…، لتتقدم في المحصّلة كل تلك التجهيزات باعتبارها أمثولات واصلة بين أقانيم البحث في التاريخ الاجتماعي، والجغرافيا البشرية، والاقتصاد السياسي، والآثار الطبيعية والعمرانية، والتاريخ العائلي، والسرديات البصرية.

مجاورات مستحدثة لتاريخ الأشكال

لوحة

ما بين عروض في اللوفر(2019) والميتروبوليتان (2020)، ويونيت للفن المعاصر(2019)، ومتحف مارينو ماريني (2016)، وترينالي يوكوهاما (2020) وعشرات المعارض الأخرى في برلين وفلورنسا وطوكيو ودبي وفالينسيا وإسطنبول ولندن وباليرمو، أطلق ريان ثابت مشاريع حلقية بعناوين تتغيّى إعادة إنتاج الأثر المستنسخ، الذي تتقاطع في بؤرته سرديات شفوية ورسمية دون أن يكون لها كفاءة وضع الهيكل المحسوس، المتبقي بعد تواتر الخطوب، ضمن دائرة الضوء: “أرابيسك”، “الممتلكات الغريبة”، “لقاءات”، “الممالك المنسية”، “فتات”، “كن صبوراً!، حظاً سعيداً!، وأبقى مبتسماً!”، “آه، جميلتي فينوس!”، و”يدٌ إلاهية”، و”حوار” و”الجثة الأجمل”… ومشاريع أخرى قاسمها المشترك استنادها كلها إلى مرجعية “الأثر المستنسخ” للفعل السياسي في الجغرافيا والمحيط المجتمعي والذاكرة وأنماط العيش.

“أقصر مسافة بين نقطتين” (2013)، عنوان مُنشأة من حلقات فولاذية مستديرة، في قُطر أُنبوب،  مُرتَصِفةٌ على نحو أفقي، تتخلّلها فجوات متماثلة، تتشابك ظلالها، وينعكس امتدادها في الأفق المقابل، موحيا بالاسترسال. تجهيز يعيد صياغة سردية أنبوب نفط انطلق من الظهران في السعودية في أربعينات القرن الماضي، وتحول مساره، إثر قرار تقسيم فلسطين، من حيفا إلى “الزهراني” في جنوب لبنان، مخترقا، الأردن وسوريا. العمل له تمثيلات متباينة بتباين صيغ العرض ما بين توغل في عتبة زجاج عاكس يوحي باللانهائي، واختراق وسط صالة موهمة بانغلاق، يبدو فيها تراصف الحلقات، لأول وهلة، أشبه بدائرة إسطرلاب تتضاءل دوائره تباعا، لتبيين مراتب الحساب الزمني، بينما تتجلى من منظور عَرضي وضمن تَرَاكُب مكثّف، مجرد دوائر، تتصادى مع مرجعيات معلقة في الجذران المحيطة: النص الواصف لحكاية الأنبوب، والخط الواصل بين نقطتين، والظلال المتشابكة. لكن في النهاية ثمة تحدّ لاعتقاد موت الشيء المحسوس، والمختصر إلى مجرد حلقات متخللة بالفراغات.

وحين يتحدث ريان ثابت عن عمله يحكي وُقوفَه على بقايا الأنبوب الخارق لشركة “التبلاين”، الذي جعل المَحْكِيَة قاعدة للاحتفاظ بالنسخة المختصرة للعدد، مساحة وحدودا، لكن بصرف النظر عن حكيه وتأويله للحلقات، ثمة نطاقٌ مُتبدّدٌ بين العروض، وكلها تترك للحلقات الفولاذية التباساتٍ قاعدية في التجريد، هناك فراغات دوما بين الدوائر المفرغة التي توهم بالأنبوب، بينها تخلُّلات للنفي الموجِب، المُختَصِر لذاكرة التقطُّعات والانتكاسات، والأحلام المجهضة؛ لقد كان منحى الأنبوب سببا لوحدتها ورفاهها لزمن قصير، قبل أن يتحول إلى تراث للقطائع، التي كانت مردومة تحت التراب، وغير منظورة ولا محسوسة إلا كانقطاع لمحتوى السائل المترقرق؛ الفراغات هي حدود، لكن النفط لم يعترف يوما بما فوق الأرض من أسلاك شائكة أو ستائر رملية أو جدران، كان يسري حتى لو تقطعت الأرحام، لهذا ظلال الحلقات لا تستقر على وضع؛ هي هناك في الداخل، وفي السطح، دون أن تمحي الإيحاء بعدم وجودها. هو الأمر الذي يجعل الاسترسال في السياسة والاقتصاد، المختصرة في كلمة “نفط” مجرّد وهم، مثلما الوهم الذي جعل من الماء سطحا قابلا للتقسيم الخرائطي.

ذلك ما يستحضر في التجهيز المعنون بـ”البحر الميت”، المعروض كتفصيل ضمن عدة مشاريع، ثلاث قطع ناتجة عن شطر صفحة شفافة تبدو جامدة، شطر عمودي يمثل نصف السطح والعمق، وشطران متساويا الطول، يقسمان النصف الباقي، ممتدان في العمق على نحو متدرج يوحي بطبقات أركيولوجية، النصف العمودي ناهض، هو الممثل لحصة الأردن من البحر الميت، يقف على جدع هو آخر قشرة في طبقات التكوين الصلب، والشطين المقابلين مائلين، موجودين كحصص في القسمة، ومنزاحان عن الوضع العادي، يبدوان شاذين في قسمة كل ما فيها يوحي بخرق الطبيعة، صيغت الكتلة الممثلة للتجهيز من ملح ورمل وزيت، مشتقة من جبلة البحر الميت ذاته، وتتضاءل تدريجيا مع مسافة العرض، تبدو المنشأة تحايلا على رغبة تشكيل ما لا يشكل على نحو منظور، إذ التقسيم الكمي هو مجرد قرار نظري، تجريده هو جزء من عبثية تمثله حسيا، والسعي إلى تحويل المجرد إلى أشكال هو باروديا سوداء، تشبه لون الكتل الداكن، وفي النهاية تتحول الخرائط من تصاميم هادية إلى بؤرة لالتباسات بصرية، ذات عمق  هجائي.

إبصار ما بعد الأثر الشخصي

ولأن الشكل الموروث عن رغبة المؤسسات والسلط لا يمكن أن يتجلى على نحو مفهومي ضمن مشروع حلقي، إلا بسند شخصي، فإن تاريخ العائلة بات مصدرا لأرشيف مؤسس في عمل ريان ثابت البصري، هل هو الحظ؟ ربما ، لكن ثمة أيضا المكان المخترق بأنصبة المفارقات، كان ثمة جد اسمه “فائق بُرخش” عمل قبل قرن وبضع سنوات  مساعدا ومترجما للمستكشف  الألماني البارون “ماكس أوبنهايم”، في حيز جغرافي يسمى “تل حلف” بسوريا، واكتمل ألبوم ومذكرات للجد، شكلت الخامة المولدة لمشاريع: “تاريخ قصير للبنان” و”الجثة الأجمل” و”فتات”، في النهاية ما يجمع بين هذه العناوين/المشاريع هو اتصالها بكنه السلالة والذات والجسد المستخلص من اليقين، في عمل بعنوان: “قبرص” يَمثُل قارب معلَّق، هش، وبادي الشيخوخة، قارب متروك على اليابسة، للفح الشمس والريح والمطر وملوحة تقتني الصلب في الهيكل لتُنْهِكَه، توازنُ القارب المعلق مقرونٌ بآلة الكبح الحديدية، ذات الاستدارة المُفرعَة على نحو ثلاثي، مسنون بما يشبه السنّارة، التوازنُ شكلي، ليبقى العمل في الهواء دون الاقتراب من الأديم، قارب عائلي نُذر لهجرة ارتكست، لم يصمد الوعاء الخشبي أمام عنفوان الموج، فعادت العائلة إلى مرفئها اللبناني، ثم، لبث هناك، مستكينا لخيبته، الحكاية يرويها ريان في غير ما معرض لمُنشأة “قبرص”، لكن ما لا يحكيه هو تمثُّل “ما بعد” الوضع المعلق للقارب، الموضوع في ميزان الكابح المعدي، حلمُ العودة الراسخ في القرار العميق، بحيث يماثل رغبة السفر في مخيلة اللبنانيين، الوجود هنا وهناك وعيش العودة ولو تخييليا، والارتحال ولو على أجنحة الحلم، وضعٌ نادر بين شعوب العالم، حيث الوجود في النهاية يكون في “الما بين”.

ومن تنويعات هذا الوجود البرزخي ثمة منشأة أساسية أسماها ريان ثابت “جنيالوجيا”، قصاصات نسيج بأحجام غير متماثلة، هي تفريعات شذرية لخيمة متوارثة، قُسّمت بين أبناء وأحفاد الجد “فائق بُرخش”، جمعها ريّان لصياغة سردية الترحُّل، بدت شهادة على قَدَرٍ وعلى انتماء إلى الذهاب والارتكاس، “الما بينية” التي توحي بها القطع، هي الوطن المتجذر في النسوغ، لا تقول شظايا الخيمة نسيجها ولا ألوانها ولا أحجامها المتضائلة، وإنما حضورها في المسار، وغيابها أيضا. التكرار والتجاور العددي المخترَق بالفراغات (قطع الكتان الرمادية)، هو الهيكل الذي يسميه ريان “شكل الأشياء”، ما بعد انتزاعها من سياقها، وشروطها في جغرافية السياسة والاقتصاد والثقافة والاعتقاد. قطعٌ مستطيلة لمنسوجة من شعر الماعز مخطّطة جُبِلت من ألوان متساندة: الأبيض، والبني، والبني الداكن، والأسود، تتخللها تخطيطات متقطعة توحي بأن ثمة سند مهيمن مَوَّهتْه التنويعات؛ طبقات لون موهوبة للقسوة والشظف، والبسط والطي، تُفصح بماهيتها، بعد  حجمها، عن “التخللات”، في المسافة، فضاء ووقتا. لم يكن ريان ثابت مجرد ناقل حكاية مغرية بالاستنساخ، وإنما مؤلف أمثولة رمزية، للحظة، وسلالة عائلية، وجغرافيا؛ وربما جدلية الوجود داخل الأمثولة وخارجها في الآن ذاته هو ما يمنح طاقة التجريد للعمل البصري التواق للملمة الأثر المستنسخ.

قناع للعين العتيقة

لوحة

في تجهيز حمل عنوان «آه، جميلتي فينوس»، اختصر ريان ثابت رحلة المنحوتة البازلتية من الكتلة إلى الشظايا (الكشف الأثري المركزي للمستكشف الألماني أوبنهايم)، يريد ثابت أن يقول “ما بعد” انتهاء ولع العين القديمة، وما يعقب تشظي الغنيمة الاستعمارية، لأجل لملمة صيغة أصلية مشتهاة، عبر قوالب ونسخ، تحكي الانتقال من الكتلة إلى الفتات، شيء شبيه برحلة الخرائط في من المدى المتدفق إلى الأسيجة: أقنعة غير مكتملة لما يشبه تمثال فينوس بعد تشطيرها، ونقلها إلى ما بعد التكوين، وما بعد الاكتمال، قطعٌ متنابذة، لا تجد معناها إلا في العين القديمة، الهادية، وكأن الناظر أمام قطع “بازل” هي السطح والعمق والتكوين إنما خارج النسق الناظم.

أقنعة على حوامل خشبية ترتكز على طبقات بلاط منتزع من موطن التمثال، سوريا، حيث الحرب الدموية منذ أزيد من نصف عقد، لحاءات متراكبة تحاكي الشظايا وأمثولة القناع، الناصية مع العينين، والأنف الناتئ في محيط ضيق، وارتفاعة العنق، ثم الدقن وصفائح تتمثل الاستدارة غير المخترقة بالحواس، ما يشبه أقنعة وجه، بدون مزية، في النهاية العين توحّد، وتدرك المسافة، بين أطراف الأصل المخرب، لتحكي سردية الدمار المعاصر، لبلد وأثر ومعنى.

سيسرد ريان ثابت في ما يشبه تنويعا على لعبة الأقنعة و”البازل” شظايا لقى أثرية، في عمل اختار له عنوان: “شظايا البازلت” مئات العناصر، لا تحضر إلا بصيغة الكتلة السوداء الفحمية على ورق مقلص، ضامر، على جدارية تُشَكِّلُ القِصَر بين المتواليات، وتُفسح المدى، ثمة محاكاة لعمل المنقب، والمتحفي، وصائغ الحكاية، والأركيولوجي والمؤرخ، لاستعادة العتاقة المندثرة لحيز النظر، و”ما بعدها” سعي لبناء منظومة هجاء، للضياع والتلف؛ المنذورة له ذاكرة تقاسمتها الحدود، ومطامع الغزاة. رسومات شبيهة بتلك التركيبة سيحتضنها عرض بمتحف “اللوفر” بباريس، وقبلها منحوتات معدنية لذاكرة العرافين بعمّان، ما يجمع بين كل هذه التنويعات أنها تفسح للعدد والمدى أفقا، يستعيد قدرة العين القديمة على الإنباء.

تركيب

لم يكن ريان ثابت في كل عروضه مجرد راو أو كاتب سيرة، أو محللا لوضع منهك، كان بالأحرى مستنسخا لبقايا كتل، شاهدة على اختراقات حسية للمحكيات، عمله تُؤثله الكلمات المفاتيح في مشاريع الصَّوْغ، تأول كلها لقاعدة الشتات والهيكل والشكل التواق إلى تخطي عنفوان الانتماء لسياق ما. وفي رغبة التعالي عن الزمن والفضاء تولد التجهيزات المتصادية مع مراجعها ومع مبدأ الخروج على محيط القواعد في الفن المعاصر، خالقة رحابة لـ”لما بين” و”الما بعد” في الأشياء قبل الكلمات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.