صاحب المأساة ومتحف الأدب

الجمعة 2016/04/01

وفقًا لما جرى وما زال يجري على أرضنا من فظائع يندى لها جبين الوحوش في أوكارها، أجد أن كاتب الرّواية مهما حاول لإقناع قارئه بمأساوية وجنون الواقع المعيش، فإنه سيفشل. لأنه لن يضيف شيئًا جديدًا لما يجري على أرض الواقع. وفي أحسن الأحوال سيبدو عمله بمثابة ظلّ باهت للجريمة.

والسبب أن خيال وإبداع المجرمين على التفنّن بوسائل إجرامهم قد قطعت أشواطًا بعيدة في دروب السادية، بل إن الماركيز دي ساد لم يعد غير تلميذ بليد في مدارسهم المفتوحة كل يوم على تقنيات جديدة وجديدة دائمًا. سيحتاج إلى قدرة على التخييل تفوق خيال المجرمين الذين عاثوا بشعبي العراق وسوريا إجرامًا غير مسبوق. إن أقصى ما توصّل إليه العظيم ماركيز من تخييل فنون القتل بحق الخصوم؛ أنه جعل الرئيس المهدد بانقلاب يشبه انقلابه الذي وصل به إلى السلطة؛ أنه شوَى وزير دفاعه على سفود كبير بحجم لشته ثم عاد وألبسه طقمه العسكري الرسمي مع النياشين وقدّمه وجبة ساخنة إلى هيئة أركانه، داعيًا إياهم أن يتناولوا وزيرهم على مهل وبالشوكة والسكين. لكنّي واثقٌ أن ماركيز نفسه سيعجز أمام خيال (مجاهدي) هذا الزمن الذين لم يستعيدوا أبشع ما في تأريخنا من إجرام، بل وهذا هو المهم أنهم أتقنوا وسائل وأشكال القتل بتقنيات أين منها تقنيات هوليوود. لقد أتحفوا متحف الإجرام بتقنية قطع الرؤوس والتي كنا نعتقد أنها جزءٌ من ماضٍ مضى وانقضى، ووضع الرؤوس في بطون الضحايا، ثم تعبئة صناديق الفاكهة برؤوس بشرية وتوزيعها على الأحياء السكنية في قرى وبلدات محافظة ديالى العراقية وكأنهم يوزّعون حصة تموينية. ليأتي تفخيخ الجثث والكلاب والحمير والأطفال والمعوّقين عقليًا لتفجيرهم في التجمعات السكانية عن بعد. ثم تقنية الحرق والإغراق ورمي الضحايا من فوق أسطح العمارات العالية. وقبل هذا وبعده استعادة نظام الرق وبيع النساء واغتصابهن وتداولهن.

كل هذا يُقترف علنًا ومصورًا بأرقى آلات التصوير السينمائي وعلى أنغام صيحات التكبير.

مع هكذا واقع يبدو لا واقعيا لا بد من البحث عن تقنيات ووسائل تعبيرية غير مطروقة، تقنيات نابعة من رحم الجحيم الذي نعيش فصوله. تقنيات ووسائل تجعل الكاتب يحلّق فوق خيال هؤلاء المجرمين ليتمكّن من الإحاطة به وبالتالي تدوينه. وقطعًا ليس بمقدور الكاتب الراهن المكتوي بهذا الجحيم أن يحصل على مثل هذه التقنيات والوسائل. والسبب أنه في لحظة النزف، ما هو الآن سوى مشروع ضحية قد ينجو وقد لا ينجو. وبين الـ(قد) والأخرى مصادفات تافهة، لكنه، إن حصل على نجاته وعلى ما يشبه الاستقرار النفسي، فإنه سيتمكّن من تلك التقنيات. أنا واثق من هذا. لن يكون هناك من هو أجدر من صاحب المأساة في تصويرها وتقديمها إلى متحف التاريخ الأدبي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.