صوت الأمل في أرض الكوابيس

(رسالة مفتوحة إلى خيري الذهبي)
الخميس 2022/09/01

أستاذي العزيز…

كان هنالك الكثير مما كنت أود قوله لك.

الكثير من القصص، بعضها مضحك وبعضها الآخر حزين. كلها متعلقة بنا، وبشعبنا.

حول تجاربنا والأشياء التي مررنا بها . في بعض الأحيان كنتُ أحلم أنني أمامك. حينما كنت مشغولاً بكتاباتك وأعمالك، على سبيل المثال، عندما كنت أمرّ من جانب من إسطنبول إلى الجانب الآخر للمتوسط بالباخرة، خطرت أنت في بالي. كنت أقول لنفسي: “آه، أتمنى أن أذهب إلى باريس الآن، وأزور أستاذي خيري الذهبي وأتحدث معه. كم سيكون ذلك لطيفًا …”.

ربما تجد هذا طفولياً، لكن كان لدي حلم لإبهارك بما سأقوله بكلماتي حينها. كنت أفكر؛ إذا قلت شيئًا من هذا القبيل،  فسيحب أستاذي ذلك كثيراً وسيقول لي: “بيرين، يا له من شيء جميل قلته، أحسنتِ”.

 دعني أخبرك بقصة لم تسمع بها من قبل وستحبها، حينما كان كل شيء يضيء مثل مصابيح الشوارع التي تضاء فجأة، وإذا كنت تقدر أفعالي كثيراً. فإنك حتماً ستقول لي: “حسنًا، بيرين، كم هو لطيف منك أن تفعلي ذلك”. إنه حب وتقدير من طرفكم. كنت أرغب في ذلك بشدة. لأن هذا لن يمنحني قوة كبيرة فحسب، بل سيدفعني أكثر كإنسانة. سيجعلني شخصية أفضل وأكثر حرية. هذا ما شعرت به. كان لديك مثل هذا المعنى العظيم في عيني.

اسمح لي أن أخبرك عن لعبة اعتدت على لعبها في المدرسة الثانوية. في الواقع، كان بعض الأصدقاء يلعبونها معنا، لكن عندما شعروا بالملل بعد فترة، واصلت اللعب بمفردي. كانت اللعبة على سبيل المثال:

من يمكن أن يكون الرجل الأكثر فخرًا في القرن السادس عشر؟ أم، من قد يكون أشجع رجل في القرن الثامن عشر؟ من كانت صاحبة أجمل الإطلالات في القرن العشرين؟

كان الكثير من الناس يمرون أمام أعيننا، من تشي جيفارا، إلى أنطوني غرامشي، وعلي شريعتي، وعزالدين القسام، والشيخ شامل. كان من السهل اتخاذ قرار بمجرد النظر إلى صورهم. الآن من الصعب جدًا شرح ذلك بالعقل، ولكن على الرغم من أنه قد يبدو من الصعب فهم المعنى الذي نبحث عنه، إلا أنه كان في الواقع شيء يمكن العثور عليه في لمحة. عندما رأيت صورتك لأول مرة، وجدت هذا المعنى الذي كنت أبحث عنه منذ سنوات.

الوجه الأكثر كرامة في القرن الحادي والعشرين… تلك النظرات النبيلة التي تتحدى كل شيء… لهذا السبب أحببتك كأب في المقام الأول.

أستاذي العزيز:

كلما استمعت أكثر إلى ما قيل لي عنك، كلما قرأت أكثر ما كتبت، وكلما عرفت أكثر عن قصة حياتك الصعبة، كلما أدركت مدى الصواب في حبك.

بصرف النظر عن كونك مجرد شخص اسمه خيري الذهبي، فلقد أصبحت رمزًا في عينيّ الآن. هناك شيء أحاول فعله دائمًا. التفكير فقط في قصص الناس دون التفكير في الدين أو الطائفة أو العرق أو الجنسية التي ينتمون إليها. وهذا يعني، على افتراض أن مواقف الناس في مواجهة ما ترميه الحياة لهم هي تاريخهم الشخصي. أعتقد أن القيمة الحقيقية للإنسان مخفية في قصص التاريخ الشخصي الصغيرة هذه. بحيث من الممكن أن يكون بعضها مثيراً للغاية، بينما البعض الآخر أكثر دنيوية. تمامًا مثل فترات تاريخنا المعيش.

أما بالنسبة إلى تاريخك الشخصي، فقد كانت قصة إنسانية هائلة، غطت جميع فترات تاريخنا المعاصر تقريبًا، أي احتوت على كل المعاناة والتمردات التي عانت منها البشرية في القرن العشرين حتى الآن، والتي يمكن أن نرى فيها حالات إنسانية. على الرغم من أنك كنت تبدو من الخارج كشخص واحد يحمل اسما، إلا أنك في الواقع كنت مزدحمًا للغاية.

لقد كنت ممتلئًا بحشد طاهر وبريء. كنت دائمًا مصحوبًا بحشد جميل يتبادر إلى الذهن أولاً في بيت شعر أو كلمات أغنية أو أفضل جزء من فيلم. لم يكن ثقلاً سوريًا فقط بل كان العالم كله على عاتقكم. وأنت تعلم، أحد أكبر الأسباب التي تجعلنا نحب الشخص هو أنه يذكرنا بهذا العالم. أحببتكم مع الأشياء التي تذكرني بكم.

وأنت تعلم، أستاذي العزيز، الأفكار، مهما كانت مهمة وقوية، يمكن أن تتغير بمرور الوقت. أو قد تفقد أهميتها السابقة. ومع ذلك، فإن ما نفعله في الحياة دائمًا يسافر معنا يكون إلى جوارنا. أدق مقياس لتقييم الشخص هو حياته. لأن الأفكار غالبًا ما تعمل أيضًا كقناع. لذلك قد يظهر وجه مختلف من الخلف. حياتنا مثل موكب وجوه مختلفة تخرج من وراء الأقنعة. أولئك الذين يدافعون عن الدكتاتوريين على الرغم من ظهورهم على أنهم يساريون، أو أولئك الذين يخطئون رغم أنهم يبدون مسالمين، أو أولئك الذين يفاجئوننا بطريقة مختلفة تمامًا.

كنت قد بلغت 17 عامًا لتوي عندما عانيت من خيبة أمل كبيرة لأول مرة. كان ذلك في منتصف التسعينات، وكنا نعتزم القيام بثورة اشتراكية في تركيا. بلدنا، الذي عانى من انقلاب عسكري كل 10 سنوات، كان وطني تركيا يمر بفترة صعبة للغاية مرة أخرى، وفي مثل هذه الفترات، لا أحد يريد أن يقف جانباً ويراقب ما يجري، كما تعلم. يُنظر إلى هذا على أنه العمل الأكثر شجاعة في سن الشباب. كان لديّ هدف في الحياة حينها، هدف مقدس يمكن للمرء أن يخاطر من أجله بالموت. بدأ طائر يرفرف بجناحيه في منتصف صدري، هذه المشاعر الرومانسية كانت جيدة لروحي. إن أبطال معظم القصائد والقصص والروايات الجيدة هم أشخاص لديهم هدف مقدس، أو قضية. وهناك أيضًا الغضب الذي تحمله على صدرك كميدالية فخر. والجمع بين الغضب والرومانسية سيحوّل الانسان إلى شخص آخر مثالي يسعى إلى المثل النبيلة ومهندس لعالم جديد قريب جدًا من ولادته. هكذا ترى نفسك. الناس إلى جانبك، والتاريخ في صفك، وحتى الله في صفك إذا كنت تؤمن. هذا ما كنت أعتقد به.

لكن بعد ذلك، أبلغ عنا أحد الأشخاص الذين قادوا حراكنا وكان يبلغ من العمر 50 عامًا تقريبًا، وأنا آسفة جدًا ولكن انتهى بنا المطاف جميعًا في السجن مثل الحمقى. استطاعت هذه التجربة أن تنضجنا في سن مبكر أنا وعدد قليل من أصدقائي.

عندما دخلنا الجناح، أول ما واجهناه هو امرأة طعنت والدتها 30 مرة أثناء نومها. تعرفت على تلك المرأة على الفور لأنني رأيت صورتها في الجريدة منذ وقت ليس ببعيد. لا أستطيع أن أقول لكم كيف كنا خائفين. لم نستطع النوم في الليل لأن من قتل والدته سيقتلنا دون تفكير. نهاية القضية، التي بدأناها بأحلام كبيرة، أوصلتنا إلى هذه النقطة الغريبة. ثم حدثت أشياء أخرى كثيرة، نتيجة لأمر “صيام الموت” الذي تلقيناه، بدأنا في الإضراب عن الطعام وفقد العديد من أصدقائنا حياتهم.

أما أنت فلقد كنت في دمشق في تلك السنوات. لكنك لم تُخدع مثلنا، كنت قد سافرت قبلها إلى مصر، وأكملت تعليمك في جامعة القاهرة، وعدت إلى سوريا. لقد كنت هناك عند نقطة البداية للمعاناة الكبيرة التي ينتظرها الشعب السوري. لقد أخذت مكانك وسط هؤلاء الناس أبناء شعبك،  ولكل منهم قصة مختلفة، حيث انجرف الناس بعيدًا في منتصف التاريخ الذي كان يتدفق مثل النهر. في أصعب فترات التاريخ السوري، كنت تحاول البقاء على قيد الحياة، في الحياة الثقافية والأدبية على الرغم من العديد من العقبات والصعوبات. علاوة على ذلك، كنت تقاتل بشكل مستقل تمامًا، أي دون أن تكون تحت قيادة أحد، دون اتباع التعليمات التي لم يتضح منها شيء. وأنا على يقين مثل البسملة على لساني، أنه لو كنت معنا، فأنت لن تفعل شيئًا غير الذي فعلناه.. كنت نقيًا مثل المياه المتدفقة من ينابيع مساجد دمشق، ولهذا أحببتك كثيرًا.

أستاذي العزيز:

صديقك العزيز أحمد سعيد نجم تحدث عن إحدى ذكرياتكما معًا في المقال الذي كتبه لك. أعتقد أنك كنت ستسافر إلى عمّان لحضور مؤتمر اتحاد الكتّاب، وعندما لم تنجح الأمور في المكتب الحكومي الذي ذهبت إليه للحصول على تصريح، قمت بالتعبير عن غضبك ضد المخابرات السورية بصوت عالٍ، وتحديتهم، في وقت كان فيه الناس يخافون حتى من التحدث بصوت هامس، اعتقدت أن هذه هي بالضبط الخطوة المتوقعة منك وابتسمت. لقد ارتديت غضبك النبيل وشجاعتك مثل الجلد الثاني. الذي كان معك دائمًا في أيام أسرك في السجون الإسرائيلية لمدة 300 يوم، أو عندما تبعك رجال المخابرات السورية مثل الوحوش المتعطشة للدماء، في أيام اتحاد الكتاب العرب أو أثناء كتابة مؤلفاتك. كنت هكذا عندما كنت تقف شامخًا وسط الظالمين أو عندما كنت مع أصدقائك.

خيري ذلك الطفل البريء غاضب من كل شيء. خيري استمر في الوقوف والصراخ طوال أيام اليأس، ربما حتى عندما قال الجميع “انتهى الأمر”. خيري الذي يواصل التفكير فيما يجب أن يفعله حتى عندما يضطر إلى الذهاب إلى المنفى مثل تمريرة حزينة لموسم حزين.

ذات مرة، وأذكرها جيدًا، في فبراير الماضي، أخبرني ابنك العزيز فارس أن جذورك بالفعل في تركيا، وأن عائلتك أتت إلى دمشق منذ قرون عديدة. في الواقع، لا يهم من حيث الرابطة بيننا، لكنني أتذكر حماسي في ذلك الوقت؛ كم كنت سعيدة لأن أسلاف خيري الذهبي ذهبوا إلى دمشق من تركيا. لاحقًا، عندما سمعت أن ما حاولت فعله بشأن الأدب السوري جعلك تشعر بالسعادة، زادت فرحتي أكثر. كانت الكلمات عنك دائما عالقة في حلقي، كانت سعادتي عظيمة مثل حزني. يؤلم قلبي دائمًا أن أعرف الثمن الباهظ الذي كان عليك دفعه. بالطبع، أعلم أن هناك ملايين الأشخاص وعشرات المثقفين في سوريا اضطروا لدفع ثمن باهظ. لكن موقفك المشرف الذي يتحدى كل شيء كانت له مكانة خاصة بالنسبة إليّ بحيث أن كل معاناة سوريا اجتمعت في كيان واحد في شخصك. النظر إليك يعني النظر إلى سوريا، والحب لك بالنسبة إليّ يعني أن تحب سوريا. لم يكن الحديث معك مجرد التحدث إلى شخص اسمه خيري الذهبي، بل التحدث إلى كل الشرفاء من الشعب السوري. الحب منك يعني تلقي صلاة اليتيم والمظلوم.

أستاذي العزيز..

كعرب وأتراك، نحن أبناء تاريخ مشترك مليء بالألم. نزل حزن الآلاف من القبور المجهولة على قلوبنا. بيتنا هو الصحراء والبحر. حديقتنا، التي نحاول تنظيفها من العشب الضار بأيد عارية تنزف، مليئة بزهور الياسمين في دمشق وأشجار الزيتون في حلب. أحيانًا نجتمع معًا في دخان النرجيلة أو الشاي الساخن بالبخار، وأحيانًا في أغنية، وأحيانًا في منتصف الشجار. في بعض الأحيان نحن نعرف ونفهم بعضنا البعض من مظهرنا. لقد اختبرنا كل شيء، تذوقنا القتال والحب والموت معًا. كل تلك اللحظات معاً.

وكابنتكم، أعدكم، سترشدنا قصة حياتك حتى أنفاسنا الأخيرة. سأريكم وأقول لمن يسألون كيف لا تبيع شرفك وقلمك.

 انظروا، عدم بيع الشرف والقلم سيجعل الإنسان مثل خيري الذهبي. سأخبركم عن أولئك الذين يسألون كيف لا يتخلون عن معتقداتهم وقيمهم. سأعطي كتبك لهم وأقول: إليكم عشرات الكتب التي كتبها خيري الذهبي طيلة حياته، دفع عنها ثمناً باهظاً دون أن يفكر ولو دقيقة في الصمت في وجه الظالمين.

إذا سألوني كيف يكون الرجل شريفاً فسأقول لهم: رجل شريف يعني خيري الذهبي. وسأضيف أنه لم يجلس على طاولة الظالمين ولم يعانق قتلة شعبه.

إذا سألوني كيف يكون الرجل رجلاً؟ آه، الإجابة على هذا سهلة للغاية، إذا كنتم تبحثون عن رجل لائق، فسأقول  لكم انظروا إلى خيري الذهبي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.