ضوءُ الشعر وظلُّ الرواية

الأحد 2020/11/01
لوحة: فادي يازجي

يسترشد العربيّ بضوءِ الشعر منذ زمن سحيق لا نعلم بدايته وقد لا نعلم نهايته على الأرجح، ضوء ضاجّ بالنور البهيّ الساطع المغرور الطالع نحو الأعالي دائماً وأبداً، هكذا تشكّلت الثقافة الشعريّة في وجدان الإنسان العربيّ ومخياله ومزاجه وتطلّعاته الحيويّة والجماليّة، ويمكن القول إنّ تاريخيّة الشعر العربيّ على هذا النحو هي الضمانة الحقيقيّة الأبرز لتوكيد استمراريّته وديمومته وبقائه، مهما تعرّض في مناسبات مُعيّنة للتهميش والإقصاء والإهمال والتبسيط والعزل والتسقيط، فروح الإنسان العربيّ في جوهرها هي روح شعريّة، وحياته شعريّة، ليكون ارتباطه بالشعر جدلياً ومصيرياً بلا حدود.

تكشّفَ العصرُ الأدبيّ والثقافيّ الراهن عن هيمنة شبه مطلقة للرواية بحكم عوامل كثيرة تحتاج إلى كلام كثير جداً، والرواية فنّ مستورد من الثقافة الغربيّة يعبّر عن حضريّة الغرب ومدنيّتهم لأنّ الرواية هي فنّ المدينة، وإذا كان الشعر يتميّز بالحساسيّة الفردية فإنّ الراوية ذات حساسيّة جماعيّة أكثر قُرباً للفكر الديمقراطيّ والحريّة التعبيريّة والتشكيليّة، فضلاً على أنّ المَيلَ البشريّ إلى الحكي بحريّة أكثر استقطاباً وإغواءً للناس من ضوابط الشعر والتزاماته وسُلّمه الطويل.

إنّ حصول الشاعرة الأميركيّة لويز غلوك على جائزة نوبل للآداب هذا العام 2020 أو شعراء آخرين سبق أن حازوا عليها لا يعدّ حدثاً تاريخياً لصالح إعادة النظر والاعتبار للشعر العربيّ على سبيل المثال، إذ أنّ فوز شاعرة مجهولة تقريباً مثل غلوك لدى الشارع القرائيّ العربيّ العام لا يمكن أن يغيّر مزاج الشارع السائر بكليّته نحو فضاء الرواية، وهو أمر ثانويّ على صعيد التداول لأنّه حتّى بعد الإعلان عن فوزها قد يجري الاهتمام بترجمة بعض أعمالها إلى العربيّة، ثمّ ما يلبث هذا الاهتمام أن ينحسر ولا يبقى له أثر في الوقت الذي تبقى الراوية تلتهم اهتمامات الشارع الأدبيّ والثقافيّ العربيّ إلى أجلٍ غير مُسمّى، ربّما لو فاز بها الشاعر العربيّ الذي يستحقها وربّما هو أكبر منها أدونيس مثلاً لكان تأثير ذلك على الشعريّة العربيّة الحديثة حاضراً وبارزاً ومؤثّراً فعلاً، لكن أن تفوز بها شاعرة أميركيّة فلا قيمة لذلك أبداً على صعيد ترجيح كفّة الشعر على الرواية عربياً، ونكاد نقول حتّى عالمياً أيضاً.

الرواية ابنة البروباغاندا المدلّلة وقد تمكّنتْ من الهيمنة على الشارع القرائيّ العربيّ هيمنة تكاد تكون مطلقة، إذ ضاعفت من عدد قرّاء الرواية إلى مستويات غير مسبوقة بصرف النظر عن هُويّة هذه القراءة وطبيعة مقاصدها ومستواها المعرفيّ، وقد وصلت طبعات روايات بعض الروائيين العرب إلى عشرات الطبعات ومئات الآلاف من النسخ المُباعَة، بعد أن كان نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل لا تستطيع دار النشر التي تطبع له رواية جديدة أن تبيع أكثر من خمسة آلاف نسخة، وصار بعض الروائيين ممّن خدمهم الإعلام جيداً نجوماً كباراً تجاوزوا نجوميّة نجيب محفوظ تداوليّاً على صعيد عدد طبعات رواياتهم وأعداد النسخ المباعة الهائلة، مع أنّ بعضاً من هذه الروايات على صعيد التحكيم الفنيّ التقانيّ تفتقر إلى كثير من الشروط الإبداعيّة فيما يتعلّق باللغة والصنعة وعناصر التشكيل الأساسيّة الأخرى، غير أنّ هذه الشروط لم تعد هي الحدّ الفاصل بين رواية تكتسب شهرة وأخرى تُهمل، بل ثمّة عوامل أخرى ذات طبيعة سوسيوثقافية وسايكوثقافيّة تتدخّل على نحوٍ سافر لإشعال نجوميّة روائيّ مّا أو رواية مّا، وهي جزء فعّال من طبيعة العصر العولميّ السائر – كما يبدو – باتجاه تسليع الثقافة والفكر والأدب على نحو مقصود، وله علاقة وثيقة بحركيّة الاقتصاد العالميّ وأنشطته الجبّارة القائمة على هيمنة رأس المال وسلطاته غير المحدودة.

ولعلّ كثرة الجوائز الخاصّة بالرواية عربياً تغري كثيرين بركوب هذه الموجة بمن فيهم الشعراء أنفسهم، وقد تحوّلوا إلى روائيين بحثاً عن هذه الجوائز وأقيامها الماديّة المغرية، إذ كيف في مجتمع عربيّ شاسع يقترب في عدد نفوسه من نصف مليار من البشر، لا يستطيع شاعر عربيّ قد يتفوّق على معظم شعراء العالم المعاصرين أن يعيش من إيرادات بيع كتبه الشعريّة؟ في حين صار للرواية على صعيد هذه الجوائز وحتّى في أحيان معيّنة على صعيد النشر والانتشار موارد ماديّة مريحة، تشجّع كلّ من له قدرات معيّنة على تجربة الكتابة السرديّة الدخول إلى نادي الرواية الواعد.

يمكن القول على صعيد الشعر إنّ أهم شاعر عربيّ حيّ أو حتّى شاعر عربيّ راحل بالغ الأهمية تطبع أعماله الشعريّة لا يُباع منها سوى النزر اليسير، وانطفأت نجوميّة الشعراء التي كانت في ستينات القرن الماضي هي الأعلى حضوراً وتألّقاً وتأثيراً، فمنذ أكثر من نصف قرن والشعر العربيّ ينحسر إلى حدود ضيّقة جداً على صعيد التداول والتلقّي، ولولا الدراسات الأكاديمية في مرحلَتَي الماجستير والدكتوراه في تخصّص الأدب الحديث والنقد الحديث لانحسرت العناية بالشعريّة العربيّة على نحو أشدّ وأكثر إيلاماً، إذ بدأ الاهتمام بالشعريّة العربيّة الحديثة في هذه المنطقة البحثيّة الجامعيّة؛ بصرف النظر طبعاً عن قيمة ما يُنتَج من رسائل وأطاريح في هذا المجال، حيث أنّ هدف الغالبية العظمى لأصحابها هو الحصول على الشهادة العلميّة بأقصر الطرق وأيسرها وأقلّها عناية بالأسئلة الكبرى المطلوب محاورتها، ويحصل هذا الأمر للأسف أكثر من محاولة تقديم رؤية جديدة في مجال البحث الأكاديميّ النقديّ الجديد حول مصير هذه الشعريّة وتحوّلاتها وآفاقها.

ستبقى الرواية إلى حين هي المهيمن الأدبيّ على سوق التداول في المنطقة العربيّة على حساب الشعر، وقد لا نرى أفقاً ظاهراً يدفعنا للأمل بشأن مستقبل قريب يعيد فيه الشعر العربيّ ألقه وتسيّده للمشهد الثقافيّ والأدبيّ العربيّ، وستظلّ القصيدة العربيّة صديقة حميمة لشعراء معدودين يرون فيها نافذة حرّة أصيلة للحياة، وينتمون لها بإخلاصٍ وتفانٍ وجمالٍ وقدرٍ كبيرٍ من الضوء، حتّى تحصل المعجزة الكبرى فنصحو على أسواق شعريّة عربيّة جديدة تملأ الآفاق، ويُنادى فيها على الشعر والشعراء أكثر من أيّ شيء آخر.. (ولاتَ حينَ مناص).

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.