ضوء أخضر

الاثنين 2021/03/01
لوحة جبران هداية

“رأيتك، رأيتك بأمّ عينيّ.

رأيتك وكنت تحلقين بجناحي نسر.

رأيتك عارية وكنت ترقصين أو تحلقين مثل طائر حر، ليس ثمة فرق كبير.

رأيتك.

ستائر النافذة المشرعة تطير معك، والغرفة تغرق بالعتمة إلّا من شعاع شاحب وخفيف من ضوء القمر.

نافذتك تحجب جزءاً من جسدك حينما تبتعدين دون وعي أو نية، لكنك سريعاً ما تعودين كضوء يومض من بعيد، يقترب حيناً ويبتعد حيناً آخر، وتذرعين الغرفة كفراشة. أدركت أنك لست هنا، لست من الـ”هنا “، بل هناك في البعيد وإلى الـ”هناك” تنتمين، إلى ما وراء الغيوم.

رأيتك فراشة وطار قلبي مع إيقاع جسدك، مع جناحيك، وحط حيث سكن جسدك.

“أحبك.”

***

 متعبة كنت، أحسست بالإرهاق يجتاحني كلي، يجتاح جسدي، أسمع طقطقة عظامي كمفك قديم صدئت مفاصله.

دخلت غرفتي، تخففت من كل ما يستر جسدي قطعة قطعة وطوحت بها كيفما اتفق، وبدأت الطيران، أعني الرقص. رغبتي حرة لا يوقفها أحد أو يحدها. هذا الدواء هو الذي يقيني من الانهيار في نوبات طويلة من الكآبة.

أبدأ القفز والتسخين بحركات قصيرة متلاحقة، مثل لاعب يستعد للنزول إلى أرض الملعب والمباراة تشتعل. أدور وأدور، أقفز ببطء، أقفز ببطء عصفور يطير للمرة الأولى، وسرعان ما يتقن فن الحركات ويبدأ الطيران وحده.

عالياً أحلِّق.

جسدي يستجيب وينثني بانسياب سمكة، جسدي يتمطّى، يتهادى، يغنّي، ويتفتح كبتلات زهرة ويطير، يطير ويتجاوز كل ما وراءه ويتحرر.

ثمة إيقاع خفيّ يقوده. يصبح جسدي خارجيا، يقودني وأنا أتبعه بنشوة، فأحس بالخفة. ينثني جذعي ورأسي معاً، يتطاير شعري وأُحسني طائراً رشيقاً لا يوقفه شيء. جسدي هناك، جسدي ليس هنا، جسدي موجة بحر تفيض وتنحسر، تعلو وتعلو وتعلو. يتخفّف من كل ما يثقله، ما يرهقه، ما يحده وما يقيده داخل إطار يضيق كل يوم، كما لو أنه قميص رثّ قديم.

أصير غيمة وسط سماء زرقاء وقريبة، فأعانق الغيوم وأُحلِّق وراء الأزرق.

أرتقي سلالم من هواء دافئ، تيارات تأخذني بقوة حيناً وبرفق حيناً آخر. ما عدت أرى شيئاً. لجسدي إيقاع وأنا أتبعه. للهواء هنا رائحة ومذاق لا يعرفهما سوى من يتقن الطيران عالياً.

روحي تحلِّق، عالياً تحلِّق، تحلِّق وتسمو فتسبقني، تسبق إيقاع حركتي خارجة من جحرها الضيق. روحي تجاور الشمس وهي نائمة في سريرها، روحي توزع الأحلام على النائمين حلما حلما وتزرع وردة للغائبين.

 أنا خارج قياس الزمن ورتابته، خارج حصار هذه الجغرافيا الكئيبة التي تقيّدني وتحبس أنفاسي، فأحس بالبهجة. بهجة الطيران.

***

أذكر أني آويت لسريري ولا أعرف كم قضيت من زمن وأنا خارجي، خارج هذا العالم، خارج هذا الصندوق الأسود البائس الذي يكتم الأنفاس، ويقضم الرغبات، ويجهض الأحلام، ويمنع الطيران، ويحرم كل ما يصدر عن هذا الجسد من رموز وإشارات وتلويحات.

سحبت “الحاسوب” وأخذت أتصفَّح جداري، صفحتي الشخصية.

صندوق بريدي بمؤشره الأخضر يشير لرسائل ترقد داخله. بحركة تلقائية سارعت لفتحه وبدأت اقرأ الرسالة.

 صُعقت.

 كنت كمن تلقت صفعة قوية من يد مجهولة بالعتمة!

يا إلهي.

أعدت قراءتها من جديد. نهضت من السرير. أنفاسي تتلاحق بقوة وكأن أحدهم حفية يطاردني. سارعت لإسدال الستائر دون أن أغلق النافذة أو أشعل الضوء. أنا بحاجة لأن أعبَّ هواءً دافئاً ونقياً وأحبسه في وعاء كبير لا يضيق، وأحتسيه كماء.

جلست وراء الطاولة، أفكر وأعيد القراءة ثانية وخامسة وعاشرة.

“رأيتك، رأيتك تطيرين بجناحي نسر.

 رأيتك عارية وكنت ترقصين أو تحلقين مثل طائر حر، ليس ثمة فرق كبير.

 رأيتك.

 كانت ستائر النافذة المفتوحة مشرعة والغرفة تغرق بالعتمة إلّا من شعاع شاحب وخفيف من ضوء القمر.

نافذتك تحجب جزءاً من جسدك حينما تبتعدين دون وعي أو نية، لكنك سرعان ما تعودين بسرعة الضوء وتذرعين الغرفة كفراشة، أدركت أنك لست هنا، لست من الـ”هنا “، بل هناك في البعيد وإلى الـ”هناك” تنتمين، إلى ما وراء الغيوم.

رأيتك فراشة وطار قلبي معك مع إيقاع جسدك، مع جناحيك، وحطَّ حيث سكن جسدك. أحبك”.

***

هناك من يراقبني، من يترصدني، من يحصي أنفاسي، من لا يفوت شاردة مني أو واردة نحوي، من يحسب لي أيّ زلة أو هفوة أو قهقهه أو إشارة أو تلويحة. يا إلهي، ماذا سأفعل والمنافذ تضيق أمامي؟

 لا شكوك تحوم حول هذه الحالة. ثمة وصف دقيق وتفصيلي لما حدث.

يا إلهي، ما الذي دبّره لي في عتمة ليل؟ ما الذي سيفعله بعد؟

أنا في متاهة شائكة وخيوطها تتداخل بقوة، وقد بتُّ مكشوفة وعارية تحت شمس حارقة، ولا أعرف ماذا سأفعل، وما ينبغي لي فعله أمام هذه الورطة التي وجدتني فيها دون توقع.

جلست وراء النافذة. ومن وراء النافذة أخذت أرقب الخارج، أعاين ما يحيط بي بعد أن أيقنت أن من أرسلها يقيم هنا بالقرب من بيتي يتعقبني ويتربص بي!

العمارة المقابلة بشققها المكتظة نصفها يغرق بالعتمة ونصفها الآخر مضاء.

ثمة احتمالات تضيق حيناً وتتسع حيناً آخر: الشقة التي تقابل بيتنا تحت مرمى نافذتي تماماً مضاءة، وعارية بلا ستائر. ما يعني أن ثمة رجلاً ما يزال مستيقظاً. تُرى ما الذي يفعله في هذا الوقت المتأخر سوى أنه يتلصّص بكل سهولة على الآخرين، فتمكن من رؤيتي دون كبير عناء.

سارعت للنافذة ورحت أحدق بالنافذة المضاءة ثانية.

ماذا لو لم تكن هذه النافذة؟ لا أعرف. استبعدتها مؤقتاً، ورحت أُحدِّق بالنافذة الأخرى ممعنة النظر بكل ما أراه: إضاءة خفيفة وثمة خيالات تروح وتجيء، تجيء وتروح، تظهر وتختفي، تختفي وسرعان ما تظهر من جديد. أُحدِّق ثانية. إذن هذه هي النافذة، هنا صاحب الرسالة، هنا يقيم من أرسلها. هنا يقبع عاشق الليل بجحره!

 تتابع الخيالات جيئة وذهاباً متجسدة أمامي، بعينيي المحدقتين أراها.

 ماذا يفعل؟ ربما دعا أصدقاءه بعد أن وعدهم بسهرة مختلفة حتى مطلع الفجر، وبدأوا يراقبون الجيران من وراء النافذة، وهكذا تم اصطيادي وأنا في بيتي!

لا، لا، ربما هُيّئ لي. لا أعرف ولست بموضع الجزم أو القطع في شيء.

النافذة الأخرى، تلك في الوسط تماماً، إضاءتها قوية وستائرها مشرعة على الليل والرغبات والاستكشاف.

أرقبها بتمعن. لا أتبين أحداً، لماذا هي مضاءة؟ ربما غرق في النوم ونسي كل شيء. ولكن، هل يسكن وحيداً في شقته؟ لا أعرف. لم يسبق لي معرفة أحد من الجيران ولو مصادفة، حتى لو لإلقاء تحية عابرة، ولم يسبق لنا مشاركة أحدهم بمناسبة ما، سواء أكانت فرحاً أم ترحاً!

لا. لا. قد تكون النافذة في آخر واجهة العمارة، مقابل شقتنا من ناحية اليسار قليلاً. ثمة أشجار حور عالية وأغصانها كثيفة تغطي النافذة وتعلوها فتحجب جزءاً منها، مما يسهل المراقبة بأمان وسط العتمة. باستطاعته أن يتسلق الشجرة، فأغصانها متشابكة وكثيفة ويختبئ داخلها، فيراقب كما يطيب له، وكأنه خَمَّنَ بأن “صيداً” ثميناً ما سيقع بين يديه.

يا إلهي. أهذا ما يحدث حقا؟

لا.

 إذا انزلقت قدمه عن الشجرة ستكون كارثة قد تودي بحياته في هذه العتمة. ورغم أن هذا يبقى احتمالاً، غير أني لا أتمكن من استبعاده.

 الاحتمال الآخر أنه، وبمهارة عالية، سيتمكن من القفز عبر نافذته المشرعة لشقته بكل هدوء، وكأن شيئاً لم يحدث.

لا، لا، هل يفعلها رجل عاقل؟ من قال أنه عاقل؟ لا أعرف. بت لا أعرف شيئاً ولا أريد.

اللعنة. لا أريد سوى معرفة من هو صاحب النافذة الذي يتلصص علي ويراقبني ويعد أنفاسي وحركاتي ويقتحم خصوصيتي دون أن يأبه لشيء، وأكثر من هذا قام بإرسال رسالته لتحذيري.

أُدرك بيقين أن من قام بإرسالها يقيم هنا وعلى مقربة منّي، بل هو في أحد شقق هذه العمارة التي تواجه بيتنا تماماً، وليس من فاصل سوى طريق فرعي صغير يخدم الحي.

ماذا سأفعل؟ هي لعبة احتمالات لا أكثر، قد تصيب وقد تخطئ.

الاحتمال الذي أربكني: ماذا لو كان صاحب الرسالة لا يقيم في أحد هذه الشقق؟

ماذا؟ كيف ضبطني متلبسة برقصي عاريةً إذَن؟ لا. يبدو لي هذا احتمال بعيد وغير قابل للتحقق.

قال إنه “عاشق الليل” ما يعني أنه يبقى متيقظاً حتى مطلع الفجر، وما يؤكد إقامته في واحدة من شقق العمارة التي تقابل بيتنا تماماً. وهكذا استطاع بدهاء ويُسر أن يضبط ضحيته دون كبير جهد أو عناء. وقد أكدتُ، في مكان هنا من القصة، أن ثمة يقين في هذا الأمر لا يقبل الشك!

لا أعرف..

أنا جد مشوشة، مرتبكة، وحائرة، وعاجزة عن التفكير بهدوء.

من المحتمل أن يكون صاحبها قد كتبها بالصدفة المحضة دون رؤيتي، أو معرفة أنني فتاة تتقن فن الرقص، فأرسلها هكذا دون قصد أو نوايا مبيتة. حقاً؟ مؤكد بأن هذا احتمالٌ لا يقوم على أيّ منطق؛ إذ كان وصفه لي ولرقصي وصفاً دقيقاً لِما قمتُ به فعلاً.

***

انقلبت المسألة برمتها، ووقعت بكل ثقلها وقسوتها فوق رأسي:

هل أكون أنا المسؤولة، أعني عن كل ما حدث لي؟ كيف نسيت نافذتي مفتوحة وستائرها مشرعة؟ لا أدري؟!

أمام مرمى نافذته المشرعة جلس الشاب وحاسوبه أمامه، كما نافذتي تماماً، يتصفح حيناً ويستطلع الخارج حيناً آخر، فضبطني “متلبّسة بالرقص العاري” دون دهاء، أو خطط مسبقة، أو عناء؛ فالأمر لا يستوجب سوى القليل من التدبير! ولكي يُخضعني لسطوته، قام بكتابة الرسالة دون إغفال شيء وبتفصيل، وأرسلها من فوره ليحذرّني مما هو قادم، وليفسد ليلتي.

يا إلهي.

لا أعرف ما الذي جنيته؟ وكيف تأتى لأحدهم أن يقتحم عالمي ويتلصص على شؤوني، ما خفي منها وما ظهر؟

لم يعد ثمة خصوصية للمرء في هذا العالم الذي صار قرية كونية صغيرة.

***

القلق الذي استبد بي، والخوف الذي انتابني مما سيقدم عليه، وكل ما عانيته من هواجس واحتمالات كانت في مكانها وها قد حان وقتها.

 اتصلت بي زميلتي بالعمل ذات مساء وأخبرتني أنه وأثناء تصفحها في أكثر من موقع على الإنترنت وجدت لي أكثر من صورة وأنا أرقص شبه عارية.

هاتفتني صديقتي وهي متفاجئة، أوضحت لي أنها وقعت في حالة من الصدمة وهي بين التصديق والتكذيب حين وجدت صورة لي بمحض الصدفة وأنا عارية على الأنترنت في مجموعة تدعى” فتيات يجدن الرقص”. وأوضحت لي اسم “الويب” (Web) والرابط.

لم ينته الأمر هنا.

في طريق عودتي للبيت الذي وصلته متأخرة على غير العادة، بسبب أزمة السير الخانقة عند نهاية الدوام ذلك اليوم وجدت شقيقي بانتظاري والغضب ينز من ملامحه.

– أنتظر عودتك بفارغ الصبر. قال قبل أن أسلم عليه.

– خيرا. قلت ضاحكة.

– لا أعرف ماذا أقول، أو كيف سأقول!

– خيرا. قلت. وأحسست بدقات قلبي تكاد أن تشق صدري.

– في المطبعة وأثناء بحثي عن صور مناسبة لبوستر إعلاني وجدت لك أكثر من صورة، وفي أكثر من موقع، وصمت طويلا إلى أن قال:

تجيء النهاية من تلقاء نفسها ودون استدعاء من أحد.

 صحوتُ متعبة إثر ليلة طويلة من الأرق والقلق والتحسب والاحتمالات ليلة امتدت حتى خيوط الفجر، حينها اتخذت قراري وعزمت على التصدي للأمر ومواجهته.

قبل الثامنة صباحاً كنت في مديرية الأمن، وتقدمت بشكوى خطية وأرفقتها بالرسالة، لقسم مكافحة الجرائم الإلكترونية. بعد أن شرحت لهم الأمر بتفاصيله كلها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.