ضوء الكابوس الأعمى

الأربعاء 2021/12/01
لوحة: يوسف عبدالكي

أخرجُ ليلاً

أتسكعُ في الشوارعِ، وأراقبُ الناس.

أنفصلُ عن نفسي وأشاهدُ الاثنين يتزاحمان على الأماكنِ في المسيرِ والمقاهي والشرودِ إلى حيثُ لا شيء، وأقصدني.. أنا والناس، وباقي الكلاب السائبة وخفافيش الليل.

في السيطرةِ القريبةِ من شارعِ أربعين عندَ التقاطعِ، كان أحدهمْ يحملُ غيمةً نائمةً في حضنهِ ويدندنُ بصوتٍ خافت

لا تبكِي يا صغيرتي.. سيأتي المطرُ قريباً.

***

في الواحدةِ ليلاً.. الكلابُ تتعاركُ بوحشيةٍ حولَ لحمةٍ بيضاءَ ملفوفةٍ بقماطٍ أبيض.

المرأةُ التي رمتْ لفافةَ الطفلِ في الجانبِ الآخرِ من الشارعِ تقفُ مثلَ منحوتةٍ جامدةٍ وفوقَ رأسِها غيمةٌ تمطرُ دموعاً منْ رذاذِ صراخهِ الطويل.

***

كانَ الليلُ يخيّمُ على الخرابةِ المحشورةِ بينَ أزقّةِ البيوتِ القديمة. صوتُ صراخٍ مكتومٍ ودربكةُ أشقياءٍ يتبادلونَ الشتائمَ، والتماعاتُ السكاكينِ ترشقُ المكانَ بخيوطِ دمٍ مسفوح.

في كلِّ مرةٍ يقطعونَ منْ لحمهِ، ويقذفونَ عليه، كانَ يتمددُ جسدهُ فوقَ المزابلِ، وكلُّ العيونِ الملتصقةِ بشبابيكِ البيوتِ المجاورةِ تلاحظُ ما يرتفعُ من الخرابةِ قطعةً قطعةً، وكلُّ قطعةٍ تتجسدُ ثمَّ تنتفخُ مراراً حتى تفصدتْ في أوّلِ الفجرِ بينَ أكوامٍ من البيوتِ الخربةِ، وكتلةٍ كبيرةٍ من اللحمِ المنتفخِ تتمددُ حتى السماء.

***

في حلمهِ الأخيرِ، يهطلُ المطرُ منْ حيثُ لا يدري، لكنهُ هذه المرةَ، من الأسفلِ الى الأعلى. وكلُّ ما يراهُ مقلوباً على رأسهِ/القططَ وبعضَ المارةِ وضوءَ أعمدةِ الشوارع/في الليلِ فقطْ. يستطيعُ أنْ يميزَ الأشياءَ وهيَ تمرُّ عبرَ قطراتِ المطرِ لحظةَ الاستيقاظِ وسطَ بركةٍ من البولِ الجاف.

***

استيقظتُ في رحمِ أمّي، وبقيتُ نائماً في مائهِ. لستُ ميتاً ولمْ أصرخْ أبداً.

***

صوتي العالي دوماً، يزعجُ أهالي الحيّ، حتّى عندما أسلّمُ على أحد وحينَ أقفُ تحتَ نافذتكِ ليلاً، أكونُ حريصاً على مسكِ هزيمِ صوتي ومسحهِ بهفهفةِ الفراشاتِ وترطيبِ سحنتهِ بالندى، ثمَّ رميهِ كرمحٍ نحوَ نافذةِ غرفتك.

هلْ تسمعينَ الليلَ وهوَ ينسدلُ على عينيكِ

إنهُ صوتي.

***

خرجتُ تحتَ المطرِ في هذا الليلِ متأبطاً مسدسينِ ومخازنَ رصاصٍ كثيرةٍ، بحثاً عن الفقراءِ. وجدتُ شخصاً متدثراً بصندوقٍ من الكارتونِ فقتلته. بعضُ الأطفالِ يرتجفونَ في مكانٍ خربٍ قديمٍ، يغسلُ أجسادهمْ بردُ الصقيعِ، علّقتهمْ على جدارِ الخرابةِ ورميتهمْ واحداً واحداً بدمٍ بارد. كانَ دمُهمْ قليلا لدرجةِ أنني لمْ أُكملْ اسمي على الجدار.

***

في السجنِ. كنتُ أنتظرُ منكِ رسالةً لأشعرَ بالتوازنِ، لكنَّ الفراغَ الطويلَ جعلني أمسكَ رأسَ أحدهمْ وأضعهُ في كيسِ الزبالةِ حتى مات. أعترفُ أنني قتلتُ نفسي أكثرَ من مرةٍ. الأولى كنتُ أتظاهرُ منْ أجلِ الحصولِ على العدالةِ والتغييرِ، فطعنني أحدهمْ بسكينٍ في ساحةِ التحرير. والثانية حينَ اقتربتْ مني شحاذةٌ تحاولُ ملء عباءتِها بظلِّ الشجرةِ القريبةِ مني، فرفضتُ وأرادتْ أنْ تمسحَ وجهها بماءِ النهرِ فرفضتُ. طلبتُ أنْ أعاشرَها فرضتْ وطلبتُ منها أنْ أمسكَ عباءتَها الجرداءَ فرفضتْ وسقطتْ قنينةُ العرقِ في النهرِ فرفضَها الماءُ ورفضتْني الأرضُ وكنتُ قريباً من السماءِ فرفضتْني النجوم.

أيّتها السماءُ.. الرفضُ فكرةُ الفردوسِ التي طردْتني منها لا مفتاحَ عندي ولا أراجيزَ غيرَ أنّ فكرةَ الطردِ خطأٌ فادحٌ، مثلَ شحاذةٍ تريدُ شيئاً وترفضُها، كما يرفضُ مديرُ المدرسةِ هروبَ تلاميذهِ من السياجِ لدخولِ دور السينما الصباحي.

في السجنِ كنتُ أشحذُ الأملَ مثلَ لؤلؤةٍ نائمةٍ في قوقعة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.