عالم يوسف الناصر

الجمعة 2022/04/01
لوحة: يوسف الناصر

1

ألوان الزيت على قماشة الرسم المربعة، أو المستطيلة عادة ما تكون عماد الجهد التشكيلي لدى الفنان، وملاذه الأخير. هناك، داخل الإطار تستريح هويته وتستكمل خصائصه.

هذه القاعدة لا تشكل، كما يبدو، إغواءً لدى يوسف الناصر، أو هدفاً. إنه كمن يشغل طاقته برسم إسكيتشات عديدة للوحة كبيرة لا يسعى إليها، ولا يأمل بتحقيقها. إسكيتشات على ورق بحجوم صغيرة، يستخدم فيها مواد لونية مختلفة: زيت، أكريلك، باستيل، أقلام زيتية، أقلام فحمية.

والذي يرقبه وهو يرسم، أو يطلع على أعماله المتراكمة فوق بعضها، يكشف عن شيء من سر صنعته. إنه لا يطمئن إلى أيّ رؤية نهائية. يختار موضوعه دون مضمون مضمر: رأس، منظر طبيعي، بورتريت، بحر. يبدأ فرشاته ساعياً إلى المزيد من الحركة، التي تتحول مع الزمن إلى المزيد من الاحتدام. فرشاته تضرب في اتجاه بعينه. ولذلك تبدو الحركة وكأنها تبدأ من ركن بعينه. ولكن ما أن تحتدم حتى نتبين أنها تتولد من ذاتها وتتجه الى مركز هذه الذات. حركة متوترة تخرج من التباسات داخلية حادة، لا تجد كفايتها التعبيرية في الألوان وحركتها، بل لا بد لها من أن تلجأ الى الخطوط الخشنة، كبيرة بحجم بحة الصوت، أو صغيرة، ناعمة كخيوط الوسواس. خطوط حادة، عادة ما تقتحم سطح اللوحة، لتضفي مزيدا من الارتباك، الذي هو صدى ارتباك داخلي بعيد، وغير مرئي.

هذا العنف الداخلي لا شأن له بالدراما المألوفة لدى فنان مثل مونك، لأن الحركة في اللوحة لدى يوسف الناصر تخلو من عنصري، أو عناصر الدراما الداخلية، أو الخارجية المعهودة. الحركة لديه، على العكس، تتولد من بؤرة ما تُستثار وتتفجر من ذاتها، أو من فعل سايكولوجي دفين، دون مقاومة من قوى كابحة نراها على سطح اللوحة في هيئة لونية، أو كتلة، أو خطوط مضادة. حركة مثل موجة عارمة تتلاشى فوق رمل شاطئ هادئ.

حتى في اللوحات التي تعتمد رأساً بشرياً، أو بورتريتاً، نقع على عنصر يطلع من بؤرة غامضة على هيئة يد، مثلاً، في حالة حركة مريبة، مستقلة وعصية على التأويل.

في اللوحات التي تعتمد مشهداً طبيعياً، أو تعتمد الطبيعة جملةً، نقع على عنصرين ملحين كثيري التكرار والمعاودة، هما هيئة الكلاب والأسماك. ولقد صحبهما يوسف من زمن الطفولة. ولد عام 1952، ونشأ في مدينة العمارة، وعلى مشارف أهوارها الغامضة المعتمة. هذه الكلاب والأسماك رمزان للألفة والدعة لدى العراقي الجنوبي، تصبح في حالة تحولات ومسخ باطنية هيئات مدببة الرؤوس، ذات طبيعة كابوسية لدى الرسام التعبيري، الذي هجر رائحةَ الجنوب الريفي الى مدن المنافي: بغداد، دمشق، بيروت، نيقوسيا، لندن.

في الجهة المقابلة لهذه الرؤية، حركة الكلاب العنيفة، وهي في هيئة ملاحقة، نقع على رأس الكائن البشري مقطوعا عن مشاغل الجسد الحي، عن مشاغل الرغائب المتعارضة، والتباسات الروح. الرأس في الهدأة الساكنة المريبة، محاطا بهالة تشبه إكليل الشوك، أو أسلاكاً معدنية.

في لوحات الرأس نقع على ضرب من استكانة إلى الصمت. بعد لوعات الهرب المولدة بعنف من رغائب الجسد التي لا استكانة فيها. إنه رأس بلا تفاصيل، منشغل بتفاصيل في داخله. وإذا ما توفرت الأسماك فستكون باستقامة عمودية هذه المرة، وكأنها عناصر لرغائب ذكورية في لحظة مباهاة.

في لوحات المشهد الطبيعي لا تخطيء العين اللمسة الخادعة في الألوان. إنها تبدو مصنوعة لغرض الاستفزاز. عناصر حصار للكائن مقطوع الرأس، ترصده بعيون لا تخطئ مصيره المكتوب. الرأس الذي يلتفت أحياناً الى عين الكاميرا بعينين غائرتين، ضائعتين.

وإذا ما انفرد الرأس في اللوحة وسط حمرة أول الخليقة فسيكون منتسباً ـ مثل قديس ـ الى عالم آخر لا شأن له بعالمنا.

عناصر تعبيرية لا تجد مفاتيحها في زوايا النظر الجمالية، بل في سايكولوجيا الإنسان البعيدة المعقدة.

2

أعماله، التي قلت عنها أنها أشبه بإسكيتشات للوحة كبيرة لا يسعى إليها، تُحقق هدفها في المرحلة الأخيرة، ومباشرة على أثر الحرب الضارية التي سعت الى إسقاط نظام الدكتاتور في العراق. كأن يوسف الناصر كان على انتظار ما لا يأتي، ثم فاجأه كالعنقاء العاوية، أو “كالمطر الأسود”. قادم ينطوي على بشرى ونذير في آن. مطر الإغاثة، ولكن عتمة لونه لا ترمز للخصب وحده، بل تشي بمكروه. مع هذه المفاجأة دخل مرحلة جديدة جد  مختلفة.

في مشروعه الفني “المطر الأسود” تحقق مسعى الإسكيتشات المتعجلة لتكتمل في لوحات بالغة الضخامة، تتنازل عن كثافة الألوان التي تكاد تهدف الى استفزاز العين، لتركن إلى الأسود والأبيض، أو ما يجاورهما. كثافة الحركة والخطوط والألوان داخل حصار اللوحة الصغيرة وجدت راحتها في متسع اللوحة الكبيرة، ومعها وجد الفنان ضالته، وميدانه التعبيري. فالحركة والخطوط والكتل والألوان هنا لا تُعنى بالزخرف، ولا بالهندسة، ولا بالتطلع إلى ما وراء اللوحة، ولا بانعكاسات اللون، أو بالتعبير. إنها على العكس تتوزع على أكثر من تفصيل، وهي تحاول في كل تفصيل أن تحكي حكاية، ولكنها سرعان ما تبترها بحدة التعبيري. قدمان تتلاشى خطوطهما، مع أنهما في داخل حركة. سلم قائم في وحدته الغامضة. عين سمكة تغيم التماعتها. رأس مقطوع على الأرجح. قنبلة تسقط ولكن دون مصدر أو هدف.

في واحدة من اللوحات يحاول يوسف الناصر شجرةً بذات ضربات الفرشاة السوداء المتفحمة. يحاول شجرة تنتسب إلى “المطر الأسود”، ولكنها تذكر بضربات الفنان الأميركي فرانز كلاين، على أن الأخير استوحى تعبيريته التجريدية من مشاهد الرافعات الكاسرة في حياة المدن الأميركية الصناعية، التي تكاد تحجب الأفق الأبيض. الأقرب إلى شجرة الفنان العراقي شجرةٌ حاولها الفنان الفرنسي التعبيري بيير سوليج؛ في أواسط الخمسينات، تحت اسم “الشجرة السوداء”، لأن هذا الثاني استوحى ضربات الفرشاة السوداء على قاعدة بيضاء من الطبيعة في طفولته.

“المطر الأسود” مشروع سيمتد أمام رؤى يوسف الناصر الفنية ما دام مطر العراق الأسود في تسكابه الملح. إنه أقل رحمة من مطر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، الذي طالما رأى غيومه “تسحّ ما تسحُّ من دموعها الثقال”!.

 

16-8-2004

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.