عزلتي المثمرة

الأربعاء 2020/04/01
لوحة الفنان فؤاد حمدي

فوجئت، مثل غيري، بوباء “كورونا” المستجد، الشرس الذي أخذ يفتك بالبشر، ويشيع الهلع في كل مكان، ويعزل دولاً ومدناً بكاملها، وراحت مخيلتي تشطح في البداية إلى تصوره كائناً خرافياً، أو مارداً جباراً شبيهاً بمردة الأساطير وحكايات الجدات يتربص بالناس، أو يجتاح قراهم وبلداتهم ويقضي عليهم بقوته الخارقة. ثم حملتني التداعيات إلى استدعاء أسطورة “إرّا” البابلية، التي تقول إن إله الطاعون “إرّا” اقترح على كبير الآلهة “مردوخ” بالتنحي عن عرشه مدةً من الزمن، بسبب عجزه عن السيطرة على البشر لما ناله من ضعف وخوَر، كي يحلّ محله، ويؤدّبهم ويعطيهم درساً لن ينسوه أبداً. وقد حرّضه على ذلك وزيره إيشوم وأسلحته السبعة التي باتت تشكو من الصدأ لقلة الاستعمال، وما إن استجاب “مردوخ”، ومضي إلى الاستجمام والراحة حتى بدأ “إرّا” بإهلاك معظم سكان سومر وأكدْ في بلاد الرافدين بعدد من الكوارث الطبيعية والمفتعلة، بذريعة ازدياد عددهم، وكثرة ضوضائهم التي أزعجت الآلهة، فضلاً عن استخفافهم بها، وازدرائهم كلامها، وتصرفهم وفقاً لما ترغب فيه قلوبهم. لكن إيشوم يعدل عن موقفه بعد أن رأى هول الكارثة، ويأخذ بتوجيه النصح لسيده عله يوقف حملته الكاسحة، ويفلح أخيراً في مسعاه.

قبل ظهور هذه الجائحة كنت على قناعة بأن التطور العلمي، والمنجزات المتقدمة التي حققها الإنسان على الصعيد الطبي قد حصّنت عالمنا اليوم من شرور الأوبئة والأمراض التي ضربته في الأزمنة الغابرة، وأن ما يقلقنا فقط هو كوارث الحروب والمجاعات والفيضانات، مع الأمل بقدرة المجتمع الدولي على تجاوزها، أو التخفيف من أعبائها. لكن تفشي الجائحة بهذه السرعة في كل أصقاع العالم، وحصدها آلاف الأرواح، خاصةً في الدول المتقدمة، صدم قناعتي وبخّر أوهامي. ولم أجد بدّاً من الالتزام بالعزلة، أو الحجر الصحي في البيت، تنفيذاً للتدابير الوقائية المتخذة لمواجهة الفايروس، وإنجاز الأعمال التي يتوجب عليّ إنجازها من خلال الكومبيوتر. ثم جاء إعلان الحكومة تفعيل “قانون الدفاع” القاضي بحظر التجوال ليدفعني أكثر إلى لزوم البيت، والتواصل مع العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الإنترنت. وقد هالني ما صرت أقع عليه من منشورات وأخبار وأفلام ولقاءات مع أطباء عن تطورات الفايروس، وتدابير الدول للحد من انتشاره، ومعها الكثير من خطابات الرؤساء والملوك والأمراء، والإشاعات والتلفيقات والتراشق بالاتهامات بين كبار ساسة العالم، خاصةً ساسة الولايات المتحدة والصين، في سياق نظرية المؤامرة.

وأكثر ما أزعجني خلال متابعتي لتلك المنشورات والأخبار التصرفات الحمقاء التي شهدتها بعض المناطق في محيطنا العربي والإسلامي، والتي تنمّ عن جهل أو تشبث ببعض المعتقدات، مثل المسيرة الليلية في مدينة الإسكندرية التي تجمّع فيها المئات تضرعاً لإزاحة الوباء، وحشود الزائرين في بغداد إلى إحدى العتبات المقدسة، واندفاع ملايين الإيرانيين إلى الشوارع للاحتفال بعيد نوروز، غير مبالين بتحذيرات العالم من خطورة التجمعات،  في حين أن أكثر ما أعجبني قول طبيب هندي إن “هذا الفايروس له عزة نفس كبيرة جداً لن يأتي إلى منزلك إلا إذا خرجتَ ودعوته”.

وبمرور الوقت صرت أخفف من متابعة تلك المنشورات والأخبار، وأنكفئ على القراءة والكتابة، ومشاهدة الأفلام الروائية التي أحتفظ بعدد وفير منها في جهاز الكومبيوتر، أو تلك التي يقترح عليّ بعض الأصدقاء المعنيين بالسينما مشاهدتها. وأغلب ما كتبته مقالات عن المسرح أحدها حول تمثّلات المسرح العالمي والعربي للأوبئة بدءاً من مسرحية “أوديب ملكا” للشاعر المسرحي الإغريقي سوفوكليس، التي تدور أحداثها في مدينة “ثيبة”، حيث تغضب الآلهة فتنشر مرض الطاعون فيها جراء الدنس الذي ارتكبه أوديب بقتله أباه وزواجه من أمه، وانتهاءً ببعض المسرحيات العربية التي تناولت أوبئةً عديدةً، وما تركته من آثار وتحديات على مختلف الأصعدة. ومقال آخر عن حيلولة “كورونا” دون احتفال المسرحيين في العالم بعيدهم هذا العام، الذي مر يوم الـ27 من مارس، كما كانوا يفعلون كل عام، وما خلّفه ذلك من غصة في نفوسهم.

لوحة الفنان فؤاد حمدي
لوحة الفنان فؤاد حمدي

كما واصلت كتابة عملي السردي الجديد، وهو رواية ذات منحى فانتازي أفترض فيها مجيء الملك الآشوري آشور ناصربال الثاني، مع أسرته وحاشيته، بقارب شراعي، إلى مدينة أرابخا (كركوك الحالية)، التي شيّدها أثناء حكمه، ليتفقد أحوالها، إحساساً منه بأنها تعاني من انعدام الأمان، وأن مجموعة أقوام تتنازع للاستئثار بها. ويلتقي في المرفأ، صدفةً، بطالب آثار من أبناء المدينة خرج إلى التنزه على ساحل البحر، ويغريه بهدية ثمينة مقابل تسهيل دخوله ومرافقيه إلى أرابخا، فتحدث مفارقات عجيبة خلال وجوده فيها، مستغرباً الحال التي انتهت إليها، بينما كانت في ما مضى مرتعًا لأناس من شتى المنابت، يتعايشون في ألفة رائعة، دافئين وهادئين، مثل أسماك مضيئة، لا تكدّر صفوهم أطماع قبلية ولا إثنية.

شاهدت على مدى عزلتي أفلاماً مختلفةً، سياسيةً وتاريخيةً واجتماعيةً أوروبيةً وأميركيةً، منها الفيلم السويدي “المهاجرون”، المنتج عام 1971، للمخرج يان ترول، وهو ملحمة درامية زاخرة بالشخصيات المؤثرة، والصراع الأخلاقي، والمواقف الإنسانية المتقلبة، تروي حكاية مزارعين سويديين فقراء، من مقاطعة سمولاند، تضطرهم ظروف حياتهم السيئة أواخر القرن التاسع عشر إلى الهجرة من قريتهم صوب ولاية مينسوتا الأميركية في رحلة بحرية وبرية طويلة، مليئة بالمشاق والمعاناة، بحثاً عن حلم الوفرة في القارة البكر.

كذلك فيلمٌ “الصيد” الدنماركي، المنتج عام 2012 ، للمخرج الدانماركي توماس فنتربيرغ، الذي يحكي قصة معلّم في روضة، منفصل عن زوجته، تكاد تتحطم حياته بسبب كذبة تختلقها طفلة من خيالها الواسع مفادها أنه تحرش بها جنسياً. لكن مديرة الروضة تتردد في تصديقها، أولَ الأمر، حتى تستدعي مسؤولها الذي يستجوب الطفلة، فتشيع في القرية “حقيقة” أن المعلم مريض جنسياً، ويجب على الأهالي الحذر منه، خاصةً أن الأطفال الآخرين صدقوا الكذبة، وراحوا يضيفون إليها من أخيلتهم.

وكان لا بدّ أن أشاهد فيلم “عدوى” الأميركي، المنتج عام 2011، إثر إحياء وباء كورونا شعبيته. وهو من إخراج ستيفن سودريرغ، وتدور أحداثه حول وباء ينتقل بفعل فايروس عبر اللمس والهواء، ومحاولات الباحثين والمختصين السيطرة عليه، والتداعيات السلبية له على النظام الاجتماعي، على غرار ما يحدث حاليا نتيجة لتفشي فايروس كورونا.

وآخر ما شاهدته فيلم الدراما النفسي الرائع “المنارة”، وهو انتاج كندي أميركي بالأسود والأبيض عام 2019، من إخراج الكندي روبرت إيغرز، مستوحى من قصة غير مكتـَملة للكاتب الأميركي أدغار آلان بو، ومستفيدا من أجواء مواطنه الروائي هيرمان ميلفل في روايته الشهيرة “موبي ديك”، وتجري أحداثه في القرن التاسع عشر حول حارسيْ منارة في جزيرة معزولة عن الحياة في (نيو إنجلاند)، أحدهما العجوز “توماس ويك”، الذي سكن المنارة أكثر من ثلاثين عاماً، والثاني شاب يُدعى “أفرايم وينسلو” مُساعد حارس المنارة المستجد، الذي كان من المُفترض أن يمكث أربعة أسابيع فقط، لكن الأمور تتطور، في إطار ميتافيزيقي غريب، ليتحول الاثنان إلى مهووسَين بسبب عاصفة هادرة تضربهما وتفقدهما صوابهما. ثم تسود الكراهية بينهما عندما يرفض العجوز السماح للشاب بالوصول إلى قنديل الضوء في الأعلى، إذ كان يرده دائماً بقوله إنه ينتمي للضوء والضوء ينتمي إليه وحده، لكن ذلك كان ينمي داخل الفتى اليافع الفضول الذي يدفعه إلى تحقيق رغبته في عزلة ذلك المكان القصي.

وقد حاول بعض النقاد إسقاط شخصيتَي الفيلم على شخصيتَي “برومثيوس” (سارق النار) والإله “زيوس” في الأسطورة الإغريقية، لكن نقاداً آخرين لم يجدوا مسوّغاً لهذا الإسقاط، خاصةً أن الفيلم واقعي حصلت أحداثه في القرن التاسع عشر. كما أنهم رفضوا إدراجه في خانة أفلام الرعب لمجرد وجود حالة توتر مرعبة في العلاقة بين الحارسين وتصاعدها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.