علبة الحلوى

الاثنين 2021/03/01
لوحة وليد نظمي

تلك العلبة الخشبية بيضاوية الشكل التي كانت ما أن تفتحها أمي حتى تفوح منها رائحة السمن العربي الذي ينطلق من أشهى قطع الحلوى المصنوعة في بلاد الشام بأنواعها المختلفة من البقلاوة إلى قطع الكنافة المحشوة بالفستق الحلبي وكنا نجتمع بفرح حول أمي نمد قاماتنا الصغيرة أمام قامتها حيث تفتح العلبة وتجود علينا ببعض القطع التي تلتهمها بحبور، حتى إذا انتهت من التوزيع أغلقتها بإحكام ورفعتها فوق الدولاب لتظل أعيننا معلقة بها.

وكنت أحلــم دوماً أن تصير لي تلك العلبة كي أصنع منها بيتاً للدمية، أو أخبئ فيها أشعاري التي أكتبها، أو أضع فيها ألواني وخواتمي، حتى جاء ذاك الفجر الذي استيقظنا فيه وسط همهمة وأصوات غريبة، فقـد استيقظـت أمي متعبـة علـى غير عادتها، كانت تتلوى وتسند بيدها بطنها المكسور وقد أحضر لها أبي القابلة، وفهمنا أن البيت بانتظار مولود قادم.

خرجنا نحن الصغار من غرفة أمي وأغلقوا الباب دوننا وقد جلسنا مع أبي نرتقب الحدث وسط آهات مكتومة تصدر بين الفينة والفينة عن أمي، وبعد انتظار ممض خرجت القابلة بوجه مكفهر تجرجر خيبتها وسط ولادة جنين ميت قدم قبل أوانه وظل مغمض العينين إلى الأبد.

هرولنا خلف أبي نستطلع الخبر لنجد أمي حزينة تذرف دمعها، وصعقنا لمنظر صبي نائم في طشت صغير دون حراك، كان يبدو مثل دمية بجسده الفغ وأصابعه الرقيقة، صاحت بنا القابلة وأخرجتنا.

ساد الحزن من يومها أركان بيتنا، واختفى الصغير الذي لا تدري كيف تدارك الجميع أمره، وانطفأت فرحتنا بقدوم أخ لنا نلهو معه نحن البنات وتفرح به أمي التي علا وجهها حزن شفيف، إذ غادرتها ابتسامتها الرقيقة، وكثيراً ما كنت ألمح دمعة تترقرق في عينها، وعادت تشغل نفسها بشؤون البيت ورعاية أطفالها. ولم تعد تقدم لنا قطع الحلوى من ذاك الصندوق، الذي اختفى ومعه اختفت آمالي بالحصول عليه.

كنت ألاحظ بين الفينة والأخرى أن أمي تصعد إلى السقفية الحطب لتملأ سلتها حطباً وترجع به لتلقيها للموقد الذي يشتعل أواره وسط اللهيب حيث الجمرات المتوهجة التي تصطلي بنارها وجوهنا، وكنت أعشق رائحة الحطب التي تعبق بأنفي وأشعر بفرح غامر وأنا أسمع صوت طقطقته.

لاحظت أن أمي كانت تطيل المكوث في السقفية لترجع بوجه حزين وهي تحمل سلتها، حيث بت أدرك أن مجرد صعود أمي إلى السقفية يعني عودتها بسلة من الحزن، مما دفعني لمراقبتها.

لحقت بها يوماً وشاهدتها تتسلق الدرجات ثم تختفي فانسللت خفية خلفها، ووقفت خلف الحائط أرقب ما يجري، هناك شاهدتها تقف بين أكوام الحطب أزاحت بعضها ثم فجأة أخرجت علبة الحلوى وفتحتها، راحت تتأملها وهي تذرف الدموع مما صعقني وأنا أتساءل لماذا تبكي أمي أمام علبة الحلوى؟ هل تذكرها بخيبة أملها في توزيعها عند قدوم صبي لها يفرحها؟

 لماذا خبأتها عن أنظارنا وحرمتنا منها.. أسئلة حيرى كانت تعتمل في صدري كتمتها وتواريت عن الأنظار حتى هبطت أمي من السقفية حاملة سلتها.. صعدت هناك أقفز مثل أرنبة صغيرة، دخلت السقفية وأهمتني رائحة الحطب مـددت يـدي أزيحها وأبحـث عن علبة الحلوى حتى وجـدتها، ما أن لامستهـا حتـى رقـص قلبـي فرحـاً وقــد تنشقـت رائحة السمن العربي تفوح منها تحلب ريقي، صممت أن التهم كل ما بها، وأحصل عليها فارغة كحلم يرجع إلي، رحت أعالج بأصابعي الغطاء البيضاوي حتى فتحته، لحظتها صدمني منظر الجنين المملح وقد انكمش جسده الصغير أكثر، كان يرقد على قطعة من الساتان الزهري في علبة الحلوى وكأنه صبيّ غارق في أحلامه، ربما كان فرحاً أنه التهم كل ما في الصندوق من قطع الحلوى، أو أنه وحده بين الصغار الذي فاز بذاك الصندوق البيضاوي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.