عهدنة

الجمعة 2019/03/01
لوحة: أحمد مرسي

حالما رن المنذر معلنا انتهاء الوقت المخصص للأكل، أومضت شاشات الواصل المتعددة في القاعة مشيرة إلى نجاح عملية الاتصال. علا أزيز احتكاك أرجل المقاعد الحديدية بالأرض، وتلته غمغمة ناعسة سرعان ما وضع الرقباء حدا لها. لا يزال الوقت مبكرا لأي تذمر. تفقد كل فرد واصله، ثم انتظم في الطابور المخصص له. ما إن سُمح لهم بالمضي قدما حتى توجهوا للحافلات التي ستقلهم من الوحدات إلى محطة التوزيع.

بدا يوما اعتياديا حتى الآن لمرفع، يوما صادف تسميته بالتاسع عشر. استيقاظ في الخامسة، وجبة أولى في الخامسة والربع، وطريق لا ينتهي مذ يستقل المقطورة أ-1151 قاصدا ورشته بالحفارة. تتعاقب الأيام ويظل الروتين. في الحقيقة، لولا أن التاسع عشر أقرب الأيام لليوم الموعود لأمكن إقناع الجميع بأنه اليوم الأول أو السابع أو أي رقم آخر تحت العشرين. طالما الحفر مستمر، كل الأيام سواسية.

اكتظ العاملون في المقطورات وسط صراخ وأوامر الرقباء. كان هذا اعتياديا أيضا. قصد مرفع الزاوية اليمنى للجدار المقابل للمدخل، وهي ما اعتاد الجلوس فيه. ضم ركبتيه وفخذيه إلى صدره كما فعلت الأغلبية، وما إن استقر الجميع جلوسا حتى تحركت المقطورة. في لحظة ما، بعد مرور برهة من المشوار، قرر الجالس بجوار مرفع سؤاله:

“هل سمعت ما حدث بعد الوجبة الثالثة بالأمس؟”.

تنفس مرفع بعمق، ثم أجاب بعينين نصف مغمضتين: “لا”.

“أخذوا شخصا آخر من وحدته”.

“اممم…”.

“سمعت أنه حاول العبث بشريحته أو إزالتها، شيء من هذا القبيل”.

“غالبا” قال مرفع بلا أدنى اكتراث.

“لا أفهم هؤلاء” أردف الشخص، وأخرج الواصل من جيبه، “كل شيء أسهل عبرها، ألا تظن ذلك؟”.

“ربما”.

“أعتقد أنه ضرب من الجنون” قال الشخص متجاهلا ما قاله مرفع. “لو لم يكن عندي واصل لطالبت به. أعتقد أنه يستحق ما حدث به. كلهم يستحقون. ألا تظن ذلك؟”.

ما إن أنهى الرجل جملته حتى فتح مرفع عينيه، وأدار طرفه باتجاه هذا الجالس بجواره. تغطي لحيته المشعثة نصف وجهه السفلي، فيما تملأ الندوب وخطوط الزمن النصف الآخر. وبالرغم من ظلمة المقطورة نسبيا، إلا أن دكنة عيني الرجل الغائرتين بدت واضحة وسط شحوب بشرته القمحية. بدا مألوفا لمرفع، مألوفا أكثر من اللازم. حاول جاهدا استحضار ذكراه. بما أنه يستقل ذات المقطورة فلا شك أنه متوجه للحفارة. ولكن إلى أين؟ لو كان عاملا دائما هناك لما نسيه بلا شك. لعله جاء في مهمة مؤقتة. وقد يكون بديلا كذلك، ولكن لمن؟ لا وسيلة لمعرفة ذلك وسط هذا الازدحام، عليه الانتظار حتى بلوغ الوجهة.

فيما كان مرفع غارقا في تأملاته، باغته صوت رخيم جاء من أعماقه:

“مرفع، هل كل شيء على ما يرام؟”

اللعنة.

“نعم” تمتم مرفع.

“حاول انتقاء ألفاظك بعناية أكثر. قد توحي كلمة مثل ربما بأنك ساخط. هل تريدنا أن نعتقد ذلك يا مرفع؟”.

أطرق مرفع برأسه، وواصل تمتمته: “لا…”.

“قلها بصوت أعلى”.

“لا!”.

“عفوا؟” تساءل الرجل الجالس إلى جوار مرفع وقد بدت الحيرة في عينيه.

هز مرفع رأسه بالنفي.

“أوه. لكن عليك أن تكون حذرا، ألا تظن ذلك؟” قال الرجل.

أراد مرفع أن يرد بما يخفض حرارة أذنيه، بما يعيد لوجهه المحمر شحوبه المعتاد. ولكنه استوقف في اللحظة الأخيرة من ذات الصوت: “دعك منه، سنتكفل به. عليك أن تكون أكثر حذرا”.

“حاضر”.

“ثقر، نبهناك بعدم الخوض في مثل هذه المواضيع، هل تريدنا أن نتخذ موقفا حازما؟”.

“ماذا؟” تساءل مرفع حائرا.

“تبا، لا أزال على خط الأبله” أجاب الصوت قبل أن ينقطع. حدج مرفع الرجل بنظرة فاحصة جديدة. اسمه ثقر إذن. من النادر مصادفة اسم من ثلاثة أحرف في هذا الزمن، خصوصا مع كل الأجيال التي تعاقبت بعد الثورة، أم لعل اسمه قبل العشرين كان فريدا فعلا؟ أمر جائز جدا.

تمنى مرفع لو تمكن من الاستماع إلى التوبيخ الذي يتعرض له ثقر. راقبه وهو يطرق برأسه ويتمتم بما لم يكن واضحا. عليه ألا يخوض في مثل هذه المواضيع، لا أحد يدري لماذا تحديدا، ولكن لا يغير ذلك من الحقيقة شيئا. جل ما في الأمر أن التحدث فيها لا يستدعي كل ذاك الحنق، أو هكذا يظن مرفع. ماذا عن اختيار ألفاظه؟ لا يزال الوقت مبكرا للتفكير في أي شيء، ومن المفترض أن يؤخذ هذا في الحسبان. آخر ما يريده مرفع هو أن يُخصم من مكافأته في آخر يوم. لا يهم، سيهنأ الآن بما تبقى من الرحلة.

نظر عبر الفتحات المستطيلة القابعة على الجدار المقابل له. تخللت رمادية السماء كتل منفوشة تدّعي أنها غيوم، برغم أن لا دور لها في تخفيف شحوب الأجواء إلا تغطيتها أحيانا لجزء من الأشعة الحارقة. لم تكن النوافذ كبيرة بما يكفي لرؤية أي شيء في الخارج تقريبا، ولم يشفع ارتفاع بعض كثبان الرمل البيضاء في أن تُرى بشكل فعلي. في الحقيقة، كان مرفع في وئام تام مع كآبة هذا المنظر. حتى لو كانت الفتحات أكبر، أي فرق سيحدث ذلك؟ المزيد من كثبان الرمل، المزيد من المقطورات، والمزيد من مراكز المراقبة المترامية في أرجاء هذا الكوكب البغيض. طالما الحفر مستمر، كل الأيام ثقيلة. هل الحال على الكواكب الأخرى سيان؟

“هل قررت ما ستفعله بمكافأتك؟” جاء صوت ثقر مقاطعا حبل أفكاره.

تجاهله مرفع، وتظاهر بأنه لم يسمع السؤال إطلاقا، بل وصل به الأمر إلى أن أغمض عينيه تماما كما لو كان في إغفاءة قصيرة. لم يرض ثقر بذلك. ربّت على كتف مرفع منبها إياه.

“ماذا؟” سأل مرفع.

“هل قررت ما ستفعله بمكافأتك؟ غدا اليوم الموعود إن كنت قد نسيت. هل قررت ما ستفعله؟”

أراد مرفع أن يجيب بـ”ليس فعلا” أو “إلى حد ما”، وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يتفوه بإحدى الإجابتين حقا. لكن توبيخ العين لا يزال نديا.

“طبعا” أجاب مرفع بنبرة هادئة. “اتخذت قراري منذ اليوم الأول. ماذا تظنني؟ مارقا؟”.

لم تتسن لثقر فرصة الرد، إذ سرعان ما أردف مرفع قائلا:

“سأنفقها كما فعلت في اليوم الموعود السابق والذي قبله وكل الأيام الموعودة التي مضت. سأقبض المكافأة وألملم ضرورياتي، وسأستقل المقطورة المتوجهة للشاطئ الشرقي. وسأقضي يومي كاملا هناك”.

“يوما كاملا؟ أعتقد أنها مضيعة لليوم، ألا تظن ذلك؟”.

لكن مرفع كان غارقا بالفعل في ما رسمته مخيلته. شاطئ تتلألأ رماله تحت أشعة الشمس فتبدو كحبيبات ذهب ناعمة. بحر صاف تتلاطم أمواجه فتعزف مقطوعة لا يكاد المرء يدرك آخرها حتى تعاود البدء مجددا. مقعد قماشي أقرب إلى السرير منه إلى المقعد، ومظلة بألوان الطيف في المكان المناسب حيث يسند رأسه، ومنضدة خشبية مستديرة موضوع عليها كوب من عصير الفواكه في زجاج نقي كما لو أنه نسمة ربيعية. كل هذا بلا ضجيج بشر، بلا رنين منذر، بلا صراخ رقباء!

ارتسمت صورة الذكرى بوضوح أمام ناظريه. في الحقيقة، كان هذا الوضوح، المبالغ فيه ربما، سببا في تعجب مرفع من عدم قدرته على تذكر أمور يوليها أهمية أكبر. فعلى سبيل المثال، يتذكر نزهاته المتعددة على الشاطئ الذهبي قبل غروب الشمس، دون أن يستطيع استحضار وقع باطن قدميه على حبيبات الرمل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن له أن يحصي خمسة كؤوس فارغة من العصير، لكن ما إذا كان العصير باردا أو ما إذا كان مرفع قد ارتوى بشربها، فلا ذكرى تدل على ذلك. هل يعقل أن اليوم الموعود مضيعة للوقت فعلًا؟ لا، هذا محال. إنه متعب وحسب. حري بتسعة عشر يوما من العمل متصلة أن تقضي على بعض الذكريات والأحاسيس، هذا كل ما في الأمر. غدا سيملأ الفراغات ويستعيد طاقته.

توقفت المقطورة عند مدخل الحفارة. ما إن حطت رجلا مرفع بالخارج حتى تفقد واصله، تماما كما فعل الآخرون. وفيما بدأ الجميع بالمضي حيث أمروا، ظل مرفع واقفا أمام المقطورة يحملق في الشاشة. “توجه إلى المطبخ، غرفة رقم 17″، هكذا جاء الأمر. لم يخل طبعا من مفاجأة غير محببة. المطبخ؟ اعتاد مرفع أن يزاول عمله في الورشة، أن يقضي يومه تحت أشعة الشمس الحارقة. ساءل نفسه ما إذا كانت تمتلك أصلا معرفة بغير مهام الورشة أو ما تفرع منها. المطبخ؟ من أين يبدأ أصلا؟

“أنت! تحرك!” صرخ أحد الرقباء.

لما رفع طرفه من شاشة الواصل باتجاه الصوت، وجد أن الرقيب يحث الخطى باتجاهه. بدا بياض درعه وخوذته كرسم كارتوني وسط الصحراء.

“تحرك، غير مسموح لك الوقوف هنا”.

لم يبد مرفع ردا، وبدأ سيره بلا اعتراض. في اللحظة التي اعتقد فيها أنه أفلت من براثن العقاب، جاءه الصوت الرخيم مجددا:

“مرفع، لاحظت أنك تحدق في الشاشة بلا حراك، وقد بقيت على حالك برهة من الزمن. آمل أن تباشر مهامك سريعا وألا تسمح لنفسك بأن تسلك دروبا أخرى”.

ولأن الصوت باغته، فقد حث مرفع خطاه قبل أن يرد: “أعتذر، كنت أستوعب…”.

“لا ينبغي أن تستوعب أي شيء” قاطعه. “توجه للمطبخ وباشر مهامك. هناك ستجد من يرشدك”.

كان إيجاد المطبخ سهلا بما فيه الكفاية. صحيح أن كل الغرف متماثلة، لكن المطبخ يمتاز بأنه أكبرها أولا، وأنه الوحيد الذي تعلو أعمدة المداخن من سطحه ثانيا. ليس من الصعب ملاحظة هذين الأمرين وسط غرف صغيرة مستطيلة لا ملامح لها. مضى مرفع باتجاه الباب الخلفي. أمسك مقبضه وأداره ببطء، فانفتح الباب بهدوء. لمح بالداخل شخصين. أحدهما، وهو الذي أعطى ظهره للباب، كان مشغولا بغسل الصحون في الناحية المقابلة، بينما انهمك الآخر في تقطيع الخضار على لوح خشبي على الجانب الأيمن لمدخل المطبخ. ولقربه النسبي من الباب، تمكن هو الآخر من أن يلمح الضيف الجديد القادم إليهما، مما حدا به للتوقف عن مهمته مؤقتا والتحديق في مرفع.

“بديل برديس؟” سأل الرجل.

“لا أدري”.

استجاب الرجل بصوت غريب من حنجرته، كما لو أنه يجاهد لإخراج شيء عالق بها.

“إذا جئت بأوامر الواصل، فأنت بديله”.

مسح الرجل يديه بمئزره، ثم مد يمناه مصافحا مرفع وهو يقول: “هجلوس. أنا المشرف هنا”.

“مرفع″، رد مصافحا. يبعث هذا الرجل على عدم الارتياح.

“أعرف. يمكنك مباشرة مهامك من هناك” قال هجلوس مشيرا إلى منضدة في الجهة المقابلة لمنضدته. “لا تأبه بدرميع، لن يعيرك انتباها”.

ما إن أنهى جملته حتى عاد هجلوس إلى أداء مهمته. ظل مرفع واقفا يراقب ما يفعله الرجلان أثناء تأمله للمكان. مطبخ ضيق مجهز بكل المعدات الضرورية لأدنى قدر من الفاعلية. بجوار المطبخ قاعة طعام خالية آنذاك، وقد امتدت بضع مناضدها طوليا لتصبح فاصلا بين صفين من المقاعد المعدنية البالية. أخرج مرفع واصله ليتفقد ما إذا كان قد غفل عن سماع صوت المنذر، ولكن لم يحدث ذلك. ظل الأمر الأخير مرتسما على الشاشة كما وجده حين نزل من المقطورة.

“مرفع، لن تقطع الخضار نفسها” جاء صوت هجلوس.

لوحة: علي حسين مرزا
لوحة: علي حسين مرزا

ظل الثلاثة منهمكين في عملهم حتى جاء توقيت وجبة منتصف الظهيرة. كل شيء كان جاهزا بالطبع حينها، وما كان على مرفع وهجلوس إلا أن يضعا على أطباق العاملين الحصة المفروضة بلا زيادة. باشر هجلوس المهمة بنفسه في بادئ الأمر لتعليم زميله كيف يتم ذلك. سرعان ما أمسك مرفع بزمام الأمور، وأجاد وضع الطعام على الأطباق ومناولتها للعاملين بسرعة قياسية. تكمن صعوبة مهمته في الالتزام بالحصة الرسمية، وهذا ما جعله يقلل الكمية أحيانا بلا قصد. سار كل شيء على ما يرام، حتى اشتكى أحد العاملين من قلة حصته.

“كانت الكمية أكبر بالأمس!” صرخ العامل. “ستحرموننا حتى من الأكل؟”.

صار مرفع يحدق في العامل دون أن يرد.

“يا هذا” قال أحد الرقباء. “خذ حصتك وامض. أنت تؤخر الطابور”.

“فليتأخر، عليكم اللعنة جميعا. عملت جاهدا كي أحصل على وجبة حقيقية، فبأي حق يسرق هذا بعضا من حصتي؟”.

“حقا؟” سأل الرقيب مستنكرا. “أنت تجرؤ على التكلم عن الحقوق؟”.

ما إن أنهى جملته حتى هوى بهراوته على ظهر العامل المسكين. كانت المرة الأولى التي يرى فيها مرفع بعينيه شيئا كهذا.

“أحمق!” صرخ رقيب آخر في الجهة الأخرى من القاعة. دلت خطوط كتفه الزرقاء على أنه أعلى مرتبة من الرقيب ذي الهراوة. “ادع ألا يحتاج الأمر تعديلا في ملفه، أي تغيير طارئ قبل ساعات من العملية كارثة!”.

صمت فجأة، مدركا أن الجميع يراقب ما يحدث.

“إلام تنظرون؟ أكملوا طعامكم وإلا أعدتكم جميعا إلى العمل!”.

لم يحدث بعد هذه الحادثة أي شيء مثير للاهتمام، وعادت روتينية المهام من إعداد أطباق وتجهيز حصص حتى انتهاء الوقت المخصص للوجبة. عندما انصرف العمال، خرج درميع حاملا علبة سجائر، واستند هجلوس على الجدار بالمطبخ مغمضا عينيه. أما مرفع فقد سارع إلى أن يضع بطبقه ما لذ وطاب، وهم بالجلوس وحيدا بزاوية طاولة خلت من كل شيء عدا بعض الأطباق المتسخة. لا يبدو العمل في المطبخ بذاك السوء. عدا رائحة الطعام العالقة بثيابه، وعدا الوقوف المستمر أمام لوح تقطيع أو فرن حار، لم يكن في المهام ما يزعجه. يتساءل إن كان سيعيّن هنا بشكل دائم. هذا يعني أن مهامه في الورشة ستعهد لعامل آخر، ويعني أن عليه، للمرة الأولى حسب ذاكرته، تعلم مهارات جديدة ومهام جديدة. هذا أمر جيد إن تم في الحقيقة.

لم يتنبه لاتخاذ هجلوس مقعدا أمامه.

“كيف وجدت العمل هنا؟” سأل حالما جلس.

“ماذا؟”.

“هل تفضل العمل بالمطبخ على مهامك السابقة؟”.

“العمل عمل” رد مرفع بتلقائية متوقعة. “المهم أن نبقيه مستمرا”.

“هل عملت في مطبخ من قبل؟” تساءل هجلوس.

“لا”.

وضع هجلوس مرفقيه على الطاولة، وأسند وجهه على كفيه المغلقين. عاد شعور اللا-ارتياح إلى مرفع.

“لم تتغير كثيرا” قال هجلوس.

“عذرا؟”.

“لا شيء. جاهز لليوم الموعود؟”.

“نعم”.

“مكافأة كاملة؟”.

هز رأسه بالإيجاب.

“أنت محظوظ. أعرف أشخاصا خُصمت منهم مكافأة نصف عهد. وهناك بالطبع من حُرموا منها تماما” قال هجلوس.

تظاهر مرفع بعدم الاكتراث، وتمنى من كل قلبه لو مر ما قاله هجلوس توا مرور الكرام على العين. لكن من باب الاحتياط، قرر أن يبادر بسؤال هجلوس: “ماذا عنك؟ هل خططت كيف ستنفق مكافأتك؟”.

“طبعا” رد الآخر، وارتسمت على محياه ابتسامة غريبة. “أخشى أن أشاركك إياها فتسرق حلمي”.

“اطمئن، لدي أحلامي الشخصية” قال مرفع.

“سنرى” رد هجلوس بذات الابتسامة. نظر إلى الساعة على الحائط، ثم أردف “لم يتبق شيء على إنذار المكافآت. حالما أستلم مكافأتي، سأعود لحزم بعض الأغراض اللازمة كي أكون على أهبة استعدادي مبكرا لليوم الموعود. سأستقل المقطورة المتجهة للشاطئ الشرقي، وأقضي يومي كاملا على الشاطئ تحت أشعة الشمس″.

كانت تعابير مرفع المذعورة كفيلة بأن تجعل هجلوس ينفجر مقهقها.

“ما الخطب؟” تساءل ببرود. “لديك أحلامك الشخصية؟”.

قبل أن يتمكن مرفع من الرد، قام هجلوس من مقعده، وأشار لمرفع بأن يتبعه. في حالات أخرى، ولأن هجلوس ليس رقيبا لا من قريب أو بعيد، كان مرفع ليتجاهل إشارته. لكن فضوله تغلب عليه هذه المرة، ونهض هو الآخر دون أن ينهي طعامه. توجها للمطبخ، وهناك وقفا بالقرب من الفرن. أدار هجلوس مروحة الشفط، ورمى بأطعمة عشوائية على طبق كان بالجوار قبل أن يضعه في المايكروويف ويشغله.

“الوضع آمن الآن” قال هجلوس.

“آمن؟”.

“لن يسمعك العين أو يرى ما تفعله. المايكروويف قديم وشبه معطوب إلى درجة أنه يشوش عمل واصلك. وكوسيلة احتياط أخرى، سيغطي صوت المروحة على حديثنا. ماذا كنت ستقول عن أحلامك الشخصية؟”.

نقل مرفع بصره في أرجاء المطبخ دون أن ينبس ببنت شفة. قد يكون كل ذلك خدعة لاصطياده.

“على كل حال” قال هجلوس، “أعرف حلمك لأننا عملنا سوية من قبل. الفارق أنني أذكر ذلك، أما أنت فلا”.

مسح بيديه منطقة صغيرة من المنضدة. لما بدا له خلوها مما قد يعلق بملابسه، سمح لنفسه بأن يرفع نفسه ويجلس عليها. ظل يحدق في مرفع قليلا، يتأمل في تقاسيم وجهه التي لعب بها الزمن مذ رآه آخر مرة.

“هل تدري كم عمرك؟” سأل هجلوس.

“عمري؟ عشرون عاما” رد مرفع.

“هذا عمرك المخيالي. أتحدث عن عمرك الحقيقي”.

“لا أفهم…”.

“انس الأمر” قال هجلوس، “اعتقدت أنك ربما تساءلت عن ذلك من قبل. لكن يبدو أنني مخطئ”.

أخرج من جيب بنطاله حزمة من الأوراق، وصار يقلب فيها حتى عثر على ورقة ملأى بخطوط عشوائية. حملق فيها هجلوس قليلا، ثم قال:

“بحسب تقديري، أنت في عامك الثلاثين، أو الحادي والثلاثين. لا يمكن الجزم بشأن ذلك”.

أعاد حزمة الأوراق إلى جيبه.

“أنت حبيس عامك العشرين مخياليا. كل الذكريات الرئيسية التي تملكها تعود إلى نقطة معينة في ذاك الزمن. يحرص من في الأعلى على إبقائك كذلك بكل الوسائل الممكنة”.

لم ينبس مرفع ببنت شفة، بل ظل ينظر إلى هجلوس بعينين مستفهمتين. هذا ما جعل الآخر يستمر “لا أدري متى عرفت ذلك تحديدا، فمن الصعب أن تتذكر نقطة دون أن يكون لديك وعي معين بالزمن. لكن القصة بدأت حين وجدت نفسي غريبا عن كل الأشخاص من حولي، بل وجدتهم غرباء عن بعضهم البعض دون اعتراض أي منهم. لم أكن أفهم ما يجري وقتها، ولم أفهم كيف لهم أن ينهمكوا في أعمالهم بالرغم من كل ذلك. بدوت مجنونا بينهم، مجنونا لأنني أتذكر”.

اعتدل في جلوسه قليلا بحيث صار رأسه مستندا على أحد الدواليب العلوية. ثم أردف “علمت حينها أن شيئا ما قد حدث للجميع عداي. لم أعرف بالطبع ماهية هذا الشيء. جل ما كنت أعرفه حينها أنني الوحيد القادر على تكوين ذاكرة حقيقية، الوحيد الذي لا يزال يضيف إلى خبراته، الوحيد الذي يستعين على اليوم بالأمس. هذا ما جعل الأمر يتكشف لي تدريجيا. في العهود الأولى، كنت أخالط الأشخاص أنفسهم. أراقبهم وهم يعيشون حياة اعتيادية. يوم، يومان، عشرة، تسعة عشر، ثم تبدأ الظاهرة مجددا وأجد نفسي وأجدهم غرباء عن بعضنا البعض”.

كاد هجلوس يواصل قصته لولا أن تنبه لوصول مؤقت المايكروويف إلى الصفر. نزل من على المنضدة وأعد طبقا عشوائيا آخر، ثم رماه بالداخل قبل أن يشغل الجهاز مجددا.

“كانت العهود الأولى الأصعب. حينها كنت لا أزال أحاول معرفة ما يحصل، وأحاول أيضا تجنب ما قد يثير الشبهات في نفس الوقت. لحسن حظي، عينت في المطبخ مع برديس أثناء مرحلة الاستكشاف هذه. وأدين له بالفضل في تحريري”.

“تحريرك؟” تساءل مرفع. “مم؟”.

أشاح هجلوس بوجهه لليسار، ورفع بيده جزءا من الشعر الذي يعلو أذنه. في المكان المخصص للشريحة، وجد مرفع أنها جرحا عميقا مندملا.

“الحرية تتطلب بعض التضحيات. أخبرني يومها بما أُخبرك إياه الآن. لم يستطع تفسير حالتي هو الآخر، لكنه جعلني أدرك أن أطياف الذكريات الناقصة وحالات الاستغراب ليست وليدة الصدفة. كلها مرتبطة بعملية العهدنة. هذا يعني أن التحرر من العهدنة وعيش حياة غير مرسومة بملف رقميّ سيؤديان في النهاية إلى الحرية. كنت أمام قرار صعب، المسؤولية أم الاتكالية. لكن برديس ساعدني في اختيار القرار المناسب”.

“هل كان مثلك؟”.

هز هجلوس رأسه بالإيجاب، وقال “في الحقيقة، كان في مراحل متقدمة. انظر”.

أدار جهاز المايكروويف، وكشف في اللوح الخلفي عن سبعة خطوط متجاورة محفورة بآلة حادة. “حاول أن ينشئ تاريخه الخاص. لم تتسن له فرصة شرحه لي، ولكنه كان أحد طموحاته. هذه الطموحات هي ما أدت به في النهاية إلى السجن”.

“السجن؟” تساءل مرفع.

هز هجلوس رأسه بالإيجاب. “رفض في الحقيقة تسمية برديس. طلب مني أن أسميه خالدا. أراد العودة إلى الأسماء اللا-عشوائية، إلى الأسماء ذات المعنى الجوهري، إلى الأسماء التي نختارها نحن. رفض أن يكون مجرد عينة في إحصائية، أو خطا في شبكة، أو سلسلة من الأحرف بلا هوية”.

أعاد هجلوس المايكروويف إلى وضعه الطبيعي. لم يجد مرفع بدا من سؤاله:

“وهل تنوي الذهاب إلى السجن أنت الآخر؟”.

“لا، ولا أظنهم يرغبون في أن يقتادوني إليه”.

“لماذا؟”.

“لأنني وديع يا مرفع. لأنني منشغل بذاتي ولا أهتم بغيرها، ولأنني أنجز الأعمال المناطة بي دون اعتراض. يمكنك تسميته بتبادل منفعة. اتركوني وشأني، وسأترككم وشأنكم”.

“ولماذا لم يحذ برديس حذوك؟”.

“برديس قصة مختلفة” أجاب هجلوس. “لم يرض بحالة الصمت هذه، فقرر إثر ذلك ابتداع لغته وزمنه. قرر تسمية الأمور وقياسها بما يراه هو. لا شيء أخطر عليهم من شخص يستطيع الخروج عن النظام، وهذا ما كان برديس يعتزمه بالتحديد. حين اتخذ خياره بالانفصال عن الشبكة، عمل على أن يدعو غيره إلى الانفصال. كل ذلك كان مشكلة، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير هي محاولته لبدء التدوين. كنا ندرك أنه سيضبط بسبب ذلك، وهذا ما حصل”.

سكت هجلوس برهة، وصار يحدق في سقف المطبخ بلا غاية. أخذ مرفع ينظر إلى هجلوس متمنيا لو أكمل قصته. لكنه حالما أدرك أن لا نهاية لها، طرح السؤال الأهم:

“لماذا تخبرني بكل هذا؟”.

ابتسم هجلوس وهو يقول “أخبرك لأنني متأكد أنك تبحث عن تفسير منطقي لبعض ما يدور بمخيلتك”.

عاود الجلوس على المنضدة قبل أن يكمل “عليك أن تعلم أن التحرر مسؤولية. وقتما تحررت من هذه الأغلال، ستكون مسؤولا عن نفسك. لا واصل، لا أوامر، لا توبيخ. أنت سيد ظروفك. وفوق كل ذلك، ستبصر ما لم تره سابقا، ولا أخفي عليك أن هذا الإبصار كفيل بأن يجعلك طموحا وحالما”.

توقف عن الحديث فجأة، ونظر إلى المايكروويف ثم إلى الساعة. بعدها وضع يديه على كتفي زميله. “لم يعد لدينا الكثير من الوقت. الخيار لك. علي أن أعود إلى عملي الآن”.

انطفأ المايكروويف، وراقب مرفع هجلوس وهو يعود إلى منضدته ويهم بتقطيع الخضار واللحوم. نظر مرفع إلى الساعة. عليه اتخاذ القرار سريعا.

***

بدا يوما اعتياديا حتى الآن لمرفع، يوما صادف تسميته بالأول. استيقاظ في الخامسة، وجبة أولى في الخامسة والربع، وطريق لا ينتهي مذ يستقل المقطورة أ-1151 قاصدا ورشته بالحفارة. تتعاقب الأيام ويظل الروتين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.