غواية القص

السبت 2020/02/01
لوحة لسارة شمة

انكسار البياض

ـ ما اسمك؟

يـَردُّ الصوتُ حادا غير متردد، لا تشوبه علامات خجلِ الجواب الأول:

ـ ريحانة.

فيم تبرق العينان وتتحركان في كل الاتجاهات، تتفحصان بتعجبٍ الكتلَ الذابلة بداية الصباح. شرارة تسري بين الصفوف، نظرات تخترق الصمت الثقيل وترسم تحرك الملامح وارتفاع الرؤوس الشاردة.

حَولٌ ظاهرٌ ونظّارة سميكة مربوطة إلى القفا بخيط برتقالي، ضفيرتان تحطان على الكتفين الناحلين، قميص أبيض، تنورة وردية بزهيرات باهتة، بدّد لونها غَسلُ متكرر، وفرحة تتنامى مع ارتفاع صوت محرك الحافلة إيذانا ببداية الرحلة.

ـ ريحانة! تعالِ إلى هنا.

يرتفع صوت الأب من مؤخرة الحافلة.

ـ لا، سأجلس هنا.

ينطلق الصوت واثقا مُصِرّا. وابتسامة انتصار تُجمِّل الوجهَ المُتحمّسة ملامحه أكثر، بينما تمتد اليد الصغيرة ونظرات استئذان منها نحو السائق، تمنح الفعل مشروعيته، تسحب كرسيا خشبيا يستخدمه هذا الأخير في حالات الإعطاب أو حالات أخرى خاصة.

تتخذ ريحانة مكانا في مقدمة المركبة، ثم تلتفت إلى الخلف مبتسمة للجميع، سعيدة بمكانها الذي لا يخص أحدا.

تنطلق الحافلة ومعها ضحكات الطفلة، غير العابئة باحتجاج هذا المسافر من ارتفاع تسعيرة التذاكر، أو تذمر الآخر من تأخره عن العمل، أو سهوم آخرين وتعبهم البادي للعيان، ولا إلى عبارات تتردد دون ملل:

ـ الله يستر. ربي يْجيبْ الخير. الله يرحمهم. واش تحبّ يا خويا هذا حالنا “واش نديروا”.

ريحانة تتحرك باستمرار، تبحث بعينيها عن شيء في الشارع فيم تخترق الحافلةُ الطريقَ

ثم ترتفع يداها فجأة ملوحتين إلى مكان كانت تلهث نحوه عيناها المشعتان المتسللتان بين الرؤوس:

ـ إلى اللقاء يا بيتنا. “رايْحة نرجع العشية”.

تدندن حينا وتكلم نفسها حينا آخر. لم تكن تأبه لما يحدث حولها وكأنّ العالم خاوٍ لا يملؤه سوى فرحتها برحلة توصلها إلى محطة لم ترها قبلا وتلهفت لاكتشافها طويلا.

لم تكن تعبأ بالخطر المحدق حينَ فرملةٍ وتقهقه متسلية برفع راحتيها واهتزاز الكرسي الخشبي، وتطوح جسدها الصغير فاقدا اتزانه، وهي تحدج المسافر المجاور لها يسارا، بغضب وعتاب حين ينبهها في كل مرة قاطعا استرسال قهقهتها:

ـ ضعي يديك وشدي هنا، ستسقطين!

تهز كتفيها:

ـ وماذا لو سقطت؟

محطات ومحطات والحافلة تكتظ أكثر وريحانة ـ تبدو ـ لا مبالية، تركض في فضائها الذي لا يحدّه ضيق المكان ولا تداخل الأنفاس ولا القلق الذي يحطّ على الوجوه ولا سخط المسافر الجالس يمينها الذي كان ينفث أنفاسا غاضبة وهو يحدق فيها كلما انتفضت سعيدة ملامسة قميصه الأبيض المكوي.

حوارات ساخنة وأخرى هادئة، وجوه ساهمة وأخرى حزينة وأخرى قلقة غاضبة، همسات خفيفة، نظرات عابرة وأخرى تبحث عن غاية، غوايات ورغبات، أجساد تعبة، نزقة وأخرى جائعة. تفيض الحافلة بأسرارها وأخبارها وحيواتها، وتضيق.

طرق وتعرجات، سير ووقفات. ولمْ تكن قد بلغت الحافلة محطتها الأخيرة.

***

.. تهبّ ريحانة بغتة، تقف وهي ترمق الجميع بنظرة كسيرة، تتلاشى ابتسامتها، ويبهت بريق عينيها وتتأرجح على الأطراف دمعة كبيرة مكابرة، تشدّ الشيخ الواقف مترنحا وراءها من سترته دون أن تنبس بكلمة وهي تمدّ نحوه كرسيها الصغير وتمضي مخترقة الصفوف إلى المؤخرة مفتشة عن حضن أبيها.

أن أعــــيش!

رسمة لسارة شمة
رسمة لسارة شمة

أشياء كثيرة حدثت منذ خلعتُ ثوب الهزيمة وقررت أن أعيش. أن أعيش لا يعني كما قد يتصور البعض، انطلاقةً جديدة وإقبالا على الحياة ونهما للفرح وطمعا في نكهة فرح جديد وركل ما كان وفتح صفحة بيضاء.. (كم تضحكني قصة الصفحة البيضاء هذه والمخلوق الجديد الخارج من أنقاض خرابه).

أن أعيش بالنسبة إليّ لم يعد يعني لي أكثر من قيامي فجر كل يوم ووضع ضاغطة القهوة على الموقد وأواني الحليب على الموقد المقابل وانتظار صوت صعود الماء من الجزء السفلي إلى الأعلى للضاغطة والعبث بأعواد الثقاب المستخدمة برسم خطوط برماد كبريتها على الرخام الأبيض. أن أعيش لا يعني أكثر من فرز ووضع الملابس المتسخة في آلة الغسيل نصف “الأتوماتيكية” ومتابعة عملية الغسل لأكثر من ساعتين.

أن أعيش بالنسبة إليّ هو دخول الحمام مرتين كل يوم وتسريح شعري بين وقت وآخر كعادة اكتسبتها منذ وعيت أن رأسي يحمل شيئا ملتصقا وجوده بمشط دون أن يستوجب مني تصفيفه مقابلة المرآة.

أن أعيش، هو أن أتحاشى وجه الجارة التي تكنس فناء بيتها كل صباح ببطء مميت، وترفع رأسها – لم أنجح في فهم كيف تفعل لتعرف -، كلما استشعرت وجودي قرب النافذة وأنا أهمّ بتفقد وجه الصباح خارج بيتي.

أن أعيش لا يتطلب مني أكثر من ارتمائي بعد ذلك على الكرسي، وتشغيل الحاسب، وتفقد بريدي الإلكتروني، والتحديق في نوافذ الكائنات الميسنجرية الخضراء تضيء وتختفي متسائلة في كل مرة عن ماهية هذه المخلوقات الافتراضية.

أن أعيش، هو أن أتجه إلى عملي مجرجرة قدميّ وأنا أفكر في زميلاتي في المكتب، تتفحصن ملامحي كل مرة، وتكررن الإشارة إلى وجهي الشاحب ووزني المتزايد بشكل يثير السؤال، والتفكير في كلّ مرة كيف يمكنني أن أتهرب من سؤالهن المراوغ: كيف حالك؟

أن أعيش، يعني لي أيضا، أن أغلق هاتفي لساعات طويلة ثم التهيـّب من فتحه وإصبعي المتراجع مرة تلو أخرى أمام فظاعة الزر الأحمر الذي يرعبني ما قد يليه من صمت دائم.

أن أعيش، يعني لي، أن أبتاع كل مستلزمات البيت وأنا عائدة إلى بيتي كل مساء، وتفقد – في رأسي – قائمة ما ينقص وتحمل ثقل أكياس البلاستيك الزرقاء، والتفكير فيم سأعدّه لطعام العشاء، وتحمل صراخ الأولاد   وعراكهم وحديثهم الذي يدق في رأسي كالمطارق، وبلادة معلميهم الذين يثقلونهم ويثقلونني بواجبات وحفظ لا ينتهي ولا يضيف إلى رؤوسهم الصغيرة ورأسي المتعبة أكثر من عبء ضاغط.

أن أعيش، هو أيضا، آلة تحكم التلفاز في يدي، أكبس على الزر صعودا ونزولا دون أن أستقر على برنامج يرضيني.

أن أعيش، هو يدي تشد وسادتي وأنفاسي الخافتة تصغي إلى أنفاس الصغار في الغرفة المجاورة، وأسناني تضغط على بعضها، ودمعتي التي لم تعد تنزل.

أشياء كثيرة حدثت منذ خلعت ثوب الهزيمة وقررت أن أعيش. من بينها مثلا أن بيتي لم يعد يفتح في وجه أحد، وأن وجهي لم يعد يبتسم لأحد، وأن يدي لم تعد تصافح يد أحد، وأن روحي لم تعد تؤمّن لأحد، وأن نافذتي لم تعد تسرّب لي شجار العصافير الصغيرة.

و.. أنني لم أعد أنتظر شيئا ولا أحدا.

أن أعيش، لم يعد أكثر من التعود على دقات قلب، تتوالى مرددة: دُم، دُم، دُم.. لا أكثر ولا أقل من ذلك.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.