غياب متعب

الثلاثاء 2022/03/01
لوحة: إدوارد شهدة

لم أكن أكثر من خريجة موهومة، غير محيطة بثقل الرجوع إلى وطن لم يستوعب بعد فئات الأطفال كلها في التعليم. ترغب في عمل يليق؟ كن ناشطًا ولا تكن معلمًا..

ذاك اليوم، وأنا أجلس في غرفة الاجتماعات، كان “متعب” أول من تعرفت عليه من الأطفال العاملين.

طرق الأخصائي الاجتماعي الباب وأحضره إلى الغرفة. نبهه قبل مغادرته قائلاً: الأستاذة وئام ستساعدك كثيراً وستعود إلى الدراسة.

ابتسم الطفل بحياء ثم راح يسترق النظر والأسئلة تُراق من عينيه.

 ماذا لو لم أجد لها جوابًا؟

عتبت على زميلي، لم يكن من الدقة أو المهنية رسمَهُ لهالة تحمل وعودًا لطفل يترقب.

وعودَ كالتي ظننتها: أن المتفوقين يستحقون منح دراسية.

ظل الصبي صامتًا وأنا أهش رغبة انسحابٍ راودتني مجدداً، لا أحترف المواعظ.

 أنا معلمة مطالبة بالحديث مع صبي يكبرني فيما يخص شوارع أعبرها بزهد لا أكثر. مجرد موظفة تعمل كي يجاوز الصغار صعوبات تعلمهم مهارات القراءة. أما هو، فبائع خضرة في سوق القاع الموغل في حياة تتلون بما لا يمكن اختزاله في نص قراءة واحد.

ينقل البضاعة أحيانًا على عربة صاحب المحل الذي يعمل عنده.

جلس فتى لم يجاوز الثانية عشرة أمامي وأنا أشرد ثم أعود لضرورة التمثيل.

 وجهٌ برونزيٌ وشعرٌ بني مائل إلى الشقار في بعض خصله، وعينان سوداوان صغيرتان. ترتسم على وجنتيه تجاعيد جفاف كلما ابتسم بدت بحجم الألم الذي تملكني منذ قررت خوض هذا كله.

 أمسك بأطراف معطفه ليغلقه مثل رجل يستعد لمقابلة، بادر بقول: اسمي مِتعِب يا أستاذة.

شعرت بعوز كبير لبديهة تفوق مبادئ خلق “الراپور” التربوي مع الأطفال، بدت لي مقابلة سلسة وملتبسة وموجوعة حين حُجمتُ لفضولية متلصصة لا أكثر. أما هو، فقد ظل ينظر إليّ بابتسامة يصاحبها أدبٌ جم.

دسست حلوى أحضرتها للأطفال قبل أن أبدو غبية في نظره.

            •           لماذا لا تريد الذهاب إلى المدرسة يا متعب؟

            •           وما الفائدة من المدرسة؟

تذكرت لحظتها قول والدتي المتواصل عن ضرورة الحمد أنني لست عاجزة عن مساعدة الفقراء.

لكن ما الفقر يا أمي في بلد يعج بمفارقات كهذه؟

أتظنينه يعرف طعم البسكويت؟ هل ذاب في حلقه من قبل مع كوب حليب دافئ؟

ما أغباكِ كيف لمْ تفكري أنكِ قد تربكيه بالحلوى؟ أنسيتِ كم أَربكتْ علبة الكعك أم مالك أثناء تفقدكِ ابنها فراحت تجول في الحجرة وكأنها تستقبل سخلة أو لحم عجلٍ يبقي مطبخها دافئًا لأيام؟

يا لهزء المقارنات وما أسخف النسبية حين كسرتني وجعلتني أشعر بغبن يومٍ حُرمتُ فيه منحة دراسية ولم أفكر بأمثال هذا الصبي.

ألم يخبر أحد أولئك المشغولين بتصنيف البرية أن الموصومين والموسومين بكلمة متوسط هم في الواقع عالقون؟

عالقون فيما يسد الرمق ويكف التسول، ويغالون بأحلام طافية تتلاشى أمام عاسفي الريح لمجرد امتلاكهم أسماء لها وقع اجتماعي ودلالات نعجز تجاوزها؟

أليست اللغة وضعية عند البعض ونحن من صنع المفاضلة بين الأصوات كيفما اتفق؟ أليست المفاضلة نفسها هي ما تجعلني أجلس أمام الصبي كمعلمة؟

ولكن، ما الفقر يا أمي؟

يجثو قلبي خجلًا ورئتاي قد ثقلتا!

من هو؟ من أنا؟ وما هي النحن التي تجمعنا؟

لم أرغب في وعظه خصوصاً وأنه سيريني اليمن التي أخشى. وطنٌ أنشدت له في طفولتي كل صباح، ولكن داخل أسوار مدرستي النموذجية.

الأرجأ إسكات رأسك الثرثار

لا بل طوبى للمثرثرين.

            •           حسناً أخبرني ما يجول في خاطرك.. أريد أن أسمع منك .. اعتبرني أختك الكبرى.

بصمت يماثل ذاك الغائر في عينيه أشاح بوجهه عني: ماذا أقول؟

            •           قل أيّ شيء تريد يا متعب.

            •           قدمتُ إلى صنعاء للعمل، وحين أعادني أخصائيو المركز إلى المدرسة، وعدت إلى الصف الخامس شعرت بأنني متأخر ولا أفهم دروسي. في هذه السنة تحديداً، فرضت علينا المدرسة شراء دفترٍ عن كل فصل دراسي بدلا من واحد للسنة كاملة. أظنه لاحظ شرودي فاعترضني قائلًا:

            •           يا أستاذة أنا لا اعمل لأشتري دفاتر.

            •           وإن وفرها لك المركز؟

            •           سأفكر.

            •           ولماذا تعمل يا متعب؟ سؤال شعرت بسذاجته ما إن أوغل ذهني في أصدائه.

            •           في عائلتي، ثمانية إخوة وأخوات ووالدي كبير في السن. الأكبر مني هنا، يعملان في العاصمة. والبقية ما زالوا صغاراً.

            •           سآتي لمدرستك وأتحدث مع معلميك.

 ابتسم: ستسمعين من الشتائم ما لن يعجبكِ.

            •           أتودُّ قول شيء آخر؟

            •           متـى تزورين المدرسة؟

            •           سأحضر حين أحصل على إذن لذلك.

أنظر إليه ويبتسم، نجوت بما قد يفضحُهُ وجهي فالتفتُ للورق كي يبدو الموقف طبيعياً.

أردفت: أنا هنا لأحاول أقصى ما أستطيع مساعدتكم لتحصلوا على تعليم جيد وسنحاول تدارك ما فاتكم.

            •           شكراً

لوحة: إدوارد شهدة
لوحة: إدوارد شهدة

أنهيت المقابلة بعد أن شعرت بالتضاؤل يحاصرني. من أنا؟ كانت رئتاي أثقل من أن أتنهد لأتخلص من العبء؛ عبء حيز أشغله بلا جدوى. عبء بحجم عجزي عن التأكد من أن مشترواتي كلها لم تتخللها أساليب الظلم كعمالة الأطفال وتجريب الحيوانات واستغلال الأسر الأفقر.

ما الفقر يا أمي؟

كان الضرب متسيِّدًا في الصفوف التي زرتها. مبنى قديم، ساحة ترابية مسطحة يتسلى الأطفال بركلها وإحداث زوابع من الغبار.

في الصفوف، المحظوظ منهم كان يجلس بجانب ثلاثة رفاق على الطاولة الواحدة. رائحة قهر منبعثة من الحمامات، والصفوف مثلها بفارق بسيط لوجود نوافذ أكبر.

 دخلت مكتب المديرة وهي ترشف أواخر كوب القهوة.

أشارت إليّ بالجلوس: أطلب لك قهوة؟

            •           لا شكراً

            •           كيف رأيتِ الأطفال؟

……

            •           يبدو أنكِ لم تزوري مدارس حكومية في حياتك؟

            •           بلى، ولكن مدرستكم تحتاج الكثير من الدعم

            •           بالضبط، الدعم. هذا ما نحتاج.

            •           يمكنني تدريب بعض المعلمات كي يتم استقبال أطفالنا بشكل أفضل. هؤلاء الأطفال إن لم يجدوا ما يبقيهم في المدرسة سيتسربون ثانية.

            •           يا أستاذة لن تنهض اليمن إن درس جميع أطفالها

            •           عفواً؟

            •           ألم تسمعي بالحملات المناهضة للأكاديمية؟ المجال المهني مطلوب.

            •           التعليم المهني يأتي بعد دراستهم أساسيات القراءة والكتابة والحساب.

            •           والله إن بعضهم يحسبون أفضل مني ومنكِ. أنتم موظفو المنظمات تأتون هنا تنظِّرون وتتسببون في مشكلات بين الأطفال. معظم الأطفال هنا ينتمون لأسر فقيرة. أنتم تتسببون في دفع الأهالي بأطفالهم للعمل حتى يحصلوا على خدمات مركزكم.

            •           والمطلوب؟

            •           نريد دعماً حقيقياً. لا تقولي لي إنكِ ستحضرين أخصائية نفسية ومن هذا القبيل. وفروا الدفاتر، وفروا الكتب، أصلحوا الحمامات، دربوا المعلمين وادعمونا برواتبهم.

            •           هذا دور وزارة التربية أستاذتي.

استأذنتها على أن أتواصل معها لاحقاً. وعدت لأرى متعب قبل مغادرتي.

سمعت قهقهة أطفال في الممر تلاها صوت هواء يُشقُّ بخيزران رفيعة تصطدم بجسد أحدهم، صمت عميق، صراخ المعلمة، ثم هدير ضحك وأحاديث جانبية. أثناني الموقف عن دخول الصف وقررت أنني اكتفيتُ من رؤية أطفال يُضربون. لا أدري كيف جُرّدنا من التعاطف مع الألم فنضحك حين الضرب والوقوع والانزلاق. ما المضحك في رؤية شخص يتألم؟

 ورغم ذلك وجدتني أضحك لضحك الأطفال بعد يوم أعدت فيه رسم خارطة اليمن من جديد.

 لاحظت تمايز لهجة متعب من يومي الأول ووجدتني أتأمله برعماً يَعبقُ كلما لقي أذناً تصغي إليه بلا تطلب أو استحقاق.

لم تكن مأرب ما هي عليه الآن ولكنني أذكر بستان برتقال حين زرتها. أما هو، فعالقٌ في تقاسيمه منها ما جعله مميزًا: سدُّها، كثبان الرمال المسجاة، لستُ أدري.

 كان يومًا فارقًا حين أتاني الأطفال يدفعونه أن يُسمعني شيئًا. ونفخ فيما يشبه نايًا  لحناً ضمآناً يحاكي حياةً لا تشبه التي يعيشها قسرًا.

غدا كل يوم أكبر من سابقه مع الصغار، حتى تلقيتُ اتصالًا قاسيًا من مديرة المدرسة تخبرني بأن متعب تعارك مع أحد المعلمين وهرب.

“لا نريد هذا الوقح في مدرستنا بعد ذلك”.

ذهبتُ وزميلي إلى سوق القاع، بحثنا عنه حيث يعمل. أربكني ضجيج الظهيرة والانتظار ..

ستظهر هيئته النحيلة وسيهمُّ زميلي بتوبيخه وهزِّ كتفه.

سأقفُ في ذهول بعد أن تمكنت من نزع يد زميلي عن كتفه وجعلتني حائلًا بينهما.

يصرخ زميلي: يا قليل الأدب! يا رافس النعمة دلعتكم وئام.

فيجيب متعب باكيًا: يا أستاذ كنتُ أدافع عن نفسي.

كان يبكي كما ينبغي لطفل متألم. حزنت كثيراً وتمنيت ألا يكون الخوف قد استدرجه فكذب.

رحتُ أردد مهدئة: أُصدِّقك يا متعب أنت صادق. لكنها لم تكن كافية لبقائه في المركز.

ظل التأجيل يصدني عن رغبة استقالة انتابتني بغياب متعب.

أوهمتُ نفسي أن دوري في المركز ووجوه الأطفال أسباب كافية لاستمراري.

ظننتني رأيته ذات مرة حين أطلتُ الوقوف على خبر في التلفاز يُبث عن أوضاع مأرب.

لكنني أطفأته..

 لو حدَّثني أحدهم عن اسمه قبل أعوام لما فهمت سبب اختيار والدين لصفة تلازمه تناقضها أخلاقه تمامًا. أو ربما أرادا بذلك مباغتة العالم فجيء بالاسم كتميمةٍ لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها.

فقد وجدتني اليوم، بعد استغوار اسمه أتمنى له حظًا وافرًا منه، فلعلَّه سينجو من كل الجاثم علينا في هذه البلاد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.