فضاء

الثلاثاء 2022/03/01
لوحة: معتز الإمام

كانت تجلس بسلام على الأعشاب الرطبة حديثة التشذيب في بقعة خضراء بمبنى كلية الطب، يصطلح الطلاب – دون سبب واضح – على تسميتها “أوزون”. لم يكن من السهل عليها في عامها الأول اختيار ركن فسيح هادئ لتجلس عليه بقية حياتها الجامعية. ولم ترسَ على برّ إلا بنهاية ذلك العام حيث وقع اختيارها على الركن الأيسر القصي من أوزون لعوامل بيئية ومناخية. تقع على هذه البقعة كمية مركزة من شعاع شمس الصباح، تدفئها في الأيام الشتوية وتوفر لها إضاءة ممتازة للمذاكرة. وحين تنتصف الشمس في كبد السماء ليتحول الصباح الى نهار قائظ، تصد حرارتها شجرة طويلة الساق، ضخمة الأوراق، تنزوي هي تحت ظلها الوارف، وتتناول إفطارها المعد في المنزل تجنباً للازدحام في الكافتيريا. وبحلول المساء تكون البقعة واقعة تحت عمود النور تماماً، مما يسمح بالمزيد من المذاكرة بعيداً عن البعوض المزعج. أما في الخريف فإنها البقعة الأكثر جفافاً، وفي الصيف فهي البقعة التي يحب البستاني تركيز مِرَشه عليها، وهو على أيّ حال يبقيها متوازنة في كثافة العشب، فلا يشذبها كثيراً ولا يدعها تنمو وتتشابك كثيراً، كأنه مشترك معها في حب تلك البقعة من أوزون على وجه الخصوص.

تفرش مرجع الفارماكولوجي الضخم أمامها على العشب وهي تجلس القرفصاء وتراقص قلم رصاص بين أصابعها. لم تكن تريد دراسة الطب، ولم يكن من ضمن أحلامها أن تشفي البشر، فالبشر هم الداء أساساً وكوكبنا المحتضر يشهد على ذلك… لكن إحرازها لدرجة عالية في امتحان الشهادة الثانوية جعل أي كلية أخرى تبدو لوالدتها كمضيعة للذكاء. خاصة كلية علوم الفيزياء والفلك، رغم ما في الأمر من تناقض واضح، ورغم انها منذ الصغر مهووسة بعلوم الفضاء. كانت قد شُخّصت في صغرها بطيف من التوحد يدعى بالتوحد عالي الأداء أو متلازمة أسبرجر، يحتفظ فيها الإنسان بمهاراته العقلية ويفتقر في المقابل للمهارات الاجتماعية. لكن أحداً سوى عائلتها الصغيرة لا يعلم بالأمر، لأنها ببساطة محترفة في التظاهر. تتظاهر بالاهتمام، بالوله، بالفرح والحزن، وتضحك على نكات لا تفهمها اصلاً. من المعروف أن التوحد في الإناث أكثر خفاءً لقدرتهن الفائقة على التظاهر، تزييف التعابير ومحاكاة سلوك الآخرين، لكنها في مستوى آخر تماماً!

خرجت مع آذان المغرب عند وصول سيارة الأجرة التي طلبتها عن طريق تطبيق الهاتف. صعدت على متنها، ثم نظرت خلال المرآة الأمامية الى وجه السائق.

“تباً.. ملامحه تشي بحبه الشديد للثرثرة.“

بالطبع هو ثرثار، بالنسبة إلى فتاة مثلها جميع الناس ثرثارون. إلا رجل واحد، استثناء فريد من القاعدة… عم محمد جارهم العجوز، الذي يضع كرسياً خشبياً أمام باب بيته ويجلس عليه طوال النهار وهو يقرأ الجرائد. لا يتكلم مع أحد، لا يتحرك، لا يباغتك بإلقاء التحية ابداً، ولا يصدر عنه إلا صوت قلب الأوراق التي لا يرفع عينيه عنها ليتفحص المارة، ولا يبعد أنفه المدبب عنها ليحشره في حيوات الجيران. إنه مثال يحتذى به، هذا ما يجب أن يكون عليه الإنسان، صامتاً ساكناً كافٍ خيره وشره..

تصل إلى البيت، تستقبلها أمها بزغرودة قصيرة متبوعة بالجملة التي تجعل جسدها يقشعر كل مرة:

لقد جاءك عريس!

تجاوزت العشرين ببضع سنين، إنه السن المناسب للزواج إن كنت تؤمن بالزواج. لكنها لا تظن أن بإمكان المرء أن يُكوّن زوجاً. أن يكون أيّ شيء آخر غير المفرد. لا يبدو أن أحداً يعي هذه الحقيقة البسيطة. ألا يفترض بالإنسان أن يكون وحيدًا؟ المرة اليتيمة التي امتعضت فيها من وحدتها التامة وشعرت بالحاجة لمشاركة شيء ما مع شخص ثانٍ كانت عندما قرأت في كتاب أن الكون معظمه عبارة عن طاقة مظلمة لا يدري أحد كنهها بعد. شعرت أن معلومة كهذه لا بد أن تنتشر، لا بد أن تقال، ولا بد أن يحرك أحدهم رأسه مندهشاً فور سماعها، لكنها لم تشعر بشيء كهذا مرة ثانية.

لقد وصلوا، هو وأمه وأبوه. ارتدت ثوباً جميلاً وأقحمت قدميها في الحذاء الأسود ذي الكعب العالي بعد إلحاح من والدتها التي ذهبت بسرعة لتطمئن على ترتيب المكان. توجهت نحو الشرفة المجاورة للصالون ووضبت المنظار الفلكي الخاص بابنتها وحملته ووضعته في العلية. كانت تفعل هذا عند كل زيارة لأن مظهره – على حد قولها – لم يكن ملائماً.

كان الشاب نظيفاً أنيقاً، حسن المظهر، وطويل القامة بشكل ملحوظ. فرك يديه وهو يفكر ملياً، كان يرمقها بنظرات قصيرة كل فترة ثم يعود للنظر عبر باب الغرفة الى الصالون حيث يجلس الكبار، أو إلى جدران غرفة الضيوف التي يجلسان على كراسيها المخملية الناعمة. كانت تضع إحدى يديها على ذقنها وهي تنظر إليه غير مبالية، فكر في أنها حاذقة العينين هادئة الطباع وقد أعجبه هذا. لم ترقْ له أيّ من الفتيات اللائي كانت أمه تجبره على مقابلتهن، ولم يرقْ لهنّ كذلك لغرابته المزعومة. هل سيكون الأمر مختلفاً هذه المرة؟ مطّت شفتيها بضيق اذ طال صمته. ازدرد ريقه بتوتر وهو يحاول ألا يقول شيئاً سخيفاً كعادته، لكن الجملة خرجت سريعاً من بين شفتيه دون أن يحسب حساباً لأيّ شيء، قال بحماس طفولي وابتسامة واسعة: هل تعلمين أن ثمانية وستين في المئة من كوننا عبارة عن طاقة مظلمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.