في بلاد السامبا

يوميات عربي في البرازيل
الجمعة 2022/07/01

تربيت في بيت يحب السفر، وأذكر كل صباح حين كانت جدتي تغسل رأس أبي بدعوتها “ربنا يوقف لك ولاد الحلال”، أذكر أنني في الصغر كنتُ أعتقد أن هؤلاء “أولاد الحلال” ربما كانوا ملائكة من الله يهدي كل الأولاد الطائعين أماهاتهم إياهم، فيقفون جنبًا إلى جنب مع الابن البار، وحين كبرت وتعلمت عن الحياة والبشر الكثير، علمت أن البشر – أحيانًا – يتحولون بقدرة قادر من ذاك الكائن البغيض إلى واحد من “أولاد الحلال”، فتتفتح مغاليق الأبواب على اتساعها على براح يشبه براح الروح حين تتخلص من الجسد عند النوم.

لماذا أفتتح هذه السلسلة من الحلقات بهذا التقديم النوستالجي؟ أظنني لا أشعر بتلك الأشياء التي يحكي عنها الناس – عند الكثير – حين يُسافر، رُبما لتعودي كما قلت في بيتي على فكرة السفر والانتقال الذي كأننا ورثناه من أجدادنا الصيادين حين كان يلزمهم الريح في بحيرة البرلس إلا الانتقال، فخلق فينا – أولادهم – هاجس الترقب على الدوام، والاستعداد الدائم أننا مفارقون وإن طالت إقامتنا.

في ساوباولو

خرجنا من مطار ساوباولو الدولي، وأخذنا الطريق في اتجاه المدينة التي أخذت ترحب بنا مع دخول الليل إذ كانت الشمس آذنت بالمغيب عن المدينة، وبدأت أنوارها الظهور والاقتراب منَّا حين كُنا نتجه بالسرعة المقررة في ذلك الوقت من اليوم على ذاك الطريق، وهُنا لا مانع أن تستدعي عزيزي القارئ ما استدعيته أنا على طرقنا المصرية، وهو ما لفت انتباهي طوال اليوم التالي كله والذي قضيناه في سفر طويل من مدينة ساوباولو حتى خرجنا من حدود ولاية ساوباولو نحو الغرب إلى حيث مزرعة قريبة من مدينة (paranaiba) منطقة (ماتو غروسو دو سول) أو ما تشتهر باسم (الغابة الكثيفة الجنوبية)، إذ يتحتم على كل سائقي المركبات في البرازيل بطولها وعرضها الالتزام الصارم بمؤشرات محددات السرعة التي تظهر على طول الطريق، خاصة أن الطرق مراقبة بالكاميرات الثابتة والمتحركة طوال الوقت، بما لا يمنح الفرصة للخطأ وكسر القانون إلا في أضيق الحالات وأندرها في المناطق البعيدة المنعزلة، لكن طول البقاء في المدن الداخلية البرازيلية لا شكَّ أنه سيكون قد رسخ في قادة المركبات ذلك الشعور بالمسؤولية والالتزام بقانون المرور الذي يتم اختبار السائقين فيه قبل حصولهم على ترخيص قيادة السيارة، وهو ما يمثل العقبة الكبرى في البرازيل، إذ تتشدد القوانين في إلغاء ترخيص القيادة إذا وصل السائق إلى عدد من المخالفات قيل لي إنها ثلاث مخالفات فقط، ويتم حرمانه من القيادة، على أن يتم إعادة تأهيله بعد فترة زمنية لاستخراج الترخيص من جديد، ولأنها أمور معقدة وبيروقراطية جدًا، فالكل يخشى الوقوع فيها قدر استطاعته. لاحقًا عرفت أن ولاية ساوباولو هي واحدة من أكبر الولايات في البرازيل التي استثمرت حكومتها المحلية في بناء الطرق، وهو ما اكتشفته في الرحلة في اليوم التالي نحو المزرعة، وسأحكي عنه في أوانه.

سألت في الطريق صديقي – وهو من أصول أفريقية – عن ذلك الذي اعتبرته من وجهة ثقافة مواطن مصري يرى حال المرور في بلده ويظنه طبيعيًا في كل بلاد العالم، فتجيبني زوجته البرازيلية، أن تلك العقوبة هي التي تضمن أن تقلل من نسب الحوادث، ثم حكت عن ارتفاع نسبة حوادث الطرق الناتجة عن السرعة الزائدة، وأخبرتني أن إحصائية مُعلنة في العام 2015 تؤكد أن البرازيل يُقتل فيها يوميًا ما يقترب من (129 فردًا يوميًا) وذلك حسب المعلن في مؤتمر عالمي للسلامة المرورية، مؤكدة لي أن البرازيل في الفترة السابقة ما بين العامين (2012 – 2013) استطاعت بفضل تشديد قوانين القيادة ان تخفض نسبة ضحايا الحوادث على الطرقات إلى 6 في المئة وهي نسبة عالية، مقارنة مع الأعداد السابقة في الأعوام السابقة.

سؤال في ذهني

صور

على الفور قفز إلى ذهني سؤال ساذج عن تفعيل قوانين المرور في مصر، وللأمانة والإنصاف وكل ما يتعلق بالمرور منذ تعلم القيادة واستخراج رخصة القيادة، ثم قوانين السير، فللحقيقة أحمل رخصة قيادة مصرية وأخرى دولية، وأعترف بأنه لولا “الواسطة” – ضابط بالمرور – لما كنتُ أنهيت رخصة قيادتي قبل شهور، وكذلك الرخصة الدولية التي لا يتكلف في المبنى خاطر شخص واحد يقول إن تلك الرخصة للقيادة أمانة يجب أن نفهم أننا ربما حين منحناها وضعنا قنبلة موقوتة على الطرقات في كل العالم، ففي الرخصة الأولى تقدمت للاختبار، ولا أسمع سوى جملة واحدة “أنت اللي تبع…. بيه؟”، كنت أكتفى بهز رأسي فقط، للحقيقة فإن اسم…. بيه حفظني من كثير من الإجراءات التي لا معنى لها على الإطلاق مقارنة بالمعنى الأهم وهو قيادة السيارة وهو ما فعلته بحمد الله، وفي رخصة القيادة الدولية لم يتم اختباري في أيّ شيء، كان الاختبار الوحيد كيف أجد “فكة” للموظف الذي جاء مكتبه فوجدني في انتظاره “ع الصبح”، والحمد لله تم حل المشكلة. (لا تفهمني خطأ في تلك النقطة عزيزي القارئ).

قلب المدينة

وصلنا إلى فيلا في وسط ساوباولو في منطقة راقية جدًا حيث يسكن صديقي وزوجته، ويجعلان من بيتهما هذا مقرًا للأصدقاء المقربين، وعرفت أنني لستُ الأول الذي يُستضاف هذه الأيام في المنزل، فهناك طالبة برازيلية تدرس في ساوباولو، وكذلك هناك “المهدي المنتظر”، هكذا نطقها صديقي الذي يتحدث العربية بطلاقة، فهو متخرج في جامعة الأزهر، وحاصل على ماجستير تاريخ في جامعة القاهرة. إذن أنا على موعد مع المهدي المنتظر يا دكتور؟ كنت أبتسم وأسأل طوال الطريق عن ذلك “المهدي المنتظر”، وأخبراني أنه يتعين عليّ الانتظار حتى أكتشفه بنفسي.

تتمركز في وسط ساوباولو العمائر الخرسانية العالية وتمثل قلب ساوباولو الخرساني كمثل كل المدن الكبيرة عالميًا، يزيد الأمر هُنا أن المدينة هي العاصمة الاقتصادية للبرازيل، إذ تسهل حركة الطيران وحركة الملاحة في ميناء ساوباولو الحياة الاقتصادية وتُنعشها، بل وتجذب كثيرًا من الاستثمارات في مجال صناعة الكيماويات وصناعة الأدوية، إلى جانب الزراعة وتربية الأبقار في الولاية بشكل عام بعيدًا عن عاصمة الإقليم مدينة ساوباولو نفسها.

يتشكل قلب ساوباولو من تلك البنايات الضخمة التي تمثل كبرى الشركات المستثمرة في إقليم ساوباولو، ويكاد هذا المركز يتشابه إلا في فروق فارقة تجعل من ساوباولو فريدة في كل شيء، فالمدينة كانت قديمًا ومنذ بدايتها عاصمة للدولة اقتصاديًا وسياسيّا، ثم ظلت عاصمة البلاد الاقتصادية رغم انتقال الإدارة السياسية منها، لكنها حافظت على رونقها كمدينة كبرى عرفت كيف تستغل الطبيعة الجبلية فمهدت الهضاب في كل مساحة المدينة التي تتمدد كل يوم بشكل عرضي لا رأسي، لتجعل هذه المنخفضات والمرتفعات ورحلة المرور داخل شوارعها – لمن مثلي – متعة حقيقية، ففي لحظة تجد نفسك أمام أعلى قمة تلّ أو جبل صغير تمّ تطويعه ليصبح ضمن مساحة المدينة، ثم تعود من جديد إلى وادٍ شديد الانحراف، دون أن تغيب الأشجار أو المساحات الخضراء عن عينيك، ويتزامن ذلك مع غزارة عدد إشارات المرور التي تزيد حركة المدينة سهولة وانسيابية؛ فتصبح متعة التجول فيها لا توصف ليلاً أو نهارًا كما اتضح لي في الصباح التالي.

حق العبور المقدس

صور

بالعودة إلى القيادة داخل البرازيل، يجب أن أسجل تلك الجملة التي قالها صديقي حين توقف فجأة ليسمح بالمرور لمترجل بالعبور، ثم اعتذر وقال بأن ما فعله ليس قانونًا لكنه عُرف هُنا أن يتم احترام السائرين على الأرض، وأن الشارع حقٌّ لهم قبل السائقين والسيارات، “هو حق العبور المقدس يا صديقي”، اندهشت من جمال الجملة، وفي ذهني صور عبور الشوارع في القاهرة أو كورنيش الإسكندرية، والكمّ الهائل الذي يمكن أن تسمعه من الشتائم والسباب من المترجلين للعبور أو قادة المركبات بسبب الخلاف على المرور.

تمر البرازيل الآن بأزمة اقتصادية تتعافى منها ببطء، ولكن لماذا لم تتأثر أخلاق قادة المركبات بالشماعة المصرية العظيمة “الظروف”، ولماذا يبتسم صديقي – وغيره لاحظتهم على الطريق يفعلون المثل – لمن يترجلون أو يقودون عجلاتهم الهوائية، وهُنا يجيء سؤال آخر إلى ذهني، لماذا لم تؤثر الظروف على أخلاقيات الناس هُنا؟ بينما نحن نفعل كل ما نفعل من أخطاء بلا أيّ مبرر غير “الظروف”، و”ظروف البلد ضاغطة الناس”، لماذا لا ينضغط الناس أخلاقيَّا سوى في بلادنا؟

 كان الجميع يخبرني بأن البرازيل بلد مملوءة بالبيرة والخمور، وأن الشعب البرازيلي محب للكحوليات ولا يتوقف عن تناولها طوال اليوم، فلماذا لم تُفسد أخلاقهم “الخمرة”؟ (هههههه)، ولماذا لم أر شخصًا واحدًا – حتى أسبوع من وصولي – يسير في الشارع حاملاً “كانز بيرة” على عكس المدن الأوروبية كبرلين وباريس وأوسلو وهلسنكي مثلاً؟ وكيف يصبح السير في مدينة مثل ساوباولو في قلب مركزها آمنًا إلى الدرجة التي تكذب كل نصائح الأصدقاء من مصر بالاحتراز من الليل؟ للإنصاف سألت صديقي عن ذلك الأمان؟ فأخبرني أن بعض المناطق في أطراف المدينة وضواحيها البعيدة التي تعتبرها الحكومة غير شرعية “عشوائيات”، ربما يتعرض المرء لبعض المضايقات، ثم قال “لكن تلك صفة المدن الكبرى كلها في العالم يا صديقي، ألا يوجد مثل ذلك في القاهرة والإسكندرية؟”، كنت أبتسم له وأهز رأسي الذي ملأه مشهد التاكسي الذي ركبته من بيتنا في البحر الأعظم نحو معرض القاهرة الدولي للكتاب منذ ثلاثة أعوام، وكيف في “عز الظهر”، حاول بعضهم “تثبيت” التاكسي، لولا تدخل العناية الإلهية، ثم ذكاء السائق الذي أيقن أن كسر الزجاج الجانبي خيرٌ من سرقة التاكسي بما وبمن فيه.

توقفت السيارة أمام الفيلا الخاصة بهما، ثمّ قال صديقي: “استعد يا مختار لمقابلة المهدي المنتظر الآن”، ثمّ راح يكركر ضاحكًا، فرحتُ أجهز نفسي وجسدي المرهق من طول السفر للقاء ذلك “المهدي”، وهذا ما سأتابعه معك عزيزي القارئ في الحلقة القادمة.

لقاء المهدي

قال صديقي بأن عليّ أن أتحضر لمقابلة “المهدي المتتظر”، ونصحني أن ألتزم نوع السجائر التي أدخنها، علمًا بأنه لا ولم يدخن مطلقًا، إذ كان يرى دائمًا أنَّ “المهدي يدخن أعشابًا أفريقية”، وكانت الجملة يقولها بأداء ربما فهمت منه السخرية من هذا النوع، وتعجبت كيف يحكم غير المدخنين على جودة سيجارة ما، ويفرقون بين دخان جيد وآخر رديء؟

كُنا دخلنا إلى حي هادئ تمامًا يشبه حي المعادي في مصر قديمًا، الشوارع المنظمة بدقة في تقاطعاتها، وكثافة الأشجار الموجودة في الحي بأكمله، حتى وصلنا بيتهما الذي كان فوق ربوة جميلة في مطلعها حديقة واسعة للتنزه، كانت مفتوحة للرواد في هذا المساء حين عبرناها، وبعض المتريضين مع كلابهم في الحديقة، وللملاحظة فهنا في البرازيل يثق البرازيليون في الكلاب إلى حدٍّ بعيد للغاية، جعل صديقي يخبرني – وهو من أصول أفريقية – بأن الكلاب هُنا تتمتع باحترام غير اعتيادي على من يجيء من الثقافة العربية والإسلامية، وأخبرني: “في المزرعة عندنا كثير من الكلاب، أظنك ستحبها، فهي الرفيق المثالي لرعاة البقر في المزارع الواسعة”.

استقبلنا عند مدخل الفيلا الصغيرة في الشارع العمومي أحد عمال النظافة الذي يعمل حتى وقت متأخر من هذا المساء، وعلى الفور تذكرت أزمة شركات النظافة في مصر، وكيف تحولت المدن الكبيرة في مصر في الفترة الماضية إلى ما يُشبه مكب نفايات كبير وعشوائي، وحاولت الاستفسار عن سبب وجوده، وفهمت أن شركات النظافة تدفع رواتب جيدة جدًا لكل العاملين فيها، وأن هذا العمل الإضافي مدفوع الأجر كذلك، وأن ذلك التزام تقوم به شركات النظافة في تعاقدها مع الحكومة.

أين هو؟

مرت ساعة منذ وصولنا إلى البيت، وبعد جملة من الترحيبات على الطريقة المصرية التي شملتني بحفاوة بالغة، سألت عن “المهدي المنتظر”، فأخبرتني الصديقة – زوجة صديقي – بأن المهدي ربما يتأخر هذه الليلة، وأن تلك عاداته التي تعودوها، ثم تدخل صديقي وقال بأن المهدي اسمه “محمد المهدي”، “اسم مركب كما كان في مصر سابقًا”، وأنه من أصول مغاربية، وهو واحد من أقدم المهاجرين المغاربة إلى بلاد السامبا، إذ يعيش هنا في البرازيل منذ ما يربو عن الأربعين عامًا، قضى معظمها في كفاح وعمل، إذ كان صاحب واحد من أشهر مطاعم المدينة منذ سنوات، والتي كانت تقدم الطعام المغربي والعربي، وهو ما جعل للمطعم والرجل شهرة واسعة بين كل المهاجرين العرب والأفارقة هنا في ساوباولو، ولكن لأن دوام الحال من المحال، وحين كان الرجل يتخطى حاجز الستين من عمره، قرر أن يُسلّم إدارة المطعم إلى أبنائه، وعلى غير المتوقع تدهورت أحواله، حتى انتهى الأمر بحريق داخل المطعم قضى عليه نهائيًا ودمره تمامًا، ففقد معه “محمد المهدي” كل ثروته التي كان جمعها واستثمرها في ذاك المطعم، وعلى ما يبدو أن أولاده بالنهاية رفضوا العيش في جلباب المهدي، فتركوه وحيدًا وبقايا مطعمه الذي لم يستطع تجديده إلى الآن، وبقى أثرًا بعد عين. عرفت فيما بعد من “المهدي” حين قابلته، بأن زوجته وأولاده تركوه بعد ذلك، وأنه لم يكن لديه أيّ مكان يمكنه الذهاب إليه، وحتى فكرة الرجوع إلى المغرب باتت مستحيلة وغير واقعية للرجل، وتصادف أن كان صديقًا لصديقيّ، فاستضافاه في بيتهما منذ ذلك الوقت، ويجلس معهما في نفس المنزل مشمولا برعاية كاملة منهما.

لم أقابل “المهدي” في تلك الليلة، وربما تأجل اللقاء به للغد المرتقب، وبينما كنتُ أتوجه نحو الغرفة التي تم تخصيصها لضيافتي، أخبرني صديقي الدكتور: “لن تُصدق أن الرجل تخطى الستين بسنوات، كما أن لغته البرتغالية متقنة إلى الحد الذي يظنه البرازيليون من سكان البلد الأصليين وليس مهاجرًا”. حين كنتُ أتمدد في سريري، كانت ثمة خيوط تتشكل في ذهني عن الرجل، وكيف يمكن أن يُصبح هذا “الكاركتر” نموذجًا لبطل في إحدى الروايات، فقمت على الفور أدون في دفتر ملاحظاتي كل ما فهمته عن الرجل وعرفته، وذهبت إلى النوم ممنيًّا النفس بلقاء المهدي.

المهدي غير المنتظر

استيقظت في صباح اليوم التالي بعد أول ليلة في ساوباولو، لم أنم غير أربع ساعات، على عكس ما توقعت، إذ كان جسدي منهكًا ومرهقًا إلى حد بعيد على إثر سفري الطويل باليوم السابق، لكن العجيب أنني صحوت نشطًا وبلا أي أثر للتعب مطلقًا، وهنا لا بُدّ أن أذكر أن البعض تطوع يُقدم لي نصائح حول كيفية تغيير ساعتي البيولوجية والنوم نتيجة لتغير التوقيت ما بين مصر وساوباولو، فالفارق الزمنى يتخطى الست ساعات بقليل، لكن ولحسن القدر، فالسفر الطويل حرمني النوم على عكس عادة كثير من المسافرين، وهو ما جعلني أذهب إلى السرير في الليلة الماضية فأغرق مباشرة في النوم، لأصحو وقد انضبطت ساعتي البيولوجية والنوم بقدر عجيب، وتخطيت أول عقبات السفر كما قال البعض لي. فتحت باب حجرتي، واتجهت صوب المطبخ المفتوح على صالة الاستقبال الواسعة، وفي المسافة بين المطبخ وبين تلك الصالة تفننت الدكتورة – زوجة صديقي – في زراعة أصناف عديدة من النباتات والورد، لم ألحظها بالأمس حين وصلنا، تجعل الجالس في المطبخ كأنه في الهواء الطلق في حديقة مفتوحة على مشاع الكون والسماء، وبمجرد رؤيتهما لي صاح متتابعين:

– Bom dia Mukhtar

ابتسمت وأعدت عليهما تحية الصباح، فسألتني الدكتورة: “Tuido bem?“، “الحمد لله تمام”، وقبل أن نسترسل في حديثنا، جاءني صوت آخر يحمل تلك النغمة المميزة لصوت البرتغالية البرازيلية، كان يعيد تحية الصباح “Bom dia“، فالتفت، لأجد رجلاً يرتدي شورت من الجينز وتي شيرت بنفس اللون الأزرق، وبعينين ملونتين وبشرة بيضاء تميل إلى الحمرة قليلاً، ووجه صبوح تملأه الابتسامة الطيبة، فكرر: “صباح الخير يا أُستاذ”، كانت كلمة أستاذ نطقها بتفخيم مغاربي لحرف التاء فجعها “أُسطاز”، فابتسمت وقلت: “أظنك محمد المهدي المنتظر”، فقهقه كثيرًا، وقال: “يبدو أن الدكاترة أخبروك الكثير، لكن للحقيقة أنا المهدي غير المنتظر، فوقتي فات منذ بعيد”، تبدلت ملامح الرجل في لحظة من الابتسام إلى حزن عميق، جعلني أجزم أن عمر الرجل تخطى السبعين وليس الستين، وتساءلت في نفسي عن ذلك السر الذي يجعل الحزن سببًا في أن يهزمنا العمر، فيبدو أثره علينا، وأين كانت تختفي تجاعيد الرجل حين كان يبتسم منذ لحظات؟

سيجارة بعد الإفطار

صور

تحركت مع المهدي بعد الإفطار إلى الحديقة الملحقة بالبيت في مدخله الأمامي كي نُدخن، فهنا جرت العادة أن يُدخن الناس خارج البيوت حفاظًا على صحية الهواء داخل البيت، واحترامًا لمن لا يُدخنون، ولحظتها عرفت مأساة التدخين في مصر في غالب بيوت المُدخنين، إذ لا نتورع عن التدخين في بيوتنا دون انتباه لاحترام الآخرين من غير المدخنين ممن يدفعون الثمن في تدخيننا، ودعوت الله “لك الله يا مصر، الله يكون في عون أهالينا”. جلست إلى المهدي أستمع إليه حين كان يكلمني بلهجته المغاربية، وأعاد عليّ بعض التفاصيل التي عرفتها عنه بالأمس، ثمّ أخبرته بأن اللقب “محمد المهدي” يجيء مناسبًا جدًا لرجل مسلم مثله، فابتسم الرجل ببساطة وتلقائية وقال: “أنا لست مؤمنًا بأي دين!”، أُسقط في يدي لحظتها ولم أعرف كيف أرد، لكن الرجل بخبرة فائقة عاود الابتسام، وراح يتحدث كثيرًا عن ذلك التحول الذي جعله يصل إلى تلك القناعة، والتي ختمها هو نفسه بقوله: “لكم دينكم ولي دين”، أنا لا أؤذي أحدًا، كما أن التدين لم يمنع الناس من أذيتي؟ سواء كنت مؤمنًا أو كانوا هم مؤمنون، الأذية حدثت، وأنا تصالحت مع كل ذلك؟”. راح يزيدني من حكاياته الشخصية التي لا يصح لي بأي حال الحديث عنها هنا في تلك الحلقات، لكنها أكدت لي أن “المهدي” بطل من أبطال روايتي القادمة التي أكتبها عن طوارق الأمازيغ.

– “أنت حكاية يا سيد مهدي!”.

– “كُلنا له حكايته التي سيرويها أو يرويها عنه أحدهم”.

كان للمهدي منطق وفلسفة بسيطة في كل شيء، انتهت به في النهاية إلى التصالح مع كل ما حدث له من خسارة وفقد، وقرر أن يستمتع بما تبقى له في هذا العالم القاسي – على حد وصفه -، ثم نصحني بكلمة كانت تطابقًا نصيًّا مع نصيحة صديق قبل السفر مباشرة: “تعلم الانبساط واستمتع بالحياة يا حضرة الكاتب”.

جاءتنا القهوة ونحن نشعل سيجارتنا الثالثة ومستمرون في الحكي والضحك، حتى أن الرجل كما نقول في مصر كاد في واحدة من نوبات الضحك أن يموت “شرق الرجل من الضحك”، كنتُ أتأمل ذلك المهدي غير المنتظر كما صحح لي التسمية، أو المهدي الذي ليس الآن أوانه، شديد الغبطة لهذا العجوز الذي تصالح مع الدنيا بكل ما فيها من هذا الألم والقساوة، حتى أنه تصالح مع فكرة أن يعيش وحيدًا في العالم له دينه الخاص جدًا وعقيدته الخاصة، وهي ليست إلا حزنًا بالغًا وشديدًا بالأساس وكثيرا من الغضب الذي تمّ كبته، لكن الرجل سايسه حتى خرج من ناره إلى جنة الرضا – على الأقل كما بدا لي – التي نبتت في داخل روحه التائهة تلك. ناداني صديقي وطلب مني أن أرافقه للذهاب لعمل نسخة من مفاتيح البيت، وأنه سيتعين علينا شراء بعض الأشياء، فنحن سنسافر بعد ظهر اليوم نحو المزرعة في الغرب على مسافة تقرب ألف كيلومتر، وهذا ما سنتابعه في الحلقة القادمة.

نصيجة المهدي الأخيرة

جلستُ والمهدي قرابة ساعة كاملة في حديقة البيت نُدخن، ونتحدث، الحقيقة كان يتحدث بينما أنا كنتُ منصتًا إليه باهتمام شديد، إذ رحتُ أتعامل مع المهدي باعتباره أحد هؤلاء الأبطال الحقيقين لروايتي الجديدة التي أجهز مسوداتها حول عائلة من الأمازيغ، تابع الرجل حديثه بلا توقف، كأنه نهِمٌ للكلام بالعربية، أو هكذا كنتُ أظن، حتى انتهى إلى جملة – قلت أنها كانت تتكرر في الأيام الأخيرة قبل السفر – “استمتع بالحياة قدر استطاعتك، ولا تندم”، قالها ثٌم أدار وجهه ينظر نحو وردة بيضاء كانت تنبت في الحديقة قريبًا من مجلسنا، وبدا أنه شارد قليلاً.

إذن فإن “الاستمتاع” بالحياة صار من المفردات التي تحاصرني في أيامي الأخيرة، وتُلح عليّ إلحاحًا، لذلك رحت أنظر إليه وأنا أحاول التأمل في سؤال حول مفهومنا للانبساط، وكيف يُعد هذا المصطلح نسبيًّا إلى حدّ بعيد، مثل كل الأشياء في حياتنا، فالمهدي من يراه لا يُدرك حجم المأساة التي يعيشها الرجل بعد اغتراب دام أربعين سنة، ومن يراه الآن يُدخن سيجارته العُشبية العجيبة لظنه شخصًا مغمورًا بالسعادة حتى النخاع.

لعل أجمل ما كان في المهدي هو ذلك الإصرار على الابتسام، الذي لاحظت أنه لا يتوقف عنه إلى الحد الذي تظن أن الرجل بالفعل ينام مبتسمًا، ولا أعرف إن كان ذلك إصرارًا من المهدي على هزيمة الألم أو هو استسلام منه لكل الحياة بكل ما فيها من قساوة ومفاجآت، لكنها كانت درسي الأخير في هذا اللقاء مع “محمد المهدي” الذي أصر على أنه “المهدي” الذي جاء بعدما تعداه الوقت.

نسخة من المفاتيح

كنتُ أغلق بوابة الفيلا خلفي، حين عبر أمامي عامل النظافة قائلاً: “bom dia“، ابتسمت: “صباح الخير”، كانت في يدي سيجارة تحرجت أن ألقى بها في الأرض احترامًا للرجل، وتعجبت كيف لا أخجل من نفسي وأخجل من الرجل، ففي حالات أخرى كنتُ سألقي بالسيجارة إلى الأرض ولا أبالي بذلك، لكن ما الذي استوقفني في عامل النظافة هذا الذي أراه في أول صباح لي في ساوباولو؟ في ظني أن خجلي كان نابعًا من كون هذا العامل لم يتعدَ سنه الثلاثين بعد، وأنه يتعامل بحماس مع الأمر ولا يرى أيّ إهانة في ذلك، وفي لحظة قررتُ أن أقارن بين متوسط أعمار عمال النظافة في مصر ومتوسط أعمار عمال النظافة التي سأراها في ساوباولو، وبالفعل بدأت الإحصاء معتمدًا على ذاكرتي في شوارع مصر وبين من ألقاهم هنا في شوارع ساوباولو، وبعد ساعات النهار الأولى في شوارع ساوباولو، اكتشفت أن متوسط أعمار عُمال النظافة شابُ جدًا مقارنة بأعمار عمال النظافة في مصر. لماذا؟ الأمر بسيط للغاية حين نفهم أن العالم كله له ثقافة مختلفة عن ثقافة المصري حول العمل وطبيعته في عصرنا هذا.

تتزين شوارع ساوباولو بإشارات المرور الكثيرة التي تكاد تغطي كل شارع من شوارع المدينة مترامية الأطراف فوق الهضاب والوديان التي تكوّن خريطة المدينة، وفي وسط المدين كما أشرنا سابقًا ذلك القلب الإسمنتي لكثير من مُدن العصر الحديث حيث العمائر والبنايات الشاهقة، وتركز رأس المال وإدارته في مركز المدينة، لكن العجيب في كل شوارع ساوباولو أنني لم أسمع ضجيجًا يليق بمدينة تُعتبر العاصمة الاقتصادية للبرازيل كلها، فلم أسمع صوت بوق واحد لسيارة أو صوت فرامل زائد، الحياة على الرغم من حجم المدينة المهول إلا أنها سلسة وتسير في هدوء بالغ، وهو ما لفت انتباهي ورحتُ أعرضه على كل النصائح التي حملني بها أصدقاء ومعارف، وبدت لي أخيرًا الحقيقة المرة أن ثقافتهم تلك كلها ثقافة أفلام، وفجأة وجدني صديقي أجلس على الرصيف شديد النظافة غارقًا في الضحك، فلم يدرِ ما يفعل، والمارة ينظرون ويبتسمون لي في فرح، كأن العالم كله “مبسوط” لأجل انبساطي وضحكي، ولا يعنيهم السبب، وبينما همَّ صديقي بسؤالي، كنتُ أقول: “تخيل يا دكتور ولاد اللذين مفهمش أصلا حد سافر بره مدينته، ههههههههه”، رفع حاجبيه وابتسم مجاملة لي دون أن يفهم قصدي، وأنا غارق في استعادة نصائحهم حول عشوائية البرازيل وحول ثقافة الـ”كاو بوي” التي اختلطت في أذهانهم بين الأميركي والمكسيكي والبرازيلي، أدركت أن السينما واحدة من أكبر القوى الناعمة والتي يمكن من خلالها أن تخلق أو تقتل التعاطف مع القضايا المختلفة، وهنا أتذكر ما فعلته السينما الأميركية حين صورت لنا أن قتل الهندي الأحمر الذي يُدافع عن أرضه هو حرب للإنسانية يخوضها الرجل الأبيض ضد هذا الهندي الهمجي، والحقيقة أن الرجل يموت مدافعًا عن أرضه “شهيدًا”، لكن السينما قلبت الحقائق رأسًا على عقب.

وصلنا إلى صانع نسخ المفاتيح، وهُنا يجب تسجيل ملاحظتين الأولى عن المحل الذي تزين بابه بلوحات مرسومة باليد وبالقلم الرصاص على أوراق اسكتش للرسم، زين بها الرجل باب المحل، فبدا أكثر جمالاً ودهشة، إلى جانب الترتيب المذهل للأدوات داخل المحل والميكنة المتطورة للغاية لرسم وصنع نسخ المفاتيح على اختلافها، وأما الملاحظة الثالثة أنني انتبهت إلى الخوذة الواقية والنظارة التي ارتداهما الرجل، وتفهمت كيف يمكن للدولة أن تصل بثقافة شعبها إلى كون كل صاحب مهنة أو مهارة ليس موضع استغلال أو نفور إنما هو ثمرة من ثمار كنزها القومي وأن القوانين التي تضعها الدولة بأساسها ليست إلا للحفاظ على هذه الموهبة ورعايتها وضمان الاستفادة العامة منها، وتحسرت في نفسي على حال العامل المصري – حتى هؤلاء أصحاب المهن الخاصة – وما يعانيه من إهمال في هذا الصدد، وكأن الوقت لم يحن بعد أن نتفهم في مصر أن السكان هم ثروة حقيقة يجب الانتباه إليها والحفاظ والاحتفاء بها بالشكل المنتج اللائق.

في الشوارع

صور

قلت بأن المدينة تتشكل كلها من مجموعة كبيرة من الهضاب والأودية التي طوعتها البرازيل بالطوع مرة وبالكراهية مرة لتتشكل منها شوارع وأحياء مدينة ساوباولو الكبيرة، وبشيء من الهدوء والتفكير بدأت أتفهم السر في كون مدينة كبيرة وعظيمة مثلها ولا تزال أسلاك الكهرباء وأعمدة حاملة للسلك تملأ شوارع المدينة، وفي البداية كان ذلك مثار عجب ودهشة وظننته تناقضًا، فالمدينة حديثة جدًا، لكن أسلاك الكهرباء والتليفون معلقة في الشوارع كلها بشكل عجيب، ولكن بعد إدراكي لطبيعة المدينة، وهي طبيعة عامة في كل البرازيل تقريبًا، تكتشف أن أفضل الأمور هو أن تظل هكذا على حالها، وللحقيقة حاولت السؤال عن ذلك باعتباره تناقضًا بين عصرية المدينة وحداثتها وما رأيته متأخرًا في موضوع الأسلاك المُعلقة ذلك، لكن صديقي هنا ابتسم وقال ببساطة أنهت التساؤل: “والله ما أعرفشي فعلا”، ألم أقل لكم إن الناس هنا بسيطة ومباشرة إلى حدّ رائع، فالرجل بلا محاولات للفلسفة أو الإحساس بأيّ انتقاص له ولبلده أجاب أنه لا يعرف السبب في ذلك، ولم يمضِ في خطبة عصماء عن حُسن الأداء الحكومي أو نقده، إنما اكتفى بخير الكلام ما قلّ ودلّ دون أن يتورط في مزايدات حول بلده الجديد الذي منحه جنسيته وقدم له الفرصة التي ضيقها عليه السفه الإنساني والسياسي في بلده الأفريقي.

لم أسمع كما قلت في شوارع ساوباولو صوت بوق سيارة واحد، ولا صوت راديو يخرج من أيّ محل لبيع الطعام أو الملابس أو غيرهما كما جرت العادة في ثقافتنا المصرية، وبدا لي الأمر غريبًا بعض الشيء، فلما سألت عن سرّ الهدوء العجيب، عرفتُ أن القانون البرازيلي يُلزم السائق باستخدام البوق في الضرورة القصوى، وأنه بعد الساعة السابعة مساء حتى السادسة صباحًا فإنه يُجرم من يستخدم بوق السيارة تحت أي ظرف، وذلك احترامًا لحقوق الآخرين في ليل هادئ ومريح. ساعتها رحت أتذكر البيت الذي سكنته في الإسكندرية وكيف كان الميدان تحت البيت جحيمًا من الأصوات، ورحتُ أقول في نفسي إن سكان المدن التي تشبه القاهرة والإسكندرية بكل هذه الضوضاء في شوارعها لا بُدَّ أنهم طوروا في أجهزتهم العصبية كي يتحملوا كل هذا الضغط الهائل من تلك الأصوات، ورحت أحمد الله على نعمة الهدوء التي معها لم أنتبه لصوت الآلة في يد صانع المفاتيح، وودعناه في هدوء وانطلقنا عائدين نحو البيت، ومسرعين بشكل ما، إذ تأخرنا عن موعد التحرك المفترض لرحلتنا إلى المزرعة جهة الغرب، والتي تبعد ما يقرب من 800 كيلومتر، وهو ما أرجئه إلى الحلقة القادمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.