في عالم يضج بالصخب من يقرأ القصيدة؟

الأحد 2025/06/01
لوحة: إسماعيل الرفاعي

"لن يقولوا كان زمناً رديئاً.. بل سيقولون صمت الشعراء." (بريخت)

“لم يعد أحد يؤمن أن الشعر (أو الفن) قادر على تغيير العالم. الشعراء الآن في كل مكان، ولكنهم لا يكلمون إلا بعضهم البعض.” بهذه العبارة القاسية يختصر بول أوستر وجي إم كوتزي، في كتابهما المشترك “هنا والآن”، مأزق الشاعر المعاصر الذي تحوّل من صوت جماعي يحمل رسالةً كونية، إلى صوتٍ منكفئٍ على ذاته، يتناقل كلماته في دائرة ضيقة، بينما تُدار عجلة العالم خارجاً بآلياتٍ لا تعرف التأمل ولا الروح. هذه العزلة ليست مجرد اختيارٍ وجودي، بل هي نتيجة تحوُّل جذري في بنية التواصل، ودور المبدع، وطريقة استهلاك المعنى في عصر تطغى عليه الوسائط السريعة.

الانزياح عن الدور التاريخي

لطالما حَمل الشاعر في الذهنية العربية، كما في غيرها، صفة “الكائن المُنبئ”، الذي يمسك بخيوط المعنى الخفيّة، ويصوغها في قصيدةٍ تُعيد تشكيل الوعي الجمعي. من امرئ القيس إلى المتنبي، ومن نيرودا إلى لوركا، كان الشعراء قادة روحيين، يفتحون نوافذَ على عوالمَ لم تكن مرئيةً من قبل. لكن هذا الدور بدأ يتراجع مع صعود الوسائط الحديثة التي حوّلت الخطاب إلى سلعةٍ سريعة الاستهلاك. لم يعد الشاعر “حاوياً” يُنقّب عن جوهر الأشياء، بل صار صوتاً غريباً في زحام الإعلام الذي ينتج خطاباً يومياً، مُلحّاً، ومُوجّهاً لجمهورٍ واسع، لكنه أفقد اللغة عمقها، وحوّل الفكرة إلى مجرد “محتوى”.

الوسائط الجديدة: احتكار الخطاب

إذا كان الشعر قديماً يُعتبر وسيلةَ التواصل الأرقى، لقدرته على اختراق الزمان والمكان، فإن الوسائط الرقمية اليوم تزيحه عن مركزية الخطاب. فالشاشات التي تَبُثّ صوراً ملوّنة، ومقاطع مصوّرة، وآراءً آنية، تخلق واقعاً موازياً أكثرَ إثارةً، وأقلَّ حاجةً إلى التأويل. في هذا الفضاء، يصير الصوت الشعري كمن يُنشد في محطة قطارٍ مزدحمة: قد يسمعه من يقف بجواره، لكن الضجيج يبتلع تفاصيل الكلام. هكذا يتحول الشعراء إلى “نُخبةٍ هامشية”، تُدير حواراتها في أروقةٍ افتراضية أو ورقية ضيقة، بينما تُدار لعبة التأثير الحقيقية بواسطة منصّات التواصل التي تختزل العالم في “لايكات” و”هاشتاقات”.

العزلة: بين الانهزام والتمرد

قد تبدو عزلة الشاعر انسحاباً من ساحة المواجهة، لكنها قد تكون أيضاً شكلاً من أشكال المقاومة. ففي زمنٍ يُقدّس السرعة، ويختزل الحقائق في عناوين مُضلّلة، يصير التأنّي في الصياغة، والغوص في الأسئلة الوجودية، فعلَ تمرّدٍ على سطوة الخطاب السائد. ليست العزلة هنا انكفاءً، بل إصراراً على أن يكون الشعر فضاءً للحقيقة التي تحتاج إلى صمتٍ كي تُولد. غير أن هذه المقاومة تظل مُكلفة، إذ كلما ازداد الشاعر تمسكاً بعمق النص، ابتعد عن الجمهور الذي تعوّد على تلقي المعلومات في جرعاتٍ سريعة.

هل يحتاج العالم إلى الشعر؟

السؤال الأكثر إيلاماً: إذا كان العالم لا ينتظر الشعراء كي يتغيّر، فما الذي يبرر استمرار الكتابة؟ ربما تكمن الإجابة في أن الشعر لم يعد أداةً لتغيير الواقع المادي، لكنه تحوّل إلى مرآةٍ تعكس هشاشة الإنسان المعاصر، وقلقه الوجودي في عالمٍ فقدَ القدرة على الإصغاء. إنه يصنع مساحةً للتأمل وسط الضوضاء، ويذكّر بأن الكلمات لا تزال قادرةً على إنقاذنا، ولو مؤقتاً، من براثن السطحية. قد لا ينقذ الشاعر العالم، لكنه ينقذنا من الاستسلام للعالم كما هو.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.