قسوة

الجمعة 2022/04/01
لوحة: سماح الألوسي

أمام باب المدرسة وتحت وقع زخات المطر الخفيفة ‘تركنا سائق العربة فجأة وهرع وهو يحتمي بمعطفه الطويل المبتل نحو أقرب منزل. وبقي جميع الركاب داخل العربة إلى أن توقف المطر. ورغم أنني كنت آخر من يغادر العربة’ فإنني لم أر السائق بعد ذلك، فأخذت وبرغبة مفاجئة أتلصص من خلف السور القديم  على الأقسام المدرسية القديمة والمتلاحمة بشكل ما ‘وخصوصا القسم الذي تعلمت فيه حروف الضاد لأول مرة’ والذي بني على الطريقة الفرنسية ‘إذ ما أن تجتاز الدرج الإسمنتية الثلاث حتى تجد نفسك داخل حجرة الدراسة الباردة، بنوافذها الكبيرة والعالية، حيث قضيت هناك سنتين’ قبل أن أنتقل إلى مدرسة أخرى وبحي آخر.

وبينما كنت أتطلع في صمت إلى بقية الأقسام الأخرى ’والساحة المتربة’ والحديقة الصغيرة ’ظهر فجأة وفي الإتجاه المقابل حارس المدرسة’ وهو رجل غامض ’سار باتجاهي مطأطأ الرأس’ وما إن اقترب مني حتى سألني وبنبرة هادئة ’إن كنت أحتاج إلى كرسي’ بدل الوقوف على أصابع قدمي، وبعد أن فتح باب المدرسة دعاني إلى الدخول قائلا من منا لا يحن إلى مدرسته الأولى.

وباستثناء الشيب الذي غزى شعره ’وأخاديد وجهه التي تقعرت’ وانحناءة الكتفين الواضحة ’فإن ملامحه لم تتغير كثيرا’، وبشكل مباغت مد يده اليمنى نحوي قائلا:

– أنت ابن فلان..؟

وأضاف بعد أن صافحني وبشكل سريع

 – أعلم أنك جئت لزيارة جدتك أيضا.

لم أجبه، محاولا قدر الإمكان تجاهله وأنا أنقل خطوة وراء أخرى إلى الوراء .لكنه لحق بي مؤكدا:

إنها لا تزال على قيد الحياة، نائمة كعادتها على السرير الخشبي ذي القوائم العالية. ثم تركني واتجه بسرعة نحو رجل يمتطي دراجة نارية ’يبدو أنه كان مخبرا’ إذ بينما كان الحارس يحدثه عني، كان هو الآخر يتطلع إليّ بين الفينة والأخرى بنظرات سريعة ومركزة، وبعد أن ودع الرجل عاد نحوي وهو يحدث وعلى سبيل التمويه نفسه.

– ما المشكل إن لم أحضر العرس؟

ودمدم وأنا أتقدمه

– كيف حال الوالد؟

– …. …. ….

– هل مات ؟

– …. …. ….

وبلكنة مصطنعة أضاف

اسمع أنت مثل ابني، وإذا تجرأت على الحديث معك ’فذلك راجع لإحساسي بالغبن، نعم الإحساس المر بالغبن. تصور بالأمس فقط جاء رجل في حوالي الأربعين من عمره ’التقط عشرات الصور وهو يقفز كصبي ويقول لمدير المدرسة دون أن يكلف نفسه عناء النظر في وجهي’ نعم هذه هي الأقسام التي درست فيها، هذا هو المرحاض، هذه هي حديقة المدرسة.

وبعينين متسائلتين التفت نحوي قائلا:

– للأسف حتى أنت تجاهلتني.

وبدل أن نفترق تسمر في مكانه ساهما، بل استغرق في التفكير، ولم أسأله لماذا يشعر بالغبن ‘لأنه حتما سيجيبني وبكل هدوء بأنه لا يعرف. ثم اتجه نحو بائع السجائر بالتقسيط’ وضع سيجارة في فمه ووضع الأخرى خلف أذنه اليمنى. وفي كل زقاق كان يقف أكثر من مرة ليسلم على هذا الرجل أو تلك المرأة.

وأخبرني وأنا أتطلع إلى المنزل الذي قضينا فيه قرابة ثلاث سنوات ’بأننا كنا الأسرة السابعة التي تستأجره، وما يكاد يلقي التحية على أحد أو يردها ’حتى يخبرني عن أصله وفصله. وكان ثمة هرج ونحن نبتعد عن منزلنا القديم’ ودون أن يتأكد من مصدر الصوت قال وبشكل واثق:

– هذا صوت الإسكافي السكير ’يكاد لا يصحو من السكر’ لكن ما يثير حنقي حقا هو من أين يأتي بالمال.. إن مصدر رزقه اليومي جد محدود.

لوحة: سماح الألوسي
لوحة: سماح الألوسي

وفي الطريق أوقفته سيدة في مقتبل العمر، كان على وجهها أثر خدوش واضحة.

تحدثا بصوت خافت قبل أن يقول لها وبلهجة صارمة.

الطلاق ’نعم  الطلاق، أنت فتاة جميلة وتستحقين شابا محترما وليس زير نساء. وغمغم وهو يبتعد عن الفتاة:

لا يمر أسبوع دون أن تعترض طريقي لتشكو سوء معاملة زوجها لها ’أو أن تسمع صوت عراك بهذا المنزل أو ذاك’ ورغم دالك تجدهم يتبضعون في السوق صباحا وكأن شيئا لم يحدث، ويتباهون فيما بينهم بالهدايا ’وينجبون الأطفال’ ويحتفلون بالأعياد التي لا تحصى.

وفجأة التفت نحوي قائلا:

– نحن على مقربة من بيتها

– من ؟

– جدتك.

– جدتي  !

نعم جدتك. آه كم ستكون سعيدة برؤيتك.

كان حارس المدرسة رجلا غامضا حقا وفضوليا ’لكن ولسبب غامض أيضا وربما لمعرفة حقيقة ما يدور في ذهنه’ تمالكت نفسي وسرت خلفه، وبإحدى الأزقة وأمام متجر لبيع المواد الغذائية ’ودون تحية مسبقة’ سأل ومن بعيد رجلا عن ابنه:

– هل خرج من السجن ؟

– لا.

– من المفروض أن يخرج في أول الشهر.

– ما الفرق بين أول الشهر وآخره..؟

رد الرجل يائسا:

لم يستسغ الحارس الرد لكن تقبله على مضض ’إذ بقي واقفا برهة من الزمن وهو يفتل شاربيه ويفكر’ وأخيرا تقدم مني قائلا:

– لا بأس ’لا بأس’ كنت أرغب في معرفة مصير ابنه البكر ’لأنني لا أعرف حقيقة أين اختفى’ لكن لا بأس لا بأس .

كان الجو لا يزال باردا حين ركبت العربة باتجاه المدرسة ’وما إن بدأت تمطر’ حتى استبد بي حنان جارف إلى أيام الصبا، وتذكرت منزلنا القديم’ وكيف كنت أحتمي من المطر بقطعة من البلاستيك. لكن ما إن غادرت العربة ’حتى تغير كل شيء، من السائق الغريب وحارس المدرسة إلى السيدة العجوز’.

وفكرت ترى هل كان عبوري عاديا من هناك؟ ولماذا أقحمني الحارس في أحاديث لا معنى لها ’ولماذا أصر على مرافقتي، ومن تلك السيدة العجوز بجدائل شعرها الحمراء الطويلة ’والتي ادعى بأنها جدتي؟ هل كان يبتزها هي الأخرى، و تردد صوت من بعيد، وكان واضحا هذه المـرة’ بأنه صوت امرأة غاضبة من زوجها.

“أنت في كل مكان ، في الحانة ’في المسجد’ تقابل هذه الفتاة وتطارد الأخرى ’أنت في كل مكان’ هذا لا يطاق. هذا لا يطاق.

ويرد الحارس ساخرا:

هذا لا يطاق.. هذا لا يطاق.

وأذكر أنني قد توقفت أكثر من مرة ‘وأخبرت الحارس وهو يتقدمني بخطوات واثقة’ بأن جدتي قد ماتت منذ سنين خلت، لكنه كان يصر على موقفه قائلا:

– لا أعرف لماذا تتهرب من زيارتها.

وبعد دقائق لاح من قريب حي صغير، على يمينه أشجار صنوبر كثيفة تهمس بحفيف خافت، وعلى اليسار منزل كبير في طور البناء، ومن هناك لم يكن بوسعي إلا أن أتبع خطى الحارس الذي لم يعد يجهد نفسه في مراقبتي وهو يتقدمني نحو بيت السيدة العجوز. وحين دخل وقبّل يدها دعاني بدوري إلى الدخول فشعرت بمزيج من الحيرة والخوف، ‘وأخيرا وفي لحظة غضب قلت له بأنه يجب عليّ أن أنصرف الآن والغريب أنه ظل صامتا’ وتقدمت قليلا بعد ذلك لكني لم أجرؤ على الدخول.

كانت السيدة العجوز مستلقية كما أخبرني الحارس بذلك من قبل على سرير عال من الخشب ’بجدائل شعرها الطويلة الحمراء والتي تكاد تغطي عنقها وكتفيها، لم تحرك رأسها قط’ كانت تحدق في نقطة معينة’ حاولت التراجع إلى الوراء، لكن قوة قاهرة دفعتني إلى البقاء. وفجأة أطلقت السيدة العجوز تنهيدة عميقة قبل أن تقول وبلهجة حزينة ومقطعة.

لا تمعن في تعذيبي أكثر..هذا ليس ابني..هذا ليس ابني.

حينها أدركت بأن المرأة العجوز كانت تنتظر فعلا وربما لسنوات طويلة ابنها المفقود. وبأن الحارس كان على درجة كبيرة من المكر حين ادعى بأنها جدتي وليست أمي .فأغلبنا ربما لم ير جدته قط وهنا مكمن اللبس. لكن لماذا كان يتغاضى عن فكرة إحساس الأم القوي ’لماذا كان يمعن كما قالت السيدة في تعذيبها ’ هل كان يبتزها ’وهل أعماه الجشع إلى هذا الحد’. وبعد لحظات عصيبة وبصعوبة بالغة تملصت من يده وغادرت المكان بأقسى ما أملك من سرعة. فحاول اللحاق بي، لكنه تعثر أكثر من مرة، وبعد لحظات غاب صدى صوته.

وحده صدى صوت السيدة ظل يتردد في أذني كلما ابتعدت أكثر.

– لا تمعن في تعذيبي أكثر.. هذا ليس ابني.. هذا ليس ابني.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.