"قطف الهديل"

قصص قصيرة مغربية
الثلاثاء 2020/12/01
لوحة: Ali Mokawas

تتضمن مجموعة ” قطف الهديل ” لعبدالرحيم التدلاوي الصادرة عن “ديوان العرب” في القاهرة 2019 موضوعات و”تيمات” متعددة تتوزع بين ما هو اجتماعي وديني وقيمي في قالب موسوم بالتكثيف والاختزال يندرج ضمن جنس القصة القصيرة جدا. نمط برع الكاتب في الإلمام بجوانبه، والإحاطة بمكوّناته، والغوص في خباياه ومكنوناته متمثلا لتفاصيلها وجزئياتها ومن ثمة إنتاج نصوص تنتمي لهكذا جنس سردي بلغة لا تخلو من نفس شعري يطفح رهافة ورقة وشفافية برسم آفاق إبداعية تمتح من مرجعيات متعددة المشارب والمنابع.

وقد وفّق مقدم المجموعة القاص والناقد محمد فري في تحديد طبيعة لغة القاص التي تتجاوب إلى درجة التصالب والتداخل والتماهي مع موضوعات النصوص وأبعادها الدلالية والجمالية “تجاوز لغة الإخبار والتوقف بقوة عند لغة الإيحاء التي يسهم في توسيع مساحتها أسلوب مجازي شاعري” (ص 7)، فهو أسلوب بقدر إمعانه في تكثيف المعاني وصياغتها باقتصادية واقتضاب بقدر ما يشرعها على آفاق تعج برحابة دلالاتها، وعمق أبعادها بحيث تجاوز الكاتب حدود الحجم مقارنة بالقصة القصيرة إلى اجتراح معان أعمق غورا تحفر في تضاريس محيط يحبل بتمظهرات تمعن في التناقض والتناشز والتنافر مما يمنح الموضوع، المختزل في اللقطة أو المشهد، الأولوية والقيمة الإبداعية بدل الشكل الذي يتحدد حجمه، وتتشكل ملامحه حسب طبيعة المعنى وامتداداته اللغوية والمجازية.

ورغم صعوبة الإلمام بموضوعات المجموعة و”تيماتها” لما يجللها من طابع رمزي غني بإيحاءاته وإحالاته الدلالية والجمالية بلغة تتوسل بأدوات مجازية لإطالة كنه مقصدياتها، وعمق مراميها سنعمل على مقاربة بعضها من خلال استقراء مقاطع من نصوص المجموعة كالحلم الذي يتوزّع حضوره في العديد من القصص “الحلم الذي طالما راودني، وأسكن في عينيّ السهاد” (ص 37)، يبدأ كهمّ يسكن وجدان السارد، ويستبدّ بحسّه وفكره، بل يؤرقه ويغرقه في السهاد ليتحول إلى أجواء تعبق رومانسية، وتتضوع روعة وبهاء “حلم بنفسه في جنان الروعة فراشة تحلق بحرية” (ص 55)، والجانب الاجتماعي الذي يتحايل القاص على بعض مشهدياته ملتقطا، بحذق ونباهة، ما يغني متنه القصصي ويطور سيرورته السردية “متابعا طفلا صغيرا يحمل صندوق تلميع الأحذية وهو يمر بين الرواد” (ص 64)، ليحوّلها من موقعها الوضعي إلى مقام غرائبي يزخر بزخم من دلالات ذات بعد غير متوقع وغير مألوف “مددت إليه وجهي” (ص 64)، فبدل تلميع الحذاء انتقل لتلميع الوجه وهو سلوك شاذ وغريب. أو تصوير ما يعانيه المعطلون من قمع وتنكيل جراء مطالبتهم بحقهم في الشغل “في الطريق إلى المنزل شاهدت المعطلين مطوقين تنزل العصي عليهم بغير حساب” (ص 56)، وهي لقطة تختزل مشهدا ينبض بشتى الدلالات والأبعاد.. كذلك تناوله لموضوع الدين بامتداداته القيمية، ومقاماته العلوية بطقوسها الروحية وما تفرزه من سلوكيات تتوزع بين حمد الخالق وشكره “توجهوا إلى المسجد لأداء صلاة الشكر” (ص 58)، أو استلهام بعض عبارات القرآن الكريم  “رأت وجوها نضرة، لم تعد ترهقها قترة.. حين يدخل الجمل في سم الخياط ” (ص 73)، بتحويرها وتأويلها في سياق إغناء النسيج السردي، وتنويع أفق معانيه لتغدو أكثر عمقا وانفتاحا.

كتاب

ويحظى موضوع التحول بنصيب لافت في المجموعة بما يضفيه على نصوصها من زخم عجائبي “رجل آلي تحول إلى ذئب فأتى على كل ألعابي” (ص 77)، أو ما يومئ إليه من تبدل على مستوى المواقع “منزل الصعاليك سيصير قبر شهداء” (ص 43)، وما يتضمنه من مفارقة بأبعاد قيمية، ودلالات وجودية بين فئتي (الصعاليك والشهداء)، أو بصيغة لا تخلو من جمالية ورمزية “تحول الرجل دوحة غناء” (ص 44)، تحول ما يفتأ ينحو منحى غرائبيا في العديد من القصص ليشيع في بنيتها أحداثا لا متوقعة، ووقائع غريبة “يطير الرأس في الفضاءضاحكا..” (ص 56)، ليتماهى مع صيغ تستمد نسغها من مشاعر الشخوص الذاتية، وما تحبل به من معاناة “صار سلما ارتقاه إلى أعلى الخيبة” (ص 75)، أو محيطها الخارجي الحافل بشتّى ألوان المفارقات والمتناقضات.

وتزخر قصص الأضمومة بتعابير وصفية متعددة الصيغ والمدلولات بأساليب مجازية، وأشكال بلاغية منحوتة بحذق ودقة “جاءها صوت رخيم كعذوبة الماء في صحراء التيه” (ص 71)، تصوير بجمالية راقية، وصياغة متكاملة لحدث مجلل بخيبة طافحة  “لأسقط مباشرة فوق آخر كلمة من مقال نعيي” (ص 72)، مشهد بحمولة مجازية غنية بانفتاحها على عدة قراءات وتأويلات وبلغة تعبيرية أكثر كثافة واقتصادا وتوهجا. وتتجدد في نصوص المجموعة استعارات وتشبيهات تضفي عليها مسحة من ألق وعمق وبهاء في مقطع “كفكفت عينيها يد القمر المطل من نافذتها” (ص 42)، وأيضا في مقطع آخر “تستهلك النظرات أشياء العالم بشراهة كالنار” (ص 48)، استعمالات مجازية بأشكال جمالية تشيع في نصوص المجموعة لتشرعها على آفاق غنية بزخمها الخيالي في أبهى صوره وتجلياته باستخدام مغاير لأدوات مثل البندقية لا تخلو من أنسنة وشيطنة “البندقية اللعينة ركبتها شطحات الشيطان، فأطلقت زغاريد النسيان” (ص 23)، أو مكون طبيعي كالشجر “لحظتها سمعت الشجر يهمس قائلا: دسهما تحت إبطيه لم يهتم بالعويل…” (ص 24)، استعمالات تضاعف من توالد المعاني، وتجديد زخمها بعبارات ترشح مجازا وجمالية ينأيان بها عن مغبة النمطية والتكرار لما تخلقه من صيغ لغوية ودلالية تغرف من معين عميق المنبع، غزير التدفق تتزاوج فيه أشكال تعبيرية بحمولات إبداعية وجمالية ميسمها التجدد والتنوع من أنسنة للمكان “أصيبت المدينة بهيستريا ضحك يكتم الأنفاس” (ص 25)، إلى مقام عجائبي “لأجد نفسي فوق ظهر طائر أبيض عظيم الهيئة حملني إلى آخر نجمة مضيئة” (ص 31)، أو استعارة متعددة الدلالات، عميقة الأبعاد “تلعق بلسان الحزن جراحها” (ص 25)، أو رسم صورة، بشكل مغاير، لامتزاج وانصهار نشوة المتعة بهول التداعي والدمار “جلست أستمتع بشعرية الخراب” (ص 24)، صورة تغدو أكثر امتدادا وأعمق غورا حين تتوسل بالدين للجهر بسقوط العالم “أعلن كمؤذن صلاة سقوط العالم” (ص 27)، لما توحي به من انهيار لقيم كونية عبر نداء ديني (الأذان)، وما تحبل به، الصورة، من غنى رمزي، وبعد دلالي بفتحها لآفاق حبلى بمتغيرات قيمية ووجودية تستدعي مقاربتها عدة معرفية لكشف واكتشاف خباياها، واستجلاء مكنوناتها التعبيرية، وتجلياتها الإبداعية والجمالية.

نخلص أخيرا إلى اعتبار “قطف الهديل” منجزا سرديا غنيا بتعدد موضوعاته، وتنوع ” تيماته” في قالب قصصي (قصة قصيرة جدا) يستدعي إلماما واسعا وعميقا بمكوناته كجنس ما يزال في طور الاكتمال والتبلور، وما يستلزمه من تمثل لمقوّماته السردية من وسائل وأدوات تعبيرية تستجيب لمتطلباته الشكلية والجمالية والموضوعية. ونصوص عبدالرحيم التدلاوي تندرج ضمن هذا الجنس لما راكمه وأنجزه من كتابات بقيمة كمية ونوعية راقية، يزاوج فيها بين الشعر والسرد بلغة غنية بزخمها المجازي، ونفسها الشعري، وأبعادها الرمزية والدلالية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.