كتابات يوسف الناصر

الجمعة 2022/04/01
لوحة: يوسف الناصر

بيان شخصي عن نفسي وعن صنيعي الفني

ولدت في مدينت العمارة عام 1952 ودرست في مدارسها وتخرجت من أكاديمية الفنون عام 1975 وغادرت العراق عام 1979 هربا من البعثيين وعشت في لبنان وسوريا وقبرص، وأعيش وأعمل في لندن منذ عام 1990.استمرت دراستي للفن بعد مغادرتي للعراق على مستويات مختلفة كالاشتراك في المشاغل الفنية مثل المشغل العالمي للغرافيك في ألمانيا، أو الدورات الجامعية مثل “بوليتكنيك لندن” وغير ذلك، وكان اخر الانشغالات هو دراسة الماجستير التي انتهت هذا العام.

أقمت معارض فنية فردية واشتركت بمعارض جماعية كثيرة منذ معرضي الشخصي الأول في بغداد عام 1977 وحتى اليوم، في معظم الدول الأوروبية وأميركا واليابان والدول العربية، ولا مجال للتفصيل هنا.

وسيكون المعرض القادم في الأسبوع الثاني من الشهر التاسع هذا العام في مرسمي الشخصي في لندن والذي أدير فيه أيضا دورات لتدريس الفن.

انضممت إلى جمعيات وتكوينات ثقافية متعددة وبادرت إلى تأسيس جمعية الفنانين العراقيين في بريطانيا وأسست غاليري “آرك” أي “الكلك” أو سفينة نوح في لندن عام 1997 ولا أزال أعمل فيه.

في العام 2006 اقمت معرض “المطر الأسود” وهو معرض عن فظائع وعذاب الإنسان في الحرب وكانت مادته الموت العراقي الذي لم ينقطع منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما ومع أنني رسمت ذلك على امتداد حياتي خارج العراق وبكل ما اتسعت حرفتي له إلا أن الحرب الأخيرة أخذت حيزا مختلفا، فمنذ الاستعدادات الأولى للحرب وقبل اندلاعها بفترة ليست بالقصيرة بدأت بمشروع ” المطر الأسود”.

فقد ظننت أن روح العراق التي جفّت وأقحلت على مدى عقود طويلة من الظلم والعسف البربري الذي يقع خارج إمكانية اللغة على الوصف لن يعيدها إلى الحياة غير الطوفان العظيم الذي سجل به العراقيون القدماء بداية الخليقة وابتداء الحياة، إنه المطر الغامر الذي يغسل الأرض ويطوي التاريخ والآلام.

ولكن المطر المرتجى لم يكن غير الحرب، ولأني شهدت فظاعات الحرب بنفسي على مدى سنوات في المنفى  فقد أسميت مشروعي “المطر الأسود”

إنه مطر، ولكنه ليس مثل المطر.

إذن فهو المطر الأسود الذي لا زلت أرسم تحت جناحه إلى اليوم.

وهو لوحات كبيرة يصل طول بعضها إلى خمسة أمتار وارتفاعها ثلاثة، مثلما فيها لوحات صغيرات وتخطيطات ومطويات وأشياء أخرى منوعة صنعت بمواد مختلفة مثل مواد المرسم ومواد البيئة الخارجية. وقد عرضت أجزاء منها في أماكن مختلفة في بريطانيا وخارجها ومن تلك الاجزاء معرض دمشق.

لا يزال هناك الكثير من العذاب، لا يزال طريقي طويلا.

في مشروع ” الازرق البعيد” وهو مشروع اشتغلت فيه بعد مجيئي للإقامة في لندن عام 90. أتممت  عددا من اللوحات والتخطيطات بمواد مختلفة، ولازلت أعود إليه بين فترة وأخرى، وهي لوحات غنائية تطوي تحت سطوحها عكس ما يبدو عليها للنظرة العابرة، لكن الأسى الذي ابتُعثت منه لا يحتاج إلى عناء كبير لتلمسه، فعندما وصلت إلى بريطانيا أحسست أنني صرت بعيدا جدا، وصار عليّ أن أتصالح مع خسارتي، وأتعود العيش في مكاني الجديد وأتقبل فكرة اللاعودة، وكان البحر بالنسبة إليّ تكثيفا لصورة كل ما ضاع مني، خصوصا وأن صحبتي للبحر وتعلقي به في قبرص كانت سلوى تهب أيامي معنى إنسانيا وغرضا ما، إضافة إلى كوني أحب الماء بطبيعتي وقضيت سنوات عمري الأولى أسبح في الكحلاء وأشرب منه وأتسرّى على ضفافه طفلا وولدا ويافعا وشابا، حيث كان النهر جزاء أساسيا في حياتنا، فرسمت خسارتي بأزرق الماء وموجات الماء ورذاذ الماء وزبد الماء وسمكاته اللاعبات وحيوانات البحر وانعكاس الضوء على سطحه اللامع، وأظن أنني كنت أندبه فلم أنس صديقي الذي ابتلعه النهر وأيدي النساء التي امتدت إليّ عبر ماء الطين الأحمر تنقذني من سَورة خطفتني من يدي أمي التي كانت تغسل صحونا وقدورا في ماء دجلة كعادتها كل صباح.

لوحة: يوسف الناصر
لوحة: يوسف الناصر

لم أكن أتذكر الأشياء أولا ثم أرسمها بل كانت يدي تجري بخطوط وألوان تعيد تشكيل الأشياء والصور قليلا قليلا في ذاكرتي، كان تمرينا عجيبا يضم الألم إلى اللذة فيُخرج ألما لذيذا، حتى أني تصورت أن بإمكاني أن أرسم ارتعاشة برد الصباح الأولى عندما كنت أضع قدما مترددة في الماء وأنا في الطريق إلى المدرسة.

أعمل الآن على تجربة جديدة إلى جانب مشروعي المستمر “المطر الأسود”، توائم بين الشعر والرسم، وأحاول مع شاعرة إنكليزية  كتبت قصائد عن الحرب أن نقدم شيئا جديدا لا يعتمد الشكل التقليدي في ضم القصيدة لإنشاء اللوحة أو اعتماد أبيات منها أو مقاطع ولا يقترب من الألاعيب الحروفية والخط والتزيين وغير ذلك، وهو أيضا لا يشبه الرسم الإيضاحي، إنها محاولة مختلفة تعطي لكل من اللوحة والقصيدة حيزها المطلوب وتمزج بينهما بشكل حيوي وعضوي وليس بصريا فقط.

ويعتمد المشروع وسائل فنية أخرى غير مواد الرسم وحروف الكتابة، ويحتاج إلى رسام ليس بعيدا عن إنتاج الشعر وشاعرا يعرف معنى الرسم ولا يكتفي بكتابة النص، إنها أشبه بعملية إنتاج شيء جديد لا هو لوحة ولا هو قصيدة مع أنه كلاهما معا، ولا يسعني وصف التجربة هنا بدقة إذ يحتاج المرء إلى أن يجربها بنفسه.

وكما ذكرت فإن مادة التجربة هي الحرب ينظر لها من زوايا مختلفة، وكان باعثها الأساس هو الحرب في العراق.

كثيرا ما شبهت عملي في لوحات الحرب بعمل ذلك المسعف الذي يتنقل بين خطوط القتال لمساعدة الضحايا مع أني لا أواجه خطرا مباشرا وكبيرا مثل ذلك طبعا، فأنا مشغول بالضحايا وبآلامهم وبالخراب والرعب اللذين تسببهما الحرب ولست مهموما بالأبطال والانتصارات وما شهدائي سوى قتلى مساكين سُلبت حياتهم منهم، ولا أحتفي بالرايات والأناشيد إلا باعتبارها رموزا وأدلة على موت سابق أو مقبل وعماء مطبق.

اللوحة عندي لا موقف فيها غير الموقف الإنساني فلست مع أحد ضد الآخر داخل حدودها، لا تحرض ولا تروج لشيء غير التمسك بالحياة فكل الضحايا متساوون في الألم، وأخيرا أخفقت اللوحة في ذلك فهي لوحة فاشلة.

ليس عندي رسالة أوصلها إلى أحد ولا نصيحة أقدمها، فلست أذكى من الناس ولا أحكم منهم وذلك الذي يسعف الجرحى لا يهمه من أشعل الحرب ومن سوف يطفئها، ولا يرى غير ألم الجسد المطروح أمامه، أنا أحاول أن أصور المرارة والخوف وأكشف الألم وأذكّر بالحياة الجميلة السوّية، قد يبدو ذلك مثاليا أو حتى انهزاميا، ربما، فأنا أدري أنه ليس أسهل المهمات روحيا وفنيا.

كتبت كثيرا للصحافة العربية وخصوصا إلى جريدة “الحياة” مقالات هي عن الفن أو على حافته، ولا أصف نفسي ناقدا فنيا، فما كتبته أقل شأنا من أن يكون نقدا، فالنقد عملية صعبة وتحتاج إلى مؤهلات عالية وثقافة لا أمتلكهما.

وما كتبته كان تغطيات صحافية على حافة النقد، ولو أن بعض القراء يفضل وصفها نقدا، كما كتبت مراجعات لمعارض فنية وفنانين وأجريت حوارات، وكنت أركّز على الفن الأوروبي ووضعت لنفسي مهمة الوسيط بين القارئ العربي والفن الأوروبي، أقدم لقراء العربية ما يجري ويتطور في مجال الفن أوروبيا بصيغة أعمق بعض الشيء من الصيغة الإخبارية، كما دأبت على مراجعة المعارض والمناسبات الفنية العربية في أوروبا مقتربا قدر الإمكان من الرؤية الأوروبية لتلك العروض، أي إنني أحاول أن أتصور الكيفية التي يرانا بها الأوروبي وتقييمه لفنوننا.

لكن الكتابة كثيرا ما أخذتني بعيدا عن الرسم والإنتاج الفني لذلك فقد كنت أحاول حصرها بما هو ضروري جدا رغم أنها كانت حافزا لي على المتابعة ومعرفة الجديد.

***

مثل عاصفة عبرت السقيفة التي احتمي بها، ها أنا ذا أبحث في بقايا عيدان القصب عن أثر يعود إليَّ. أذكر أني سجلت على ورق بعضا من ظنوني ومخاوفي وصورا لسعاداتي. رسمت وجوها غريبة تتسلل من ثقوب نومي وأخرى أعرفها ولا أعرفها تقطع علي دروبي وتمشي معي نحو حافة الرمل. رسمت أشجارا مزهرة في بستان بعيد تحيط بها أشجار محترقة. رأيت طيورا، عناكب، أسماكا، وعقارب من معدن مسموم تنام على رفوف كتبي، فحبستها على ورق، وخرجت بها إلى ظل نخلة وغفونا معا. رسمت أصحابي الذين رحلوا والبيوت التي جلسنا تحت شجيراتها نشرب كؤوسا من وهْمٍ ونلتذذ بعناقيد الملح المدلاة، لكن العاصفة التي عبرت السقيفة أخذت معها الأوراق واللذاذات الصغيرات.

أعرف أنها رسوم عن تذكارات عبرت شبّاكي المفتوح مع تراب العاصفة الأخيرة. قلت لا بأس فلتكن بداية جديدة أخرى، ولأسمّها “حافة ضوء” ولا أسميها “صورة العاصفة”. ولكن لماذا يقترب الرسامون من الأوار حد احتراق أصابعهم؟ لماذا لا يتجنبون جمرة عذاب الآخر؟ ولماذا يرسمون الشجرة اليابسة وتسكن أرواحهم الصرخات؟

الرسامون أبناء الله الذين يلمُّون الأذى عن دروب العصافير بقماشاتهم وأوراقهم ويدفنونه في قلوبهم. يصنع الرسام من روحة التائهة زورقا ويحلم أن يحمل أرواحا تائهة أخرى إلى الضفة البعيدة.

ظننت أن ما رسمته مختلف هذه المرة عما اعتدت عليه، متفرد، جديد، لكني وجدت وأنا أعدّ تلك الوريقات لكي أعلقها على هذا الجدار، أنها تشبه كثيرا تلك التي بعثرتها الريح مرارا، ليس لأني اعتدت على الأداء بطريقة محددة بل لأن الزمن الذي اخترقها هو ذات الأزمان التي عبرت بي وملأت وريقاتي وعادت تبعثرها.

وبينما ننظر الآن مبتسمين إلى سجل الخراب هذا، سجل الأحلام، سجل الوهم والضوء البارد، نسأل كما أمهاتنا وجداتنا متى يا رب ستحمل رحمتك ما سوف لن نسميه ريحا صفصفا، بل ريح صبا، لا أذى ولا خسارات، عندها يستعيد الرسامون قلوبهم خفيفة تلعب بالضوء.

 

تمارين في اليأس

يجلس الغريب في الشرفة، يحدق في المنظر الذي أمامه، بيوت وأشجار، نوافذ وعربات، مداخن وأشخاص وغير ذلك، فتأخذ عملية رسم المشهد وجوها عدة، أحدها الرغبة في الدخول إلى المشهد والاتحاد به. وبمقدار الفشل – أي بمقدار الإحساس بالغربة – بمقدار ما تتحول المدينة إلى صورة المدينة، وتصير الشرفة إطارا. هذا منظر لا سبيل إلى الدخول فيه، يبدو من شدة عصيانه افتراضيا ومختلقا، هنا لا تصلح أسطورة الرسام الصيني الذي رسم دربا وسلكه إلى قريته الآمنة، هنا تنقطع الطرقات ولا يبقى للرسام سوى اجتراح علاقة متخيلة مع وحدات المنظر المبسوط أمام الشرفة، وقد لا يجد حينها سوى تمثلات حالته الداخلية.

هذه محاولات في الطريق إلى الرسم عن تمارين اليأس التي أمارسها خارج اللوحة.

منذ مرحلة مبكرة من حياتي الفنية كنت أكثر ميلا إلى التحديق في الجانب المظلل للشجرة أو الكرسي أو الجسد من الجانب المغمور بالضوء، وأنقاد بيسر إلى التراجيديا التي أجد فيها طمأنينة، لا لأنها تطهير للنفس بل لأنها البلوى التي توقظ الحواس وتفتح للوعي سبله السرية، كنت أكثر ميلا للتحديق في الانفعالات الباطنية والقوى المحركة الغامضة والنوازع غير المدركة.

لكنّ لاختيار الموضوع جانبا إضافيا وهو أنني صرت أدعو جهارا وباقتناع للتصالح مع اليأس، أدعو إلى التوقف قليلا والنظر إلى الوراء، إلى هذا الذي بقيت لأربعين عاما في سباق معه، أهرب منه على أمل الإفلات، متراكضا قبله ودافعا إياه إلى الخلف.

الآن وقد وصلت إلى الاستدارة الأخيرة، إلى آخر انحناءة قبل أن تنتهي أزقة القرية ويبدأ فراغ البرية المجهول، صرت أراود نفسي على الالتفات إلى هذا الذي يلهث خلفي وانتظار وصوله، أصالحه وأجلس إليه وأشرب كأسه، وعن طريق الرسم صرت أكتشف فيه جوانب حميمة لم أكن حتى أتخيل  وجودها فيه. فظلّه صار يغمر مسرى خطاي وأنفاسه تملأ عليّ حواسي ولا أجد رفيقا غيره لاجتياز المفازة المترقبة.

كان موضوع لوحتي دائما مزيجا من الأفكار والعواطف، ولأن عواطفي وانفعالاتي أكبر بكثير من قدرتي على مداراتها وتدبيرها، احتجت دائما إلى أداة تنفيذ سريعة جعلت لوحتي تبدو أحيانا كثيرة وكأنها لازالت في طور الاكتمال لم تخرج عن التخطيط الأولي. مادتي هنا هي الفحم الذي يجري وكأنه جزء من الأصابع فأنت ترسم بجسدك مباشرة، ثم إنه يحمل معنى الزوال أو اللااستمرار، والعلامة التي تتركها اليد ليست نهائية وبالإمكان التراجع عنها، الأمر الذي يلامس ويطمئن بعضا من هواجسي  مع اللوحة.

قد تنبثق مادة اليأس في أي شكل وأثناء العمل على موضوعات مختلفة، فالطير أو الجسر أو المرأة ليست مقصودة بذاتها، إنها وسيلة للعمل، وكذلك الأشجار، صديقتي الأثيرة التي ألتقط صورها أو أجمعها من هنا وهناك، فهي لا تحمل طبيعة خاصة تؤهلها لإيصال فكرة أو هاجس أو انفعال معين، هي الحاوية والهلام الذي أتحرك فيه أثناء مقاربة الغربة أو اليأس، أتآمر معها، فنبتكر وسائل ودروبا جديدة خاصة بنا، من أجل أن نكشف عمّا لا يراه غيرنا.

سوى أن دروبنا تمّحي أحيانا أو تتحول إلى متاهات توصلنا إلى فراغ أو هاوية.

لكن كيف يرسم الرسام عن موضوع معين؟ – اليأس والغربة في حالتي هنا – والجواب يكاد يكون عسيرا، قد أكتفي بجزء من لحاء الشجرة أو درفة نافذة، أبدا بتعلم رسم الزهور على طريقة رسامي الأراضي المنخفضة أو أن أصير سرياليا وأترك ما أنا فيه.

وبعد فحتى محاولتي هذه في التعريف بمسعاي تبدو لي عبثية وميؤوسا من قدرتها.

غاليري "أزاد"، فلورنسا 20 – 28 شباط/ فبراير 2010

لوحة: يوسف الناصر
لوحة: يوسف الناصر

تمارين في الغياب

قبل أيام من عودته الأخيرة إلى العراق واغتياله هناك، زارني كامل شياع في مرسمي في لندن بصورة مفاجئة، كان بصحبته الصديق صفاء صنكور وكان الوقت ليلا وكنت لازلت أعمل، في زاوية قصية من المرسم كان الصديق حمادي قد وصل حديثا من بلجيكا يخربش على ورقة كبيرة منتظرا بفارع الصبر أن انتهي من عملي لكي نذهب إلى البار القريب. لم أكن أتوقع هذه الزيارة فكامل يقيم في بروكسل (بلجيكا) وكانت آخر مرة رأيته فيها حدثت بصورة غير متوقعة أيضا.

كنت قادما من دمشق مع فوزي كريم في شهر ديسمبر من سنة 2007 وكان علينا تبديل الطائرة في مطار بروكسل باتجاه لندن، عندما اعترضتنا شرطة الجوازات في ترانزيت المطار بسبب لحية فوزي الأبدية وصورتها في جواز سفره الجديد حيث اختلفت كثافة الشعر بين الاثنين وتغير لونها، أبقونا حتى أزف موعد إقلاع طائرتنا إلى لندن، وعندما تركونا، بعد أن تأكدوا أن لحية فوزي لم تكن من النوع المتفجر، كان لا بد من أن نهرول للحاق بطائرتنا.

اصطدم بنا كامل شياع الذي كان يهرول بالاتجاه المعاكس عائدا من بغداد، لم يتسع لنا الوقت للحديث، تبادلنا جملا أو أنصاف جمل سريعة، كيف الأحوال، إلى أين أنت متجه، أين كنت، قال إنه عائد للتو من بغداد وإن طائرته تأخرت هي الأخرى وإنه يريد اللحاق بابنه الذي ربما لازال ينتظره في قاعة الاستقبال، وقال إنه عاد فقط لرؤية ابنه قبل أن يرجع إلى العراق مرة أخرى. قابلناه على عجل بعد أن وعد بزيارتنا في لندن في المستقبل القريب وركضنا كل في طريقه. لكنني وفوزي أمضينا وقتا نتحدث عن كامل واختياره (الخطر) ونحن في الطائرة.

لم تكن الأمور قد اتضحت بعد في العراق، كان خوفنا على كامل هاجس حديثنا رغم أننا كنا نرى في عمله في العراق خطوة شجاعة واختيارا صادقا ينبع من روحه النبيلة وانحيازه للإنسان وفلسفته في الحياة ومواقفة السياسية المعروفة، لكني، ورغم أنني كنت أدرك أن كامل كان يؤدي دورا وطنيا لن أتردد أنا في تلبيته، كنت أقول لفوزي إن كامل وضع قدما في المجهول الخطر، لم تكن تلك نبوءة أو إدراكا خارقا للمستقبل بل محصلة بسيطة لمتابعة ما كان يجري في العراق وأيضا بسبب من طبيعتي القلقة وميلي الدائم إلى رؤية الجزء الفارغ من الكأس، ربما بسبب من رحلة حياتي المضطربة.

هذا الوسواس هو الذي شجعني تلك الليلة أن أطلب من كامل صراحة ألاّ يعود إلى العراق، رغم أن طبيعة صداقتي معه لم تكن لتتسع لمثل ذلك الطلب، غير أن رد كامل الذي بدى لي حينها حكيما ومتفائلا جعلني أشعر أن طلبي إنما صدر عن روح مترددة خائفة تحاول أن تقف بموازاة روح كامل المقدامة الرحبة. كنت قلقا ومشتت الذهن وأشعر بنوع من عدم الرضا تتجاذبني فكرتان متناقضتان، فمرة أعزو سبب تشتتي وانفعالي لـ”عجز” كامل عن إدراك حقيقة الوضع ومجانية تعريض نفسه للخطر وذلك بالرغم من ذكائه المعروف عنه، ومرة أرى أنني بطلبي ذاك إنما أحاول أن أحرم الناس والبلاد من طاقة كبيرة وعقل نادر هم أحوج ما يكونون إلى مثلها.

تحدثنا كثيرا وشربنا كأسا، ولكي أصل إلى تفاصيل البدء بلوحة “تمارين في الغياب” التي رسمتها عن كامل والتي أعتبره راسمها الأصلي، لا بد من استعارة بعض تفاصيل المقدمة المرفقة بهذه الورقة، إذ كنت نشرت قبل أيام قماشة كبيرة على الجدار المقابل للبدء بلوحة جديدة، طرق كامل الباب بينما كنت أضع ضربات الفرشاة الأولى عليها (تركت تلك الضربات إلى اليوم كما هي في الزاوية اليمنى السفلى باللون الأبيض)، وأثناء حديثنا طلبت من كامل مازحا أن ألتقط بعض الصور لليلتنا النادرة تلك ومن أجل ملصقات المستقبل!، وقبل أن يودعنا مغادرا سألته أن يكتب شيئا على قماشة اللوحة فاعترض مخافة أن يضر ذلك مشروع الرسم، فشرحت له أن فكرة لوحتي هي أن يكتب أصدقائي ومعارفي وزواري شيئا حتى تغطي الكتابة سطح اللوحة فأقوم بعدها برسم أشكال محددة فوق الكتابة، جاعلا منها أرضية للرسم. بعد أيام وصلنا خبر اغتيال كامل في بغداد، لم أستطع الإيفاء بوعدي، تركت القماشة لأسابيع طويلة، تواجهني كلما دخلت المرسم وتعيش معي يومي كله، بيضاء شاسعة، مخيفة، خالية سوى من القليل ألذي كُتب عليها وجملة كامل في الوسط وبضع ضربات بيض في الزاوية. ما الذي عساي أن أصنع بهذه المفازة المحرقة، ما الذي يستطيع الرسام، أيّ رسام، أن يفعل؟

لم أجرؤ أن أغطي كلمات كامل وأجعلها جزءا من أرضية اللوحة، ما يعني أن أمحوها ولو جزئيا، ولم أفكر أن أترك تلك الجملة لوحدها مثل جزيرة معذِّبة في وسط اللوحة. فكرت في طي القماشة وركنها جانبا بكل ما تنطوي عليه من شجون، لكني لم أشأ ترك الموضوع الذي كان يوازي عندي التخلي عن الصديق القتيل، ففكرت أن أجعل من تلك “الجزيرة” بداية لعمل فني يختلف عمّا ألفته في أعمالي الفنية، أن أكتب قصة تلك اللوحة وقصة كامل وربما قصة بلادنا، لوحة كتابة وبدون رسم! أيُّ مفاجأة لنفسي هي تلك أن “أرسم” لوحة كتابة، أنا الذي دأبت على رسم لوحات لا علاقة للكتابة بها على مدى علاقتي الطويلة بالرسم، وتجنبت كل ما يتعلق بالحروف والحروفية وما سبقها ولحق بها من تنظير وممارسات. ربما تمنيت أن يكون في تلك التجربة الجديدة بعض سلوى تنسيني الأسى الذي كنت فيه.

وضعت خطة بسيطة للعمل وابتدأت في اليوم التالي، دخل صديق وسألني عن اللوحة الجديدة فشرحت له الأمر، تمنى مازحا لو كان يستطيع أن يضع بضع كلمات إلى جانب سطري كامل، لم أر في الأمر غضاضة، لم لا؟ ليشترك الجميع معي في تقاسم الألم، هذا ألم كبير يكفي للجميع !

على مدى الأيام التالية صرت أطلب من زوّاري أن يكتبوا شيئا، أسرد لهم القصة وأقدم بضع ملاحظات عن المواد المستخدمة، وأترك لهم حرية الكتابة، أي شيء وبأي لغة شاؤوا. لكني سرعان ما أضفت عنصرا جديدا للعمل وهو أن أقوم بتصوير الضيوف وهم يكتبون، وأن أصور ما كتبوا، وأن أعلق تلك الصور على الجدار إلى جانب اللوحة.

مع مرور الوقت بدأت اللوحة بالامتلاء وازداد عدد الصور فرأيت إدخالها في بناء اللوحة، أي أن تكون القماشة جزءا من اللوحة وليس اللوحة كلها. عرضت اللوحة في بروكسل في ذكرى كامل الأولى أو الثانية حسب ما أذكر، ليس باعتبارها لوحة منتهية بل مشروعا للاكتمال أثناء العرض، أردت أن أصنع لوحة لا تنتهي مادام سبب إنجازها قائما، أن يكون عرضها سببا لإكمالها والتفاعل معها. أردت لوحة حية لا تهمد بانتهاء العمل فيها، كتبت نصا ووزعته على الحاضرين.

أنجزت تكوينا يشبه بيتا، إطار فقط، حبل سميك يشكل مخططا خارجيا لبيت، والقماشة تشغل أحد جدرانه والصور أماكن مختلفة من بقية الجدران، وذلك بمساعدة الأصدقاء رسمي كاظم وصلاح الحمداني وحمادي وحازم كمال الدين وآخرين، أضاف كثيرون كتاباتهم إلى اللوحة وصورت كثيرين منهم، وبعد انتهاء الأمسية التي تحدث فيها عدد من الأشخاص وشاركت بقراءة النص الذي كتبته عن مشروع اللوحة (مرفق مع ورقتي هذه)، خرج الناس من القاعة الكبيرة وأطفأت الأضواء في أماكن كثيرة منها سوى تلك المسلطة على اللوحة. وقفت على مبعدة في زاوية شبه مظلمة أرقبها وحيدة تحت الأضواء. فجأة دخل من باب جانبي شاب في مقتبل العمر، مشى بحذر نحو اللوحة، تطلع إلى اليمين واليسار، ربما لكي يتأكد من خلوّ القاعة من الناس، بحث عن قلم وجلس على الأرض وبدأ يكتب في أسفل جزء من وسط القماشة، كان يتوقف بين حركة من قلمه وأخرى ويطرق ببصره نحو الأرض، هل كان يتذكر شيئا، أم كان قلقا في ما يجب عليه اختياره من كلمات؟ كان يكتب بيد ويلامس بالأخرى سطح القماشة وكانه يبحث عن شيء ما، حركته ذكرتني بحركات زوار ضريح مقدس، حيث يقتربون من حيطانه ونوافذه، يتحسسونها ويتشممونها وقد يقبلونها. وضع القلم جانبا وأطرق قليلا (هل كان يتأكد من صحة ما كتبه ومن احتمال وصول رسالته؟)، نهض ومشى بضع خطوات نحو الباب الذي دخل منه، توقف قليلا وكأنه يريد العودة إلى القماشة، لكنه أكمل طريقة وحيدا مثلما دخل، كان ذلك هو الولد الذي كان كامل يهرع للقاء به في مطار بروكسل قبل عام، ابنه.

بقيت طوال حياتي كرسام أتوق لأن أقيم معرضا لي في العراق، وبعد 37 سنة من المنفى أتيح لي جزء من فرصة، أن أعرض بضع لوحات في البصرة على هامش مهرجان المربد سنة 2012، فاكتفيت بلوحة كامل التي أسميتها “تمارين في الغياب”، وهناك أيضا طلبت من الحضور أن يكتبوا وصورت من كتب. فهل أتوقف الآن، هل اكتملت اللوحة؟

فيما يلي النص الذي أرفقته باللوحة والذي أشرت إليه أعلاه:

نص مرفق

ساهم كامل شياع في هذه اللوحة، لكنها عن غيابه.

كتب فيها، لكنها لوحتي عنه.

حكاية استكتبت لها كثيرين من أجل مؤانسته في دربه الموحش (وربما السعيد). فهي منه وهي له، تقلّبُ في أوجاعه وفي سفره العجيب، ومعنى غيابه.

ولا أجد معنى هنا للسؤال إذا ما كان كامل قد كتب وداعا لنا ولنفسه، فهو لم يكن مبتئسا وهو يكتب أنه سيغادر إلى بغداد ولم يكن قلقا أو مضطربا كما يُتَوقّع من مقبلٍ على رحلة بهذه الجسامة، لم يكن في غير صورته المتكرّسة فينا جميعا التي هي مزيج فريد من السلام والتفاؤل والتواضع.

غير أن يدي امتدت بارتباك وحياء إلى الكاميرا…

تنبه إلى يدي الممتدة فنظر إليّ بابتسامته الأليفة كمن ينتظر جوابا على تلك الحركة الملغزة فما وجدت جوابا غير أن اذهب إلى أقصى الجواب متهكما مازحا علنّي أقلل من فداحته:

قد يقتلونك يا كامل! ألا تريد ملصقا؟

فأعانتني قهقهات الأصدقاء على رفع غطاء العدسة، لكن ابتسامته الموافقة، التي لمحتها بطرف عيني متعمدا ألا أنظر في عينيه مباشرة، بدت لي وكأنها ترتسم من خلال غيمة صغيرة، أو كأنها ابتسامة في تخطيط أرسمه أحيانا بأصابع معفرة بالفحم.

لم أكن أعلم أنني أحدثه لآخر مرة وأصوره لآخر مرة وأصافحه لآخر مرة، وكيف لي أن أعلم؟

لكني أتساءل إن كان لتلك الوخزة في قلبي تلك الليلة أيّ صلة بالأمر.

كنت قد بدأت لوحة جديدة في مشغلي في منطقة إيلنغ في لندن.

كانت القماشة مشدودة عندما دخل كامل ليلا على غير توقع، فهو لا يعيش في لندن أصلا.

كتب على اللوحة إنه ذاهب إلى بغداد و صوّرته وهو يكتب. بعد أن سمعت خبر موته غيرت اتجاه اللوحة وصرت أطلب من كل من يحضر أن يكتب شيئا بعد أن أخبره بقصة كامل، شيء يخطر في باله للتو عن حياته ربما، عن معنى الموت، والتقطت صورا لكثيرين وهم يكتبون، تخليت عن فكرتي الأولى في جعل الكتابة أرضية للرسم، ثم كتبت مقاطع كبيرة من رحلة الحياة والموت في ملحمة كلكامش وأكبر منها من نصوص أخرى بينها الإسراء والمعراج وقصائد عن ذات الموضوع.

كانت النتيجة لوحة كتابة لم “أرسم” مثلها من قبل وتختلف كثيرا عن طريقتي في الرسم…فالذي ينظر إلى أعمالي الفنية الأخرى سيجد أنني لست منتجا لهذا النوع من الفن.

هذا عمل جديد، فرض كامل عليّ شكله ومنتهاه بموته.

سوى أنني أقرر الآن بقلب مطمئن أننا اخترناه معا!

هل حسم موت كامل ترددي باتجاه هكذا نوع من العمل الفني مثلما حسم ترددي باتجاه أسئلة ومواقف عديدة في حياتي وعلاقاتي، ليس أقلها موقع الماضي في وجداني ومعنى ارتباطي بالمكان وصلتي مع العراق وغير ذلك؟ هل كان هذا هو الباب الأنسب للولوج إلى هذا الركام الهائل من الأسئلة المؤجلة والأفكار والأحلام والهواجس والتصورات؟ وهل كان هذا هو الحد الذي تقف عنده الروح ويقف عنده العقل ويقسمان دنيا المرء إلى ما قبل وما بعد؟

لا أدري!

هل كان بمقدوري أن أتحدث عن موت كامل بالكلمات القديمة ذاتها؟ لكني لم أقصد إلى الحديث بأيّ نوع محدد من اللغة، ذلك أن هول الفاجعة اتخذ طريقه وأملى شكل ظهوره على قماشتي..

لوحة كتابة إلى جانب تكوين من صور فوتوغرافية يتصل بها بخيط سري من ألم الموت والإحساس بالمرارة والسخرية من لاجدوى الأشياء والأفكار..

كلمات وصور أشخاص ما كنت لأصورهم لو لم أكن صورت كامل وهو يكتب سطوره الأخيرة.

 

نعم هذه الأنصاب مفيدة أيضاً !

إلى الصديق خالد خضير الصالحي

أخي خالد، لم تسعفنا خدمة الإنترنت يوم أمس في إكمال حديثنا والذي كان متقطعا وصعبا تقنيا، لكني مع ذلك أشكر لك روحك البناءة إذ نشرت خلاصة له على صفحة الفيسبوك، أحاول هنا أن أُكمل ما لم أستطع إيصاله لك يوم أمس.

كنت أود القول إن من واجبنا الحفاظ على الأنصاب التي بدأت تنتشر في ساحات العراق والتي أثارت الكثير من الاستغراب والاستهجان وخصوصا بين المهتمين بالفن والفنانين والمثقفين عموما، وذلك لتهافتها ورداءتها وانحدارها إلى درجة غير مسبوقة من الانحطاط، ليس في تاريخ العراق فقط، بل أستطيع القول دون حذر كبير، وفي تاريخ العالم كله، إلا في ظروف خاصة جدا ولغايات محددة.

أظن أن من واجبنا الآن أن نحافظ على هذه الأنصاب، ليس فقط لإعتبارها شواهد على عصر الانحطاط الجديد (قد تشبه ظروف إنتاج الفن في ما اصطلح عليه بفن عصر الانحطاط)، ولكن أيضا لقيمتها “الفنية” الخالصة.

قد يبدو كلامي هذا غريبا بعض الشيء !

أتحدث أحيانا في مناسبات فنية وتجمعات لمتخصصين أو جمهور عام، هنا في بريطانيا، عن الحالة المأساوية التي وصلت إليها بلادنا في مختلف مناحي الحياة، سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا، وأستحضر أمثلة أبسطها يثير استغراب مستمعيّ، لكني الآن سأجد في صور التماثيل موضوع حديثنا عونا ممتازا في الوصول إلى هدفي. ستكون هذه الأنصاب وسيلة فعالة وحجة في أيدي كل الذين يرفضون حكم أولاد الشوارع والرعاع والمافيات من أجل  إيضاح الحال التي أوصلوا إليها بلادنا أمام الرأي العام العالمي والمؤسسات الدولية، سياسية وإنسانية وثقافية.

هل تذكر الفصول المخصصة للحديث عمّا يسمى بالفترة المظلمة في مناهجنا الدراسية، حيث لم يجد واضعو المناهج تلك أمثلة أفضل لإفهامنا، نحن التلاميذ الصغار، معنى الانحطاط من بضع قصائد كُتبت في تلك الفترة، مثل قصيدة عن المخدة وأخرى عن السن المخلوع التي لازلت أذكر بعضا من أبياتها (وصاحب لا أمل الدهر صحبته….. يشقى لسعيي ويسعى سعي مجتهد)، من مثل ذلك سننشر في مستقبل ليس بعيدا صور الأنصاب موضع حديثنا للدلالة على فترة الانحطاط الحالية التي تمرّ بها بلادنا.

أنت تعرف بالتأكيد ما يسمى فن “الكيتش”، ومع الاختلاف بين المثالين لكني أجد نوعا من التقارب، يذهب الناس إلى مختلف متاحف العالم للاطلاع عليه ودراسته ليس فقط باعتباره شاهدا على بعض جوانب الانحطاط في حياتنا المعاصرة، وإنما لطبيعته الداخلية وجوهره المتميز، والحال أننا نشهد الآن ظهور أو تبلور “فن” متميز، مختلف، وجديد، لا يشبه غيره ولا يبني على منجز غيره، وكأن رسام الكهوف العراقي الجديد لم يدخل كهفا آخر ليرى ما رسمه الآخرون على جدرانه.

قد يبدو كلامي هذا منطويا على شيء من السخرية، لم أقصد ذلك رغم أن هذا هو واقع الحال، فإذا كان الفن الذي ينتجه فنانو العراق الذين درسوا الفن وتعلموه عن حياتهم وأحوالهم ومختلف شؤونهم وما يمكن أن يُنتج الفن من أجله، وليد المعايشة والخبرة والدراسة، فإن “الفن” الجديد نتاج مباشر، دون علم أو معرفة أو دراسة، لحياة وظروف منتجيه الجدد هؤلاء ومستوى درايتهم ووعيهم بما يحيط بهم، أي أنها انعكاسٌ صافٍ، “خام وتلقائي” دون أي مؤثرات أخرى، وهو لذلك صورة صادقة ونقية للظروف التي يعيشها منتجوه ومقدار ونوعية فهمهم  لها، وهذا بالذات ما سيجعل من هذا “الفن” حقلا جديدا للبحث والدراسة والمتعة أيضا.

ستقول لي إن هذه الأنصاب موجودة في شوارعنا وساحاتنا وتساهم يوميا في الإساءة إلى حياتنا الثقافية وأذواقنا وحتى أعصابنا، نعم أتفق معك، وأضيف أنني كلما رأيت صورة أحدها أتصور أن هناك من يمد لي لسانه معيبا وشامتا ومذكرا لي بخساراتي وهزيمتي أمام المشروع الظلامي الذي غزا حياتنا، إلاّ إذا استعملنا سلاح الشعوب المجرب، وهو سلاح السخرية القادر على تجريدها من قوتها التخريبيّة وإفشال وقاحتها وتهافتها بل وإيجاد منافع لها، وإذا استطعنا أن نرى فيها حقيقة كونها عيوب وآثام وجرائم كشفها لنا أولاد الشوارع والمافيات عن أنفسهم، هذه شهادات منهم ضدهم، اعترافات تكشف طبيعتهم وأخلاقهم وطرق تفكيرهم، فلماذا نخفيها ونتستر عليهم؟ تصور لو أنهم صنعوا أنصابا جميلة على أيدي فنانين محترفين وزينوا مدن العراق واستمروا بالسرقة والقتل والتخريب وتجارة المخدرات وغيرها، ألا يجعل ذلك مهمة الوطنيين المخلصين للعراق صعبة جدا؟ ألم يفعلها النظام السابق بتلك الطريقة؟ حسنا إذن فلنرحب بأنصاب التخلف والعمى وفن “الكيتش العراقي”. واعذرني على الإطالة.

لوحة: يوسف الناصر
لوحة: يوسف الناصر

الحرب التي عذبت روحك

1

ما الذي تفعله بتذكار من الحرب، تلك التي آلمتك وعذبت روحك ولا تزال مرارتها في نفسك بعد كل تلك السنين؟ أسال نفسي كلما وقعت عيني على المحفظة الزرقاء الصغيرة في جيب قميصي (لم أجد مكانا أخفيها فيه كل هذه السنوات غير طيات ملابسي)، كلما وقعت عيني عليها تذكرت كف يده اليمنى تزحف ببطء فوق بقعة دم كبيرة غمرت مقدم صدره وجانبيه، ونزّت من خلال نسيج قميصه فالتصقت أجزاء من القميص بجلده الشاحب اللون. تذكرت إصبعيه المسودين المرتجفين يحاولان فتح زر الجيب الأيسر لقميصه العسكري. لكن أكثر ما سكن روحي وصار كناية عن مرارة تلك الأيام وقسوتها فيما بعد هو خيط الدم الرفيع الذي تسلل من تحت فتحة القميص باتجاه الرقبة وتيبست مقدمته قطرةً صغيرةً في نقرة الترقوة.

كنت أراقبه دون أن أحاول مساعدته. كانت عيناي تنتقلان بين إشارات الألم على وجهه وبين إصبعيه المرتجفين مثل جرادتين. لم تكن تلك الإشارات توحي بأكثر من الألم نفسه: ألمٌ صافٍ، لا غضب، لا حزن، ولا مرارة. ألمٌ لا يطلب المواساة . المٌ بسيطٌ وعادي كما يجب أن يكون عليه الألم. كانت يده تتحرك وكأنها تقوم بفعل لا إرادي سبق وأن قامت به مرات كثيرة. كان يتألم، ولكن فقط بسبب عطل طارئ في جسده. ينظر في عيني بين فترة وأخرى لا لشيء سوى ليرى أنني لازلت واقفا قرب سريره المرتجل.

كان ذلك في أواخر شهر حزيران من سنة 1982. اجتاح الجيش الإسرائيلي الأراضي اللبنانية ووصل إلى مشارف بيروت العاصمة. قاوم الفلسطينيون واللبنانيون ببسالة في ظل اختلال هائل في ميزان القوة لصالح الجيش الإسرائيلي. استمر القصف على بيروت المحاصرة أسابيع طويلة وكانت القنابل تتساقط عليها من كل الجهات، من الجو والبحر والبر. وفوق ذلك قطع الإسرائيليون كل مقومات الحياة، الماء، الكهرباء، الطعام والدواء. مات ناس كثيرون وهدمت أحياء بكاملها. قصفت المدارس والمستشفيات والأسواق. سدت الطرق بالعربات المحترقة وسقطت بنايات على ساكنيها واحترقت البيوت الفقيرة ومخيمات اللاجئين. هرب الناس إلى كل مكان وامتلأت الشوارع بالهاربين والذين فقدوا بيوتهم.

كنت أعمل رساما ومصمما لعدد من  الصحف والمجلات الفلسطينية. رسمت الكثير من البوسترات عن الحرب وعذاب الناس فيها. لكني الآن في الحرب التي كنت أرسمها. بدا الرسم لي شيئا لا صلة له بالواقع. هنا تدور لعبة حياة وموت حقيقية. ليس القتيل مجموعة خطوط وألوان تتقنها بالتمرين، بل جسدٌ حقيقيٌ مدمى ومهشم، وليس البيت المهدوم  سطوحا من ظلال ونور، بل ركام حزين تحوّل الرسمُ معه إلى شيء غير مفهوم.

2

من النافذة رأيت بضعة أطفال وأمهاتهم يجلسون على الرصيف المقابل بين أنواع من الأمتعة والأغراض لا أسماء لها، بعضهم ينام بهدوء في حضن أمه. وأنا الرسام المولع بالتفاصيل تذكرت أستاذ درس الإنشاء في أكاديمية الفنون ببغداد. كان شديد الحرص على اختصار تفاصيل المشهد، (نحن نرسم صورة الحقل، لا نزرعه، لماذا كل هذه التفاصيل؟) كان يقول لي. أما أستاذي في درس التخطيط فقد وقف خلف ظهري مذهولا مرة من تعقيد تفاصيل طيات ملابس الموديل في لوحتي، (ما كنت أعرف أن لديك ميكرسكوبا بدل عينيك العسليتين) قال ساخرا. لم أكن لأنسى، وإلى اليوم، أستاذيَّ الجليلين وأنا أرسم لوحة، لكن ما كنت أراه من النافذة ليست تفاصيل لوحة أرسمها وإنما عناصر حاسمة في مشهد واقعة هائلة يفقد إنشاء اللوحة هويته دونها، عناصر تؤسس لإنشاء من نوع آخر يدخل في تلافيف الروح ويشكل موقفها من الحياة. كان لا بد من فعل مباشر. تطوعت للمساعدة في جمعية الهلال الأحمر.

بدأ اللبنانيون والفلسطينيون باستحداث مستشفيات ميدانية داخل المدينة المحاصرة، بديلة للمستشفيات الثابتة التي قصفها الإسرائيليون. اقتادني مسعف إلى بناية سكنية مهجورة تحولت إلى مستشفى في أحد فروع شارع الحمرا وسط بيروت. كانت البناية قديمة وغير  مهيأة لدور المستشفى، فبدت مع فوضى الحرب والاستعجال مثل سوق شعبي أو مخيم كشافة.

في المدخل استقبلني طبيب فلسطيني جهم، كان قصيرا بلحية نابتة وعينين مجهدتين وكأنه لم ينم ليال طويلة. “نحن لا نعطي طعاما للمتطوعين”، قال لي باشمئزاز. لا بد وأن جائعين مروا عليه بصفة متطوعين من قبل.

كانت مهمتي الأولى أن أحمل جريحا الى الطابق الثالث. كان هذا شابا مقاتلا يعمل على مدفع رشاش مقاوم للطائرات. أصابت قذيفة الطائرة موقعه، تحطم سلاحه وأصيب جسده بشظايا كثيرة، وخصوصا صدره. لم يكن حمله سهلا. كان أثقل مني وأطول قامة. لم أكن أعرف ولم يخبرني أحد كيف أحمل جريحا ينزف من كل جسده. كان الجميع يتراكضون ويتصايحون. فكرت أن أحمله على كتفي كما في الأفلام فلم أعرف كيف أوقفه بينما كان ممددا على الأرض في نقالته المفبركة، فانحنيت لكي أحمله من كتفيه فتأوه بشدة من الألم.

الآن نحن في الطابق الثالث. على الرغم من ارتباكي من دوري الجديد، وخوفي من إيذائه، ومن الدم الذي يغطي ملابسه، استطعت بعد محاولات عديدة وبمساعدة متطوع آخر أن أوصله إلى هناك. ألقيته وزميلي على سرير خشبي أعد على عجل ووقفت ألهث إلى جانبه. أحسست بإرهاق شديد وعطش أشد (لم يكن المستشفى يوفر الماء للمتطوعين، كان الماء شحيحا ويعطى للجرحى فقط وربما للأطباء)، لكن يبدو أن جريحنا عانى أكثر مني في رحلة النقل هذه.

3

لم يشكرني، ولم أنتظر ذلك منه فقد كان متألما ومرهقا ليس من جروحه فقط بل من طريقتي في حملة، لكنه مع ذلك لم يفقد ما كان يبدو أنه طابع شخصيته، وذلك ما عرفته عنه أكثر فيما بعد من أصدقائه، روح السخرية المرة والتهكم.  فقد كان رغم ألمه وصوته اللاهث المتقطع  يسخر من حالتنا ومستشفانا وعدتنا البدائية، وخصص مقاطع طويلة من لهاثه للسخرية من طريقتي في حمله (شو فاكرني كيس يا زلمة).

أنا اقف إلى جانب السرير أحاول الابتسام بوجهه، وهو ينظر إليّ بشفقة واضحة. استغرقني صوت تنفسه الصعب ومنظر الدم اليابس والنقاط التي ينز منها دم طري مثل ينابيع صغيرات. ورحت أتتبع انتشار الثقوب السوداء الكثيرة على الأجزاء المكشوفة من جسده، انحدر ببطء من رقبته إلى جزء من كتفه فذراعه وأصابعه التي ترتجف بين الحين والآخر وكأن تيارا مباغتا يسري فيها. لكني استفقت على صوته يطلب مني أن أعطيه سيكارة ليدخنها. قلت بعد أن استوعبت الصدمة: اسأل الطبيب. سمعت صوتاً أنثوياً عن يميني. التفت فرأيت امرأة في روب الأطباء تقف في فتحة الباب، لم أر نساء كثيرات بمثل هذا الجمال من قبل. قالت بلهجة عراقية آمرة: التدخين ممنوع، أنت جريح وتحتاج علاج مو دخان.

دوختني المفارقة، عن يميني العراقية الجميلة وعن يساري  كل هذا الخراب والدم والصراخ، وبقيت أراقب بصمت الجدال بين الطرفين. المريض، بصوته الضعيف المتقطع وسخريته المرّة، والطبيبة وزميلها الفلسطيني الذي جاء لمساعدتها. أعطني أنت سيكارة، قال لي، أعرف أنك مدخن. قلت لكي أتخلص من الإحراج – الطبيبان يحدقان بي -: ليس معي دخان. “إذا دخنت سيخرج الدخان من ثقوب صدرك”، قالت الطبيبة. “وما الفرق؟”، قال المريض، “فليخرج من أيّ مكان يشاء، أنا ميت على كل حال”. لم يكن لدى الأطباء الكثير من الوقت ليتجادلوا طويلا مع مريض واحد. “أعطوه سيكارة”، قال الطبيب ومضى إلى جهة أخرى وهو يتمتم بكلمات غير واضحة. لم تقل الطبيبة شيئا واتجهت إلى سرير آخر في الغرفة المجاورة.

بقيت مع (مريضي) وحدنا في الغرفة. كنت ما أزال واقفا ومستندا إلى الجدار. نظر إليَّ وكأنه يقول  (ها، ماذا تقول الان؟ سمعت ما قاله الطبيب. أعطني سيكارتي إذن). لم أستطع تغيير قصتي فأبدو كاذبا في نظره، قلت وكأنني أعتذر منه، لا دخان معي. انتبهت إلى رحلة إصبعيه المسودين المرتجفين باتجاه جيبه الأيسر. نظرت بعيدا لكي أتجنب حصار عينيه النافذتين، حاولت الخروج من المكان فبدت محاولتي سخيفة وكأنني أتجنبه وأتركه وحيدا. عدت لموضعي لكي تواجهني يده الممدودة بعملة ورقية منقوعة بالدم. هذه 15 ليرة اشتر لي بها عشر علب دخان.

4

فاجأتني الفكرة، بل ربما أخافتني قليلا خصوصا مع يده الممدودة نحوي وأصابعه المرتجفة بالورقة المدماة. احترت كيف أرد عليه. لم أشأ أخذ النقود. قلت سأشتري له علبة دخان بنقودي (كان سعرها أكثر من ليرة بقليل) قال لا، سيرفض أن يدخن من غير نقوده، ثم إنه يريد “كروس” دخان أي عشر علب وليس واحدة “تذكّر قد تنتفي حاجتي لأيّ نقود قريبا”، قال وهو يبتسم. لم أجد حلا أمام إصراره سوى أن آخذ النقود، فالتقطتها بطرف أصابعي وخرجت.

لم أفكر، طبعا، بشراء الدخان بتلك النقود، فمن سيبيعني بقطعتي نقد مدميتين. وضعتها في جيبي واشتريت له كروس “مارلبورو لايت” كما أوصاني.

قطعة من عشرة ليرات وبداخلها أخرى من فئة الخمسة. الأولى حمراء بنية والأخرى خضراء. كانتا جديدتين إذ يبدو أنه استلم راتبه للتو. مطويتان مرتين بعناية بما يجعل لكل منهما أربعة مستطيلات صغيرات من كل جهة. وإذا حاولت بسطهما فستجد زخرفا موحيا مصنوعا بدقة الصائغين. اخترقتهما الشظية في جزئهما الأعلى، قبل أن تمضي إلى صدره،  فتبلل الفسيفساء العربي بالدم.

تركت كل شيء خلفي في بيروت المحاصرة، بيتي ومرسمي، لوحاتي وكتبي وأوراقي، ممتلكاتي الصغيرة وملابسي وأشياء ابني وزوجتي وحتى صورنا وأوراقنا الشخصية، كل شيء. خرجت فقط بقميص خفيف وبنطال، حذاء صيفي، بضعة نقود وجواز سفر مزوَّر، وفي طية من البنطال خمس عشرة ليرة لبنانية معفرة بالدم.

لم يكن الشاب الذي حملته في المستشفى شخصا مميزا بين الأشخاص الذين التقيتهم ولم تكن إصابته أو ظروف لقائي به استثنائية في زمن الحرب، حيث لم تكن الجروح نادرة ولا الدم، فما الذي جعل تلك الوريقات حدا فاصلا بين زمنين شطرا حياتي؟

5

في الحاجز العسكري، الذي عبرته، لميليشيا “الكتائب اللبنانية”، وهي القوات المسيحية الموالية لإسرائيل، كانوا يقتلون الناس على طريقة تلفظهم لاسم نوع من الخضار أو لاسم طائر- كنت سمعت قبل ذلك اليوم بالقتل على الهوية -. هنا أطلقوا النار من مسافة قريبة جدا وقتلوا أصدقائي الذين عبروا بعدي، كان بينهم كاتب أغان ما نزال نردد كلمات أغانيه حتى اليوم كلما أمضّنا الحنين إلى بيوتنا القديمة. وبينهم مخرج مسرحي شاب كان يظن أن العالم بين يديه وأنه سيدخل الفرح من الباب الذي سيرسمه على المسرح. قضيت معه ليال طويلة تحت القصف الإسرائيلي وهو يرتل عليّ في الظلمة ما حفظه من مسرحية “عرس الدم” لغارسيا لوركا، ويحذرني من إشعال سيكارتي في عتمة الشرفة المفتوحة على فوهة قنّاص ما. إنه ليس موتا رائعا أن يطلق عليك الرصاص من مسافة بعيدة، كان يقول وكأنه يمثل في تراجيديا إغريقية. وبينهم المعماري الذي لم يجد ما يبنيه في المنفى فصار يبني بيوتا من أسلاك معدنية. لم يكن معي غير الوريقات المبلولات بالدم، كانت رؤيتها معي تكفي لإيقافي إلى الجدار المُثَقَّب.

في كل مرة أستعيد مقطعا من رحلتي تلك، أسال نفسي السؤال ذاته: لماذا وضعت حياة عائلتي وحياتي أمام خطر الموت المباشر من أجل خمس عشرة ليرة لم تكن تساوي في حينها أكثر من أربعة دولارات؟

وجدت أن الخروج من غيتو الكتائب هذا أصعب من الدخول اليه، فلكي تخرج إلى الحدود السورية لا بد من المرور بحاجز “البربارة” الرهيب الذي استحق اسمه، سخرية، من القديسة الشهيدة. هنا حيث يوقف الشخص على حافة الوادي السحيق وتطلق عليه النار قبل أن ينتهي من تلفظ اسمه (العدو). كانت رائحة الفلسطيني تكفي لقتله. في هذا المكان بالذات استطاع لبنان، كما يقال، أن ينقذ نوعا نادرا من النسور من الانقراض. فتشوا، وهم يحدقون في عيوننا وبنادقهم تتدلى من أكتافهم، مقتنياتنا البسيطة، ملابس الطفل والزوجة، قميصي وبنطالي. كنت أحمل معي دما فلسطينيا، كانت الليرات الخمس عشرة في طية حزامي هذه المرة.

كان عليّ قبل أن أغادر بيروت من خلال حواجز وأراضي “الكتائب اللبنانية” أن أتخلص من جواز سفري اللبناني المزور وأستعين بجواز السفر العراقي الذي انتهت صلاحيته منذ مدة. ولم يكن تمديد صلاحية الجواز (ذاتيا) معضلة في بيروت لتجنب الذهاب إلى المؤسسات العراقية في لبنان التي كانت تغتال وتخطف المعارضين العراقيين.

الآن خرجت من حاجز الغيتو (الكتائبي). توقف سائق السيارة التي أقلتني باتجاه الحدود السورية بعد مسافة قصيرة ونزل من السيارة، وهو ما يزال يرتجف رعباً،  وجثا على ركبتيه تحت شجرة على جانب الطريق وصلى شاكرا الرب على رأفته بنا، أما أنا فلم أكن قد خرجت بعد من حالة الخوف واليأس التام من النجاة، فلم أعر اهتماما كبيرا إلى أن جواز السفر العراقي غير مناسب تماما هناك في نقطة الحدود القادمة، فالعلاقات بين الحكومتين السورية والعراقية كانت سيئة جدا وكان كل منهما يستقبل معارضي الآخر، سوريا استقبلت آلافا من العراقيين. كان لا بد من إثبات معارضتي للنظام العراقي وذلك سيتطلب وقتا وتدقيقا استثنائيا في فوضى الحرب. اقتادني وعائلتي جندي سوري إلى معتقل قريب على الحدود.

فتشوني بدقة عند المدخل وأخذوا مني كل الأشياء البسيطة التي اشتريتها في الغيتو ومنها راديو ترانزستور صغير كنت أتابع به أخبار الحرب. خمسة أيام أمضيناها هناك خضعنا خلالها للتفتيش عدد من المرات، لكن الليرات الخمس عشرة بقيت في مأمن.

6

بعد ثلاث سنوات غادرت سوريا، ليس بأكثر من ملابسي التي ارتديها وحقيبة يد صغيرة. في طية من ملابسي الليرات التي تيبس دمها الآن وشحب لونه، وفي يدي جواز سفر يمني صالح لستة أشهر. بقيت ست سنوات في قبرص صار عندي بيت ومرسم وحياة شبه مرفهة لكن دون جواز سفر يمكن تجديده بصورة نظامية حتى تحتم عليّ في ليلة مّا أن أهرب بالطريقة القديمة ذاتها لكي أتفادى وبصعوبة الوقوع في أيدي مطارديَّ من الشرطة، وكالعادة تركت كل شيء وخرجت بملابسي الشخصية ولكن بحقيبة أثقل قليلا من سابقاتها. لم يفتشني النرويجيون ولم يدققوا كثيرا في جواز سفري المعدل هذه المرة بدقة عالية، هذه أول مرة منذ مغادرتي العراق لا يتم تفتيشي في مطار أجنبي، يا للجمال. تلمست قطعتي النقد السحريتين بسعادة وأنا جالس في مقعد السيارة باتجاه أوسلو العاصمة.

لم يدم الأمر أكثر من شهر وكان عليّ المغادرة. لم يكن البريطانيون عطوفين كالنرويجيين. فتشوا حتى ملابسي الداخلية وانتزعوا مني كل شيء، كل وثائقي وصوري الشخصية وأوراقي ودفتر قصائد وتخطيطات ولم يعيدوها أبدا. تركوا لي ملابسي الشخصية فقط. ووضعوني في سجن أربعة أيام. لم أحزن على شيء فقدته سابقا مثلما حزنت على أوراقي الخاصة، لكني كنت سعيدا وشامتا بمن سلبوها مني وأنا أتحسس الورقتين اللابدتين في طية بعيدة في معطفي بينما كنت خارجاً من قاعة المحكمة.

نسيت اسم الرجل الذي حملت نقوده سنوات طويلة لكني ما نسيت ألَمَهُ.

 

لندن في 21 يناير 2020

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.