كسر دائرة الدم

الجمعة 2016/04/01

أظن أن “لحظة الدّم” في التاريخ البشري هي لحظة تأسيسية. وهي بالتالي أبعد ما تكون عن حدث عابر. تخبرنا الأسطورة، من جهة، بحكاية قابيل وهابيل؛ ومن جهة أخرى فإن ما نعرفه من “وثائق” يشير إلى ما يشبه الحرب اليومية لتأمين استمرار النوع البشري الذي كان ما يزال يعيش في الكهوف. وأن تضطرّ إلى مواجهة وحوش كاسرة لتأمين غذائك، وبالتالي بقاء نوعك كله، يعني أن تعيش لحظات ممتدة لدم سال من كلا طرفي تلك المعركة. مع فارق أن أحد الطرفين كان يعود إلى كهفه ليرسم على جدرانه تلك “اللحظة” موصلًا إلينا “وثيقته” و”شهادته” عن تلك اللحظة بالذات.

وبعيدًا عن التساؤل عمّا كان يريده الإنسان الأوّل من خلال “وثيقته” تلك، فإن الوثيقة وصلت وتمّ تقبلها بصفتها، أي فعل التوثيق نفسه، واحدة من أقدم الممارسات التي درج عليها الإنسان، الذي تابع تطوير وسائل “التوثيق” منوّعًا فيها بطريقة صارت بدورها، تلك الوثائق، “إبداعًا” يحاول تقديم الإنسان، وحياته معه، بكامل “لحظاتها” بأفضل صورة ممكنة لمتلقّ وحيد هو الإنسان نفسه.

لحظة الدّم هي تكثيف لوجود عمّد بهذا الدّم، وعلى حساب أنواع أخرى ما كان لها أن تشارك الإنسان نفس الكوكب دون أن ترضخ لمشيئته هو بالذات دونًا عن البقية. حب الغلبة هذا، ونشوة الانتصار، كان لا بد لهما أن يأخذا صاحبهما إلى ما هو أبعد.. وهنا كان قابيل وهابيل.

تنوعت الكلمات في وصف حقيقة الإنسان وتميزه عن بقية “عبيده” من الكائنات التي تشاركه الكوكب. فهو تارة حيوان ناطق، وطورًا هو الوحيد من بين الكائنات الذي امتلك تلك المقدرة السحرية الفائقة التي اسمها “الخيال”، و.. و.. ولكن فكرة كونه “حيوان قاتل”، من أجل أهداف أخرى لا علاقة لها ببقاء النوع، بقيت على الهامش دائمًا بصفتها “طفرات” مثقفين متمردين ومعزولين في آن. القتل هنا ليس من أجل القتل فقط، فتلك حالة مرضية أصحابها يبدون بائسين وقليلي الحيلة أمام نوع آخر من القتل أشد فتكًا ومكرًا وإيلامًا، إنه القتل من أجل فرض السطوة على بشر آخرين.

“التوثيق” هنا، بشكل إبداعي أو بشكل مباشر، هو محاولة للفكاك من دائرة الدّم هذه عبر الدخول في تلك “اللحظة” وكشف كامل رهاناتها ودوافعها للوصول بالإنسان، قاتلًا كان أم ضحية، إلى مرحلة يصبح فيها قادرًا على السيطرة على هذا العنف الذي لو انفلت لما أبقى لصاحبه، ولضحاياه معه، أيّ فسحة كتلك التي حفرها الإنسان الأول، على جدران كهفه، فقط ليوصل رسالته إلى نفسه، بأنه مختلف، وبأنه يعيش لأشياء أخرى، ستأتي لا محالة، تتجاوز التحدي اليومي، الدامي، لبقاء النوع فقط.

الرّواية تقع في القلب تمامًا من هذا الرهان وتلك “الوثائق”. كشف وتحريض في آن لكسر دائرة الدّم تلك، بلحظاتها الممتدة على مدار تاريخنا كلّه، والخروج إلى رحابة لا يمكن لها أن تحتمل أيّ ثقل أو أذى لأيّ نوع من أنواع السطوة كائنًا ما كان شكلها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.