كشف أدبي: من دمشق إلى شيكاغو

الخميس 2018/03/01
رسم للباخرة التي استقلها أحمد أبو خليل القباني وفرقته المسرحية من بريطانيا إلى أميركا 1892

تشكل رحلة أبي خليل القباني وفرقة “مرسح العادات الشرقية“ إلى معرض شيكاغو الكولومبي في العام 1893، فرصة رائعة لدراسة وفهم واحدة من أندر تجارب التفاعل الثقافي المباشر بين منطقتي شرقي المتوسط، بما تحمله من أبعاد تاريخية ودينية لها تأثيرات عميقة في الوجدان الغربي المسيحي، وبين الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تنظر إلى نفسها، منذ ذلك الوقت، بوصفها قمة هرم الحضارة الغربية.

المنشور هنا من نص وصور ورسوم ينشر للمرة الأولى، ولم يسبق ظهوره في أي مطبوعة عربية أو أجنبية، وهو بمثابة كشف أدبي تاريخي لا بد أن يستدعي إعادة كتابة تاريخ المسرح العربي الحديث، استنادا إلى الوثائق المكتشفة.

ألَّف أبو خليل القباني هذه الفرقة في أواسط العام 1892 من 50 ممثلا وعازفا وراقصا، غالبيتهم الساحقة من ولاية سوريا العثمانية، وحُدّد سقفها الفني بمجموعة من “الشروط الصارمة” المتعلقة بموضوع “العادات والتقاليد”، وتم تثبيت هذه “الشروط” حتى في اسم الشركة الممولة للمشروع، وهي “شركة العوائد الشرقية” المسجلة في بيروت وشيكاغو، باسم الصحافي البيروتي بطرس أنطونيوس وشركائه.

المسرح والقرية

تلقت السلطنة العثمانية في التاسع عشر من شباط (فبراير) عام 1891 دعوة موقعة من الرئيس الأميركي بنيامين هاريسون، للمشاركة في معرض شيكاغو الكولومبي، والذي سيقام لمدة ستة شهور، من مطلع أيار (مايو) إلى نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1893. وإثر ذلك، بدأت المداولات في إسطنبول لتحديد شكل المشاركة وحجمها ومستوى تمثيلها.

كان السلطان عبدالحميد في ذلك الوقت حريصا على إظهار السلطنة في المحافل الدولية، بوصفها قوة عظمى، تشارك في المعارض والمناسبات على قدم المساواة مع باقي الدول الكبرى. ولذلك كان الحرص على إبراز مظاهر العظمة والسيادة أهم بكثير من المشاركة نفسها. ولم يتأخر إصدار فرمان إنشاء لجنة تحضيرية للمشروع ضمت الكثير من الأسماء المهمة في البيروقراطية العثمانية، وتم انتداب إبراهيم حقي بيك، أحد كتّاب “المابين الهمايوني” مفوضا عاما للإمبراطورية العثمانية إلى المعرض.

كان الترتيب المعتاد عند المشاركة في مثل هذه المعارض، أن يقوم “الباب العالي” بالتعاقد مع شركة تجارية خاصة لإنجاز القضية برمتها. وقد اتصلت اللجنة بسعدالله أفندي الذي كانت لديه شركة خاصة للتصدير في إسطنبول تدعى شركة “إيليا سهامي وسعدالله”. وفي يوم 24 أيار (مايو) 1892، أحالت وزارة الأشغال العامة والتجارة إلى الباب العالي نسخة من عقد أبرم مع سعدالله أفندي وشركائه ينص على بناء الجناح العثماني الرسمي على شكل مبنى “سبيل السلطان أحمد” القائم عند مدخل قصر توبكابي، على أن يُنجز المشروع قبل يوم 28 أبريل 1893، أي قبيل حفل الافتتاح الرسمي للمعرض بأربعة أيام. ونص العقد أيضا على بناء سوق عثماني ومسجد، و”أبنية للمسارح بجوار السوق، تجري بداخلها العروض”، شريطة ألا تتضمن “أي شيء يخل بذوات الخدور المسلمات والآداب المليّة والعمومية وشرف وآداب المملكة”، وحددت الفقرة الخاصة بالمسارح أن مرجعية “تفاصيل هذه النواحي قبل إجرائها (ستكون وفق) رأي وفكر الكوميسيرية (المفوضين)“.

ولم تمض فترة طويلة حتى تقدم روبرت ليفي، ممثل شركة إيليا سهامي وسعدالله وشركائهما بمخططات ومجسمات مشروع القرية التركية، فوافقت عليه اللجنة فورا، وأحالته إلى الشركة المذكورة لتنفيذه.

كان لافتا أن الفقرة الأصلية في العقد ذكرت “أبنية مسارح” بصيغة الجمع، أي أكثر من مبنى لأكثر من مسرح، وهو ما غفل عنه أصحاب امتياز “مرسح العادات الشرقية” بطرس أنطونيوس وشركاؤه حين كانوا يحاولون منع أصحاب “القهوة التركية” من تشخيص العادات الشرقية، حيث قادتهم محاولاتهم، بعد أخذ ورد إلى المحاكم الأميركية، غير أن تسوية حصلت وقتها دفع بموجبها أصحاب امتياز القرية العثمانية مبلغ ألف دولار أميركي لبطرس أنطونيوس وشركائه، بعد أن فشلت وساطة قادها سليمان البستاني لتسوية الموضوع بين أصحاب المسرح وأصحاب القهوة.

ويوضح إعلان منشور في جريدة “لسان الحال” البيروتية في 15 آب (أغسطس) 1892 أن صاحب فكرة إنشاء مسرح لتقديم المشاهد والعادات الشرقية هو “لجنة المعرض العام في مدينة شيكاغو” التي خصصت “الدائرة العثمانية بمرسح (تياترو) تمثل فيه المشاهد والعوائد الشرقية في ضروبها المختلفة، وأشكالها المتنوعة”. ويوضح الإعلان أن أصحاب هذا الامتياز، وفقا للإرادة السنية، وهم الخواجات؛ إيليا سهامي وسعدالله وشركاؤهما “باعوا امتياز حق إنشاء المرسح المذكور مع ما يقدم فيه من الحلويات والمرطبات إلى الخواجات بطرس أنطونيوس وشركائه بموجب صك قانوني مؤرخ في 16 أيار سنة 1892″. وأن أصحاب شركة إيليا سعدالله سهامي قد ألزموا أنفسهم “بموجب البند الثامن من الصك المذكور أنه لا يسوغ لهم إعطاء أي كان حق إنشاء مرسح آخر في جميع فسحة الدائرة العثمانية”.


الشارع أمام المسرح

وكان هذا الإعلان بمثابة إنذار قانوني لكل من يحاول أن يمثل العادات الشرقية في المعرض من أصحاب الامتيازات الأخرى في القرية التركية. وقد تكرر نشره في “لسان الحال” خلال النصف الثاني من شهر آب (أغسطس) و”طوال شهري أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) من عام 1892، مما حدا بصاحب امتياز ‘القهوة التركية’ شديد كوراني لنشر إعلان مماثل في الجريدة نفسها وبالصياغة السابقة نفسها يذكر فيه أنه وشركاؤه قد حصلوا على امتياز واحتكار “القهوة الموسيقية الغنائية بموجب صك قانوني بتاريخ 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1892 يخولها الحقوق في تقديم كل ما يلزم تقديمه من حلويات ومرطبات ومشروبات إلى غير ذلك، مما يطلب في القهاوي“.

أبو خليل في بيروت

وقد نشرت جريدة “كوكب أميركا” الصادرة في نيويورك باللغتين العربية والإنكليزية في التاسع من أيلول 1892 رسالة من بيروت يعلن فيها صاحبها خبر حصول بطرس أفندي أنطونيوس على امتياز تمثيل العادات الشرقية، ويحذر فيها كل من يحاول أن يمثل هذه العادات من الحاصلين على امتيازات في القرية التركية.

وانطوت الرسالة التي كتبها غالبا، بطرس أنطونيوس نفسه، على معلومات مهمة عن برنامج “شركة العوائد الشرقية” التي تأسست في بيروت، في شهر أيار (مايو)، وأنها عينت خمسة أشخاص لإدارتها هم؛ كما علمنا لاحقا: بطرس أنطونيوس رئيسا، وأبو خليل القباني مديرا فنيا، وعضوية إسكندر ضعون، وفضول مغبغب، ونقولا صهيون. ويبدو أن هذه الإدارة قد توسعت في فترة لاحقة لتصل إلى حوالي 13 شخصا، بعد إضافة أسماء نعوم مغبغب وجورجي خوري، وإسكندر حجار، وأسعد حبيقة، وأسعد كرم، والدكتور حبيب طبجي، وأخيرا إسكندر صيقلي ورفائيل جبارة القادمين من الإسكندرية.

وكررت الرسالة ما ورد في إعلان “لسان الحال” حول أن الشركة حصلت دون سواها على “امتياز تشخيص العوائد الشرقية في معرض شيكاغو” بموجب امتياز شاهاني مسجل بدفتر القيودات في الأستانة العلية، ومصادق عليه من قونسلاتو دولة أميركا الفخيمة فيها.

وأوضحت الرسالة شيئا مما كانت الشركة تفعله في ذلك الوقت، من قبيل انتدابها “عضوين منها إلى دمشق جوارها لاختيار بعض العادات ولشراء المستلزمات”، وهي على الأرجح الأزياء والإكسسوارات اللازمة. وأنه قد “تم تأليف فصول مهمة حول تلك العادات”.

وأشارت الرسالة أيضا إلى إرسال “مندوبين اثنين أيضا إلى جهات بلاد النصيرية (جبال الساحل السوري الشمالية)، ثم إلى جهات عرب الرولي في بادية الشام وجهات حوران، ومن هناك إلى جهات السلط والقدس الشريف وجوارها”. وأنها رصدت المال اللازم لذلك. ولم ينس صاحب الرسالة أن يشير إلى “إرسال عضوين آخرين من إدارة الشركة إلى شيكاغو للبدء ببناء المكان وإتقانه ليكون معدا مع سائر اللوازم للتشخيص في أوائل شهر نيسان (أبريل) القادم 1893“.

وتفصح الرسالة عن حالة الارتباك التي كانت إدارة الشركة تعانيها بعد تأسيسها، نتيجة الجهل بعالم الفن وإدارة الفرق المسرحية، وعدم قراءة بنود العقد مع شركة سعدالله سهامي في إسطنبول. ولكن وجود الشيخ القباني جعل العمل أكثر جدوى، فهو، وبحكم خبرته الطويلة في الإدارة الفنية، وفَّر على الشركة الكثير، وأرشدها إلى أماكن معينة في دمشق لشراء الأزياء والإكسسوارت اللازمة. وعلى الأرجح أنه بدأ بكتابة الفصول المتعلقة ببرنامج الفرقة الفني في هذا الوقت بالذات. ويبدو أن المهمة لم تكن باليسيرة، في ظل جهل الإداريين، الذين كانت تحركهم دوافع الربح فقط، وحالة الذعر من المصروفات الضخمة، والإلحاح على فكرة “العادات الشرقية”.

أقواس وقباب خان أسعد باشا

وتأكيدا لما ذكرته رسالة مدير الشركة؛ وصل إلى نيويورك مبعوثان من بيروت للبدء ببناء المسرح. وذكرت جريدة “كوكب أميركا” في صفحتها الأولى يوم الجمعة 11 تشرين الثاني (نوفمبر) خبر وصول عضوي شركة “مرسح العادات الشرقية” حضرة وطنيينا الفاضلين نعوم أفندي مغبغب، وجرجي أفندي الخوري في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1892 إلى نيويورك في طريقهما إلى مدينة شيكاغو، “للشروع بإقامة البناء اللازم في المعرض العام لتشخيص العوائد الشرقية المختصة بالشركة”، وأكدت الجريدة أن مغبغب وخوري هما العضوان المكلفان بإجراء ما يلزم للمشروع.

ولم تمض أسابيع قليلة حتى نشرت جريدة “شيكاغو تريبيون” خبرا عن المباشرة ببناء “المسرح التركي” في “ميدواي بليزانس″ وأن من سيقوم بتشييده هو “بطرس أنطونيوس وشريكاه من بيروت في سوريا، نعوم مغبغب وجورج إ.خوري وهم شركاء في الشركة، محددة موقع المسرح في القرية التركية مقابل البانوراما السويسرية، وأن تكلفته ستبلغ ما بين 10 آلاف دولار أميركي و25 ألف دولار”.


روزا ترقص

ونقلت الجريدة عن مغبغب الذي كان يجيد الإنكليزية، قوله “اليوم أرسلنا برقية نطلب فيها من شركائنا الموافقة على أن نبني طابقين بدلا من طابق واحد، ولقد ألزمتنا إدارة المعرض العالمي بتجهيز المسرح بألف مقعد على أقل تقدير. سيكون المسرح والتصميم صورة عن الشرق، وستكون هناك واجهة خارجية وقباب وأقواس وبوابات ونوافذ على النمط الشرقي. أما التصميم الداخلي والمناظر والنمط الطاغي للتزيينات فسيكون مماثلا لأفخم وأعرق بيوتات دمشق، وأكثرها أناقة، خصوصا أن دمشق هي باريس الشرق”.

وأضاف مغبغب قائلا “إن تشييد البناء سيقوم به الحرفيون والعاملون لدى شركتنا، وهم في طريقهم الآن إلى شيكاغو، وسينتهي البناء في الأول من نيسان (أبريل 1893)”.

وقد أوضحت الصور التي نشرت في ما بعد، أن الطراز الفني الذي كان يقصده مغبغب هو طراز خان أسعد باشا، الشهير بقبابه وأقواسه البديعة، ذات الحجارة المتناوبة بين اللونين الأسود والأبيض.

ومن المؤكد أن سبب اختيار نمط خان أسعد باشا المعماري الفريد، هو ما كان يحمله من ذكريات فنية حميمة ترتبط ببدايات أبي خليل المسرحية، حين نصب فيه مسرحه الأول بتشجيع من الوالي صبحي باشا في العام 1871.

وحول الفرقة المسرحية قال مغبغب إنها “ستتكون من 65 رجلا وامرأة وطفلا، وسيصلون إلى شيكاغو في 15 نيسان، وهنا ستبدأ تكاليف أخرى، إذ أننا عندما أسسنا الشركة في شيكاغو وصلت تكاليف المشروع إلى 20 ألف جنيه إسترليني”. مضيفا أنه “عندما تم اختيار مدينة شيكاغو لاستضافة المعرض العالمي بدأنا بتوظيف الممثلين والمغنين والموسيقيين والمشخصاتية من القدس وبيت لحم والناصرة والسامرية ودمشق وبيروت ولبنان وحلب والقسطنطينية وإزمير، إلى جانب بعض الغجر من بلاد النهرين، وبعض البدو من الصحراء. وهم يتدربون الآن على أداء العروض الكوميدية والتراجيدية في بيروت ليتم تقديمها في هذا المسرح”.

وهذا الحشد الكبير من الفنانين هو سمة “قبانية” بامتياز، إذ كان عدد أعضاء فرقته في مرحلتها الدمشقية يتجاوز الـ60 فنانا، وعدد أفراد جوقه الذي سافر إلى مصر في العام 1884 بلغ 41 ممثلا وموسيقيا، فالإبهار البصري كان لعبته المفضلة.

وأكد مغبغب أن شركته ستعرض “حفلات شرقية وأعراسا وولائم ولوحات راقصة وجنائز ومناسبات بهيجة، ومبارزات وتسالي ومشاهد من جميع جوانب الحياة”. لافتا إلى أنه “سيتم استخدام لغتين: العربية التي يتكلم بها أهالي الأراضي المقدسة وحلب ودمشق، والتركية لغة إسطنبول”.

وقال “سنوظف المترجمين لشرح وتبسيط جميع العروض، وسيكون معنا أعظم المغنين من صالونات ودور الأوبرا والمقاهي في المدن المذكورة أعلاه، وسنستخدم أيضا جميع الآلات الموسيقية ذات الطابع الشرقي القديم والحديث. ولن نتجاهل أي شيء يحظى باهتمام ومتعة سكان الغرب من عالم شعوب الشرق”.

وبعد يومين نشرت جريدة “ديلي أركنسو غازيتا” خبرا بالمضمون نفسه مع شيء من الاختصار. وتلتها بعد أيام جريدة “بيتسبورغ بوست” بنشر خبر يتضمن تفاصيل إضافية منها أن مساحة المسرح ستكون 63 × 145 قدما، (بين 2500 و3000 متر مربع ).

وكان لافتا في تصريحات مغبغب التأكيد على محورية مدينة دمشق في البرنامج الفني، وأن التدريبات المسرحية بدأت فعلا في بيروت.


أسرة درزية

في هذه الأثناء؛ كان المفوض العام حقي بيك ونائبه فخري بيك قد وصلا إلى شيكاغو، وباشرا بوضع حجر الأساس للجناح العثماني على مساحة الأرض التي خصصتها سلطات المعرض للسلطنة العثمانية.

وقد وثقت جريدة “نيويورك تايمز″ الأميركية حفل التدشين في خبر بتاريخ 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1892، أي قبل خمسة شهور من الافتتاح الرسمي للمعرض الكولومبي. وذكرت “نيويورك تايمز″ أن المشاركين في الحفل ضحوا بخروف أبيض كالثلج، صحيح الخلقة، تم اختياره من قطيع يتكون من خمسة آلاف رأس. وأن الحفل بدأ برفع الأيدي نحو السماء، ثم تليت أدعية أمن عليها جميع المشاركين، باستثناء شخص كان يرتدي لباسا عسكريا ويحمل سكينا ذا حدين، وبعد أن عصبوا عيني الخروف بقماش حريري أبيض، عمل السكين عمله، فتدفقت دماء الأضحية بغزارة، فقام شيخ بغمس يده بالدم ونثره على الرمال الصفراء في مكان التدشين، ثم أوضح مقال “نيويورك تايمز″ في التفاصيل، أن السلطان العثماني، الذي أعلن نفسه رسميا راعيا للمعرض العالمي، تعهد له رعاياه المشاركون في هذا الحفل بالولاء مع صيحات “فيف لو سلطان”، “يعيش السلطان يعيش الرئيس الأميركي” ثلاث مرات. وبعد انتهاء هذا الاحتفال الذي أثار دهشة وفضول مراسل نيويورك تايمز، وذكَّره بالعهد القديم وتضحية النبي إبراهيم بابنه! دعي المشاركون إلى خيمة أعد فيها طعام الغداء للحاضرين .

عروض وانطباعات

مع بداية عروض الفرقة في الأول من أيار (مايو) وزَّع “مرسح العادات الشرقية” دليلا باللغة الإنكليزية على الجمهور، متضمنا مقدمة تعريفية بالإمبراطورية العثمانية وفسيفسائها الدينية والعرقية، وتلخيصا للعروض الثمانية التي انطوى عليها البرنامج الفني المنوع.

واستخدمت المقدمة التي صاغها، على ما يبدو، نعوم مغبغب، الاسم الذي يفضله الغرب للإمبراطورية العثمانية، أي “تركيا”، وهو اسم لم يكن متداولا أو محبّذا من جانب السلطنة. وقد راعت المقدمة الرؤية التقليدية المترسخة في عقل الجمهور الغربي عن الشرق وعلاقته بالتاريخ التوراتي القديم، إذ كررت أنه “لا يوجد بلد مثل تركيا بما تحوي من مظاهر تاريخ الدين والدنيا، فهي أرض الكتاب المقدس، حيث جرت جميع أحداثه”، مع التأكيد أن “الأدوات الموسيقية (المستخدمة في العروض) هي من النوع نفسه الذي كان يستخدمه الملك داود: القيثارة والدف والآلات الوترية شبيهة بالقيثارة والصنجات التي استخدمت في الأيام القديمة عبر التاريخ”.

ولم تخل المقدمة من النزعة الفلكلورية التبسيطية التي دغدغت مشاعر قسم الأنثروبولوجيا في المعرض بحرصها على تعداد أسماء الطوائف والإثنيات مثل الدروز، والموارنة، والروم الكاثوليك، والسامريين، والإسماعيليين، والنصيريين، واليزيديين.. إلخ، مشيرة إلى أن “الرجال الذين يرتدون العمائم البيضاء ينتمون إلى الطائفة الدرزية، أما الرجال الذين يرتدون عمائم أخرى فهم من الأكراد. بعض الرجال ينحدرون من بيت لحم والقدس، وآخرون من دمشق، المدينة القديمة، وآخرون من بيروت والبعض من جبل لبنان وبعضهم من أزمير والقسطنطينية وسالونيك، اجتمعوا جميعا لاستعراض نمط الحياة في مواطنهم وعجائبها وغرائبها”. وأنه تم “إحضار هذه الفرقة المسرحية إلى المعرض الكولومبي خاصة لتلبية رغبة معرفة هذه البلاد”.

ولم ينس كاتب هذه المقدمة التذكير بالمبالغ الكبيرة التي أنفقها الشركاء وعددهم 20 شريكا لإنجاز هذا البرنامج! الذي كلفهم إرسال “وكلائهم إلى أصقاع الإمبراطورية لدراسة تقاليد وعادات وأزياء سكانها والتعاقد مع الممثلين، البالغ عددهم 65 ممثلا وممثلة”. وهذه الإشارة إلى المبالغ الكبيرة تتكرر بشكل مبتذل في جميع تصريحات الإداريين، وتنبئ بلامبالاة حيال الرسالة الفنية، وجشع، لاشك في أن الفريق الفني، وعلى رأسه أبو خليل القباني، قد عانوا منه طوال عام أو أكثر!

الدراما الكردية

بعد المقدمة يستعرض الدليل العروض التمثيلية عرضا عرضا، ويبدأ بـ”الدراما الكردية”، التي تتكون من افتتاحية موسيقية وثلاثة فصول، وتروي قصة بسيطة لرجل كردي يدعى فياض يرفض تزويج ابنته كريمة من ابن عمها حسن، ولكنه حين يتعرض لغزو ونهب ممتلكاته واختطاف ابنته وزوجته من لصوص العرب البدو، لا يجد غير ابن أخيه الذي ينقذ النساء ويعيد المنهوبات، ويحظى بالزواج من محبوبته مكافأة له، فتقام لذلك الأفراح.

المشهد الأول مكرس للعادات والتقاليد في مخيم كردي، تظهر فيه مجموعة الأكراد في حياتهم المنزلية من مأكل ومشرب، وحياكة للجوارب، والغزل والنسيج، وإعداد التجهيزات اليومية. أما المشهد الثالث فقد كرس لاحتفالات الزواج مثل الدبكة، والرقص الدمشقي، والرقص الزيبقلي، والرقص السالونيكي، وغيره.

والعرض كما نرى، يصلح للأكراد وغيرهم من شعوب المنطقة، ولا يبدو أن ثمة مبررا دراميا لاختيار هذا الموضوع، بل هو إرضاء لإدارة قسم الأنثروبولوجيا، لا أكثر.


المسرح التركي

وقد أثار هذا العرض اهتمام مراسل “نيويورك تريبيون” الذي وصفه بأنه واحد من أفضل العروض التي قدمها “المسرح التركي”، مشددً على أن هذا المسرح يستحق اهتماما أكبر لأنه يختلف عن بقية المسارح الموجودة في شارع الترفيه “ميدواي بليزانس″ وهي ملاحظة سوف تتكرر في أكثر من مقال.

وبعد أن يعيد المراسل سرد القصة كما هي موضحة في الدليل الذي أعطي له لحظة دخوله إلى المسرح، يقول إن نقطة ضعف هذه المسرحية هي رقص البطن؟ والموسيقى التي لا يستسيغها الغربيون عادة.

وثمة مقال آخر عن هذه المسرحية لمراسل جريدة “كوكب أميركا” ويدعى طارق، لم يشر فيه إلى الأكراد من قريب ولا من بعيد. وقد حاول أن يصف العرض كما رآه وليس من خلال النشرة التي توزعها الإدارة على الجمهور، إذ كتب يقول “قبل رفع الستار يقوم في القوم خطيب يشرح ما سيشاهدونه، وبعده يرفع الستار فيظهر جوق موسيقي من أتراك وعرب مؤلف من أربعة أو ستة أشخاص تتلوهم عائلة عربية [الصحيح عائلة كردية] تحت خيمة سوداء يقوم والد فتاة تلك العائلة ويرفض زواجها بأحد الأمراء الذي لا يعحبه، ويقص على الحاضرين عدم استحسانه اقتران ابنته به، فيتهددها بالقتل إذا رضيت بذلك. ويحضر إذ ذاك عاشقها ويظهر عزمه على اختطاف الابنة رغما. وغب خروجه من ساحة المسرح تهجم عصابة من العربان على عائلة الفتاة، فيسلبون من أبيها أمتعته ويشبعونه ضربا. ويتخلل هذه المناظر حينئذ لعب السيف وغناء دراويش وخلافهما، فيستجير بعد ذلك والد الفتاة بعاشقها الذي يأتي بالذين سلبوه مكبلين بسلاسل وقيود، ويسلمهم له أسرى لقاء إعطائه ابنته زوجة له، وعند قبوله بعقد زواجهما يحتفل بالزفاف فتمثل هيئة العرس الشرقي تماما، ويرقص الراقصون على اختلاف حركاتهم من رقص شامي ولبناني وأرناؤوطي وزيبقلي وخلافه، وتصدح الموسيقى الموافقة لذلك، وينتهي فصل التمثيل الذي يراجع نحو كل نصف ساعة”.

الدراما القلمونية

حظيت الدراما القلمونية (نسبة إلى جبل القلمون شمالي دمشق) باهتمام صحافي غير عادي، إذ كتبت عنها كبريات الصحف الأميركية وامتدحت أداء الممثلين، ولاحظ النقاد تشابها في حبكتها الدرامية مع مسرحية “قصة حب البروفيسور” للكاتب المسرحي البريطاني الشهير جي آر إم باري التي كانت تعرض أيضا في شيكاغو. وقد عثرنا على منشورات دعائية خاصة بالدراما القلمونية بمعزل عن الدليل، في مؤشر على حملة إعلانية خاصة بها.

تتحدث المسرحية عن شاب مريض بالحب يدعى سليم، يحاول والده علاجه، فيحضر مشعوذ يقرر أنه مسحور، فتقام حضرات السحرة والمشعوذين، ويتفق الجميع على أن سليم عاشق وأنه لا بد له من الزواج بمحبوبته، وبعد التأكد من ذلك يخطبون له الفتاة التي يحبها، وتقام حفلة زفاف كبيرة تسبقها تحضيرات العرس وفق تقاليد جبل القلمون وجبل الدروز.

وكتب مراسل جريدة “ميلفورد تايمز″ مقالا عرض فيه للمسرحية بجمل قصيرة “سليم يقوم بدور الأفندي، وعرضه في الميدواي بليزانس اسمه الدراما القلمونية، وهي تروي قصة زواجه. ثمة تنوع جميل في الأدوار. هنالك والده ذو الجسد الضخم وعدة فتيات وطبيب يدخن الغليون”.

بعد ذلك يصف المراسل العرض المسرحي بشيء من التفصيل:

“نرى رجلا ينام على سريره ملتحفا بغطاء، هو سليم، يستيقظ وهو يرتدي قميصا حريريا أبيض وعمامة وجاكيت أخضر، وفور استيقاظه يبدأ بغناء أغنية حزينة، تجذب انتباه والده، الذي يهرع لإحضار طبيب (دجال) يدخن من غليون طويل يصل إلى ركبته. يقوم الطبيب بفحص المريض بعد أن يعطي غليونه للأب، فيستغل الأب الفرصة ويسحب من الغليون عدة سحبات. فيقول الطبيب إن سليم مسحور، ولا بد من فك السحر عنه. وحين يخرج الأب ينهض المريض ويبدأ بغناء أغنية أخرى معلنا موافقته على تشخيص الطبيب، وأنه مسحور بالعشق وأنه عاشق ولهان. فيحضر الطبيب رجلين وامرأة يؤدون طقوس الشعوذة محاولين اكتشاف الفتاة المعشوقة وينجحون في تحديدها.. حينئذ يعلن الوالد أنه سوف يتوجه لمقابلة والدها ليخطبها لابنه.. فيوافق والد العروس، ويعيشون في ثبات ونبات”.

وأردف المراسل “كان العرض راقصا بالكامل، وفيما كانت العروس ترقص، كان هناك من يجمع النقود من الحضور بالمنديل (النقطة) لشراء أثاث بيتها. وعند امتلاء المنديل بالنقود، ينهض العريس للرقص، ويدور دورة واحدة. بعد ذلك تمتلئ خشبة المسرح بعدد كبير من الممثلين، منهم مجموعة من المبارزين بالسيوف والتروس على إيقاع الموسيقى، فيما يقوم شاب يحمل قربة ماء بسقاية الحضور. بعد ذلك كانت هناك رقصات متنوعة منها الزيبقلي والألباني وغيرهما، ثم تنهض فتاة ترتدي جوارب حمراء وتؤدي رقصة دائرية تشبه رقصة الدراويش”.

ولكن مراسل جريدة “فري بريس” جاي تايلور تعامل مع هذه المسرحية وفق المعايير الصارمة للمسرح الغربي في القرن التاسع، المشفوعة بنظرة استعلائية عنصرية لا تخفى على أحد.

وكتب تايلور “‘الدراما القلمونية’ قدمت في المسرح التركي أو المسرح الشرقي في القرية التركية في ‘ميدواي بليزانس′. يمكن التوصل إلى نتيجة، وهي أن هذه المسرحية كانت على درجة عالية من الإتقان بالنسبة للشعوب السمراء من أتباع محمد (!)، جعلت المنادين الأتراك أمام المسرح يبتهجون وهم يرون الإقبال الكبير من الجمهور عليها، ولأن الممثلين جميعا كانوا من النجوم”.

وأضاف قوله إن “تأليف مسرحية تركية لا يحتاج إلى جهود كبيرة، فهناك حبكة بسيطة إلى درجة أن المتفرج الأميركي الذي لا يمتلك أي خلفية عن المسرح، قد يستغرب إطلاق صفة المسرح على هذا النوع الطريف من العروض، ومع ذلك فإن الأتراك في المسرح كانوا يقهقهون بمتعة ويتلوون ضحكا من المواقف الهزلية”.

وبعد استرسال تنظيري حول الفوارق بين أذواق الشرقيين والغربيين، يدخل جاي تايلور إلى صلب الموضوع “مشهد المسرحية يقع في بيت فلاح قلموني شاب اسمه سليم، يضطجع على سريره، والأم تشتكي من أن زوجها لم يقتنع بأن ابنه ليس مريضا ولكنه مغرم بحب ابنة جاره إبراهيم شيخ القرية، وكونه متوهما يذهب لإحضار الطبيب. وحين يسمع سليم ذلك يئن ويعبر عن أسفه من أن محبوبته لا تريد الزواج به بسبب بخل والده. وحالما يسمع الجلبة يعود إلى الفراش. يدخل والده بصحبة الطبيب (المشعوذ)، الذي بعد فحص الفتى يصرخ أنه ليس مريضا بل هو مسحور. يستغرب الوالد هذا الخبر ويودع الطبيب بعد أن ينقده أجره، ويغادر هو أيضا البيت. وبعد برهة يعود أبوسليم مع مجموعة من المشعوذين الدجالين الذين يقومون بأداء سلسلة من الحركات الغامضة المرتبطة بمهنتهم، ويقولون رأيهم بأن سليم ليس مسحورا لكنه يعاني من هجر محبوبته، فيقبضون أجرهم وينصرفون”.

ويتابع تايلور “يتفاجأ الأب ويلتفت إلى ابنه ليسأله إن كان قد سمع ما قاله المشعوذون؟ فيجيب الفتى بطريقة غير واضحة، ولكن الأب يصرُّ على تلقي جواب صريح يطمئنه إن كان عاشقا لابنة الشيخ إبراهيم؟ ويبدي استعداده لكي يطلب يدها ويزوجها له. وعندما يسمع سليم ذلك يقفز من سريره مبتهجا، ويقبل يد والده تعبيرا عن عرفانه وشكره بحرارة لهذه اللفتة الأبوية. في تلك اللحظة تدخل أم سليم، وحين ترى أن ابنها في صحة جيدة تسأله كيف تعافى بهذه السرعة؟ فيخبرها الفتى حينها عما حصل، وأن والده ذهب ليطلب يد بنت الشيخ ليزوجها له. حينها يدخل الأب ليعلن لابنه أنه طلب يد بنت الشيخ وأنهم سوف يحضرون العروس الآن.. تبدأ الأم بترتيب كل شيء في البيت، وخلال دقائق يُسمع الغناء والأهازيج المرافقة لقدوم العروس التي تدخل إلى البيت وتبدأ أفراح الزفاف”.

ويصف تايلور هذه الاحتفالات وتوزيع “النقطة” على العروسين “يفردون منديلا على الأرض ليرقص العريس والعروس حولها، ويضع الزوار النقود والهدايا، فيما يقف شخص إلى جانب المنديل ويصرخ بكلمة عن العادات. وبعد فترة يخطف العريس عروسه ويذهب بها إلى الحرملك وهكذا ينتهي الزفاف”.

ويعود تايلور للتعليق على العواطف التي تبدر عن سليم “روميو الشرقي هذا، وهو سليم، شاحب اللون يعبر عن أشواقه العارمة التي تملأ نفسه، ويتقلب على فراشه. وحين يتم استدعاء الطبيب للعناية به يصف له جرعة كبيرة من النعناع.. عندما يذهب والده لإحضار الدواء ينهض من فراشه ويخاطب الجمهور، ويشرح لهم عن أشواقه التي تعذب نفسه، ويغني أغنية غرامية من جبال القلمون تجعل عيون الأتراك تدمع، في حين يبدي المشاهد الأميركي استهجانا حول طبيعة الأصوات التي يطلقها سليم.. الأغنية حزينة جدا حتى أن المرء يشعر بأنه يريد أن يقول للشاب: احضر سلما من الحبال واخطف معشوقتك واهرب، خيرا من أن تجلس وتندب حظك بالغناء الحزين”.


القصر الدمشقي وإلى جانبه المسرح التركي

ثم يخلص تايلور إلى أن المسرحية “رائعة جدا ولكنها مجرد عواطف.. إذ كان على الفتى إن كان يريدها حقا أن يشتريها!” ثم يضيف “هذه النظرة العملية لم تعترض استمتاعنا بالعرض، بغض النظر عما قال، لا بد من الاستمتاع بالفن. كانت الصورة رائعة لأنها كانت خيالية. الاحتفال بالزفاف كان مصمما بشكل مبدع، وتألف من رقصة سورية وأغنية شرقية ورقصة تركية ورقص الزيبقلي ومبارزة السيف والترس″. ثم يعود للمقارنة إياها “الرقص التركي لا يشبه الباليه المتحضر. لا يقوم الراقصون إلا بالهز، والمفهوم التركي للإبداع الراقص يختلف عن مفهومنا. إذا كان الرقص الشرقي الذي تقوم به الأميرة (!) (الجارية) في ألف ليلة وليلة هكذا، فلماذا يتمنى المشاهد الأميركي أن يكون البطل في تلك القصص الخيالية؟”.
ويختم تايلور مقاله مستغربا من “أن أمة اشتهرت بفن العمارة تؤلف مسرحية مرتبكة كهذه. قد يتوقع المرء أن يجد في الدراما التركية بعض الخيال المبدع الذي أنتج المساجد والقصور الرائعة، ولكن ليس ثمة شيء من هذا القبيل في هذه المسرحية. هي عرض غير متطور ومرتبك وفقير بالخيال، يتخلله بعض المتعة. الشخصيات تبدو مسطحة تقوم بتمثيل في غاية السوء. أما الأوركسترا فهي أسوأ ما في الأمر كله”.

طبعا؛ يتجاهل جاي تايلور أن إدارة قسم الأنثروبولوجيا هي التي حددت “السقف الدرامي” للمسرح التركي (السوري)، وأنها حصرته في موضوع الفلكلور، ولولا الخيال المسرحي الاستعراضي الخلاق لأبي خليل القباني، لكانت العروض في هذا المسرح تشابه عروض المسارح الأخرى التي لم تحاول الخروج عن فكرة العادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية!

بين الأفندي والبروفيسور!

من القضايا اللافتة في التغطية الصحافية لمسرحية “الدراما القلمونية” ما كتبه مراسل جريدة “سيلفر كليف روستلر” من أنه يحق لمؤلف “الدراما القلمونية” أن يدعي ضد إدوارد سميث ويلارد مخرج مسرحية “قصة حب البروفيسور” لكاتبها جي آر إم باري بسبب سرقة الحبكة الدرامية من “الدراما القلمونية”.

ومما كتبه المراسل “حبكة قصة الحب القلمونية هي كما يلي: المشهد الأول: يقبع سليم على الفراش وتجلس أخته بالقرب منه وهي تغزل. كانت صحته تتراجع لسبب غامض، ولم يستطع أحد تشخيص حالته، وقصد والده طبيبا دجالا أعلن بعد أن فحص سليم بأنه لا يعاني من أي مرض وأنه مسحور. عندما يكون سليم بمفرده في البيت يغني أغنياته التي ألفها لمحبوبته من دون أن تدري. ويحضر والده السحرة المشعوذين لعيادته، وبعد أن يقوموا بحركاتهم وتدجيلهم يعلنون أن مرض سليم يكمن في البحث عن المرأة. وينصحون والده بأن يزوجه لمحبوبته بعد أن اكتشفوا أن مرضه هو الحب. يقرر الوالد شفاءه بالزواج، وفي الحال يقوم بخطبة بنت جاره إبراهيم لابنه سليم، ثم يحصل الزواج مع الاحتفالات والرقص .. إلخ”.

ويضيف أنه “لو استطاع مؤلف ‘الدراما القلمونية’ الادعاء، فإن انعدام قوانين حقوق النشر هو الشيء الوحيد الذي يحمي السادة ويلارد وباري من دفع التعويضات”. ويخلص المراسل إلى أنه “من المسرحيات التي عرضت في ميدواي بليزانس كافة، فإن ‘المسرح التركي’ هو الوحيد الذي نستطيع أن نقول إنه قدم مضمونا مسرحيا ذا قيمة. فأغلب المسارح كانت تقدم استعراضا للرقص والفتيات اللواتي كن في الغالب غير محتشمات“.

ويبدو أن هذا المقال كان صدى لجدل ثار في الأوساط المسرحية الأميركية حول تشابه حبكتي “الدراما القلمونية” و“قصة حب البروفيسور”، إذ سبق وأن ذكرت جريدة “شيكاغو تريبيون” في 2 تموز (يوليو) أن “السيد ويلارد، بصحبة نجمته الرئيسية الآنسة ماري بوروز وزوجها السيد لويس ماسن، قاموا بزيارة ‘المسرح التركي’ على ‘الميدواي بليزانس′ في المعرض الكولومبي موخرا، وتفاجأوا عندما وجدوا أن حبكة الدراما القلمونية التي يعرضها الممثلون القادمون من الشرق؛ تشبه ‘قصة حب البروفيسور’ على نحو كبير”. وذكرت الجريدة أن “مسرحية السيد ويلارد وشركائه التي تقدَّم كل مساء على مسرح هولي، فيها أيضا بطل يعاني من مرض غامض لم يستطع طبيباه كين وهارتنغ اكتشافه، ثم هناك الفتاة الذكية التي تعرفت من الوهلة الأولى على أن مشكلة البطل متعلقة ‘بالبحث عن المرأة’ وتدريجيا تم اكتشاف علة البطل، وتحققت له السعادة عندما تم تزويجه من السيدة التي يعشقها. وكانت طقوس الزفاف طريفة ومثيرة للاهتمام”.

ورغم التشابه بين الحبكتين، فإن إمكانية الاقتباس من كلا الطرفين تبدو مستحيلة، فالتدريبات على “الدراما القلمونية” بدأت في بيروت، ويشير تقرير رجل الاستخبارات السرية حسني البيروتي إلى وجود طبيب عربي في العروض التي يتدرب عليها أعضاء شركة “العوائد الشرقية”، الذي كان تحت رقابته الصارمة، ولا يوجد دور لطبيب في المسرحيات الثماني التي يضمها البرنامج سوى “الدراما القلمونية”. إذن؛ فإمكانية اقتباس أبي خليل القباني عن مسرحية “قصة حب البروفيسور” تبدو مستحيلة، هذا إذا أخذنا بالاعتبار أيضا أن “دليل العروض” تم توزيعه في العرض الأول للفرقة يوم 1 أيار (مايو) 1893. أما “قصة حب البروفيسور” فقد كانت تعرض في مدينة شيكاغو في الفترة نفسها. وثمة عروض سابقة لها في “برودواي” خلال عام 1892، على الرغم من أن نصها لم ينشر إلا في العام 1894.

المروءة والوفاء

المسرحية الثالثة في برنامج “مسرح العادات الشرقية” هي “المروءة والوفاء”، المأخوذة عن نص لخليل اليازجي. وهي تتحدث عن قصة ملك الحيرة النعمان بن المنذر بين يوم بؤسه ويوم سعده، ومأساة حنظلة بن أبي عفراء الطائي، الذي أكرم الملك ذات يوم من دون أن يعرفه، فأتى في يوم البؤس؛ فقرر الملك أن يقتله رغم تأنيب ضميره، وقد تفهم حنظلة هذا الموضوع ولكنه طلب من الملك أن يسمح له بالذهاب إلى عائلته على أن يعود في وقت معلوم. فيتولى كفالته رجل شجاع يدعى قراد كان معجبا بهند ابنة الملك. يعرب قيس ابن شقيق الملك عن سروره لسماع هذا الخبر، فهو يريد الزواج من هند أيضا، ولذلك يسعى لتدبير مؤامرة ضد قراد، فتتدخل هند وتبطل المؤامرة، وفي لحظة حاسمة يظهر حنظلة وفاء لوعده، فيندهش الملك من وفاء الرجل ومروءته، فيقرر العفو عن حنظلة، ويزوج ابنته لقراد. وهنا تقام حفلة الزفاف بالرقصات المعروفة التي تتكرر بعد كل عرض.

وقد حظيت هذه المسرحية باهتمام لا بأس فيه من الصحافة الأميركية، بسبب حبكتها المحكمة وقوة أداء الممثلين، وهو ما دعا مراسل جريدة “سيلفر كليف روستلر” لأن يقارن بينها وبين الكوميديا الإنكليزية القديمة “دامون وبيثياس″ التي كتبها ريتشارد إدوارد في عصر الملكة إليزابيث، واضعا احتمال “أن تكون الفكرة تمت استعارتها من المصدر كما يفعل الكثير من المسرحيين في عصرنا”.

ويتابع مراسل الجريدة ناقلا وقائع المسرحية وقد بدل أسماء الشخصيات من تلقاء نفسه، ربما بحثا عن السهولة والهروب من تعقيد الأسماء العربية الجاهلية “إذا أصغينا للراوي الذي يرتدي عمامة ويفتخر بإتقانه للغة الإنكليزية ‘هذه المسرحية أيتها السيدات والسادة تدور حول ملك عظيم. هذا الملك كان له يومان، يوم سعد ويوم نحس، من يأتي ليزوره في يوم سعده يتلقى استقبالا سارا، ولكن من يأتي في يوم نحسه يكون مصيره الموت كائنا من كان، ومن دون أي عذر كان. في يوم من الأيام كان الملك في رحلة صيد في الغابة، وقام الفلاح يوسف بإنقاذ حياته، فأعرب الملك عن امتنانه وشكره، ودعاه لكي يزوره ليرد إليه الجميل’”.

ويتابع “عاد الملك إلى قصره، وبعد فترة قريبة جاء يوسف لزيارته احتراما وتبجيلا، ولكن من سوء حظه أنه زار الملك في يوم نحسه، ورأى الملك في حالة مزرية، وقال له إنني حزين. وجرت دموعه على خديه وقال: يحزنني أنك أتيت في هذا اليوم، فالقانون الذي هو أعظم مني، يقضي أنه يجب أن تموت ولا أستطيع تغيير القانون.. فرد يوسف: لا تقلق فلن أطلب منك أن تخالف القانون. فرد الملك: لو أستطيع أن أمنحك نصف مملكتي لإنقاذك لن أتردد. فقال يوسف: لا يا سيدي لا تقل ذلك فأنا لا أطلب من جلالتك سوى أن تسمح لي بالعودة إلى بيتي وترتيب شؤوني وتوديع أسرتي، ثم أعود لاستقبال الموت. فقال الملك: يفرض القانون أن تترك شخصا يكفلك حتى تعود”.

ويضيف “خطيب بنت الملك وصديق طفولة يوسف عرض نفسه ليكون الكفيل، فقبل الملك وغادر يوسف، وكان ينوي العودة في اليوم المحدد كما وعد، ولكنه صادف عصابة من اللصوص فأسروه وأودعوه السجن.. اقتربت ساعة إعدام يوسف، ولكنه لم يظهر، وكان الكفيل يعتقد بأن صديقه سيعود. وحانت لحظة الإعدام وسوف يواجه الموت. حين ظهر يوسف الذي نجا من اللصوص، وقدم مسرعا كان مكبلا بالأصفاد، وقد تأثر الملك بإخلاص الصديقين، وأعلن حصول يوسف على العفو وحمله الهدايا. وفي تلك الأثناء تم زفاف ابنة الملك من حبيبها الكفيل”.

ويقول مراسل “سيلفر كليف روستلر” “هذه المسرحية كلها تمت في مشهد واحد، وخشبة المسرح لم يتغير ديكورها، وكانت تمثل قصر الملك وكهف اللصوص والغابة أيضا، في حين تم تغيير الديكور مرتين من أجل احتفالات الزفاف والرقص”.


أحد الخطباء الذين ينادون الناس إلى المسرح

من الواضح أن المراسل الصحافي كان واسع الثقافة، وكانت ملاحظته ذكية ومحقة، ولكنه كان يجهل أن قصة النعمان تم تأليفها قبل أن يضع الكاتب الإنكليزي ريتشارد إدوارد نصه “دامون وبيثياس″ في القرن السادس عشر بأكثر من ستة قرون، فقد ذكرها الميداني في كتابه مجمع الأمثال حول مَثَل “إن غدا لناظره قريب”. وثمة أصل أبعد من الميداني لهذه القصة، مع اختلاف في الشخصيات والحبكة! فالملك الذي كان لديه يوم سعد ويوم نحس هو المنذر بن ماء السماء، والد النعمان، والبطل الآخر هو الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص صاحب المعلقة المشهور. ويمكن العثور على هذه القصة بصيغتها تلك في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وفي كتاب طبقات فحول الشعراء الجاهليين لابن سلام، ولكن تفسير هذا التناص يعود إلى أن مؤلف حكاية النعمان بصيغتها الأخيرة في العصر العباسي، وهو الميداني على الأرجح، سمع قصة “ديمان وبيثياس″ من أحد “الفيثاغورسيين” المسلمين، إذ كانت بعض الفرق الإسلامية في ذلك العصر تتبنى الفيثاغورسية مثل الدروز. وأول من ذكر هذه القصة الفيلسوف المشائي اليوناني أرسطوخينوس في القرن الرابع قبل الميلاد، تلاه الخطيب الروماني شيشرون في القرن الأول قبل الميلاد. وملخصها أن بيثياس وصديقه دامون كانا من أتباع الفيلسوف فيثاغورس. اتهم بيثياس بالتآمر ضد الطاغية ديونيسيوس الأول وحكم عليه بالإعدام. وقد طلب بيثياس بعد أن أعلن قبوله عقوبة الإعدام، بالسماح له بالعودة إلى دياره مرة أخيرة، لتسوية شؤونه ومحاولة توديع عائلته. فرفض الملك، ولكن صديقه دامون عرض أن يأخذ مكانه ريثما يعود. وافق الملك، بشرط أن يقتل دامون في حال عدم عودة بيثياس. كان ديونيسيوس مقتنعا بأن بيثياس لن يعود أبدا، ولكن بيثياس تأخر بسبب اعتراض القراصنة لسفينته، ولكنه ينجح بالتخلص منهم والعودة في الوقت المحدد وقبل تنفيذ حكم الإعدان بدامون. يعتذر بيثياس من صديقه بسبب تأخره، ويستمع ديونيسيوس إلى بيثياس وهو مذهول من صداقتهما فيعفو عنهما معا.

عرس دمشقي

المسرحية الرابعة “عرس دمشقي”، وهي في رأينا المسرحية الأولى التي يكتبها القباني عن البيئة الدمشقية المعاصرة له بتفاصيل متقنة تتضمن طقوس الخطبة والزفاف في مدينة دمشق. ولا ندري لماذا لم يطوّرها في ما بعد؟

تبدأ المسرحية بمقطوعة موسيقية من الفرقة الشرقية، قبل أن تنفتح الستارة عن بيت دمشقي نرى فيه تفاصيل حياة الأسرة المكوّنة من نعمان الأب، وزوجته منيرة، وابنته ازدهار، حيث يدور بينهم حوار حول مشاغل الحياة. يقرع جرس الباب فتفتح الخادمة، وتدعى غالية، وتخبر نعمان بوجود مجموعة من الزوار، فيأمر نعمان زوجته وابنته بالاحتجاب، ويخرج لاستقبال زواره في الليوان الخارجي. وتقوم الخادمة بتقديم المشروبات ثم النرجيلة والقهوة، وتدور أحاديث مجاملات يتلوها طلب يد ابنه نعمان لابن أحدهم، ويدعى سعيد مراد. يمتنع نعمان عن إبداء رأيه، ويغادر ضيوفه لطلب استشارة زوجته. بعد قليل يعود نعمان معلناً موافقة زوجته بشرط تلبية مطالب معينة تتعلق بالمهر. فيقبل والد العريس، ويبدأ الأصدقاء بتهنئة نعمان وسعيد مراد على الاتفاق متمنين لابنيهما زواجاً سعيداً. ويتفق نعمان وسعيد مراد على تفاصيل تسليم المهر في بيت سعيد مراد. وبعد انصراف الضيوف يتشاور نعمان وزوجته حول المهر وموعد الزفاف الذي يقرران أنه سيكون في مساء اليوم التالي. فتنهمك منيرة في الاستعداد، في حين ينصرف نعمان لإحضار المهر.

في الفصل الثاني من المسرحية نرى مجموعة من النساء بأزيائهن الدمشقية المحتشمة قادمات من منزل العريس لأخذ العروس. فتستقبلهن منيرة، وتحضر الخادمة المرطبات والمشروبات. ثم تأتي العروس من قسم الحريم في المنزل برفقة صديقاتها وتخرج النساء المحجبات باتجاه منزل العريس. وهنا نلمح عدداً من الشبان وهم يرحبون على طريقتهم بالعروس عند وصولها إلى منزل العريس. يخرج والد العريس للترحيب بالعروس في منزلها الجديد ويدعو النساء للدخول إلى المنزل، وتبدأ الاحتفالات. يدخل العريس إلى الحفلة وكلها من النساء، ويكشف وجه زوجته ثم يقودها إلى غرفة النوم. يغادر الضيوف، وتنتهي حفلة الزفاف.

لقد أجاد أبو خليل القباني في هذا العرض أيما إجادة، من ناحية الإبهار البصري واستخدام الموسيقى والأزياء والرقصات التي دفعت بالمؤرخ الأميركي الشهير بانكروفت للقول إن “العرس الدمشقي” كان أفضل عروض “المسرح التركي” وأكثرها جذباً للمشاهدين الأميركيين.


القصر الدمشقي وإلى جانبه المسرح التركي

عنتر بن شداد

المسرحية الخامسة كانت “عنتر بن شداد” وهي واحدة من أكثر مسرحيات أبي خليل القباني شهرة، إذا قدمتها فرقته العشرات من المرات في دمشق والإسكندرية والقاهرة. وتروي قصة الأمير اليمني مسعود الذي يقع في غرام عبلة منذ أن يراها للمرة الأولى، رغم علمه بأنها زوجة عنتر. فيثور عنتر ورجاله ويردي مسعود قتيلاً، ولكن مسعوداً قبل موته كان قد نجح في تأليب القبائل المتحالفة معه ضد عنتر وقبيلة عبس. ولكن عنتر يستعد لهذه المعركة الكبرى رغم علمه بضخامة الجيوش التي سيحاربها، فتأتيه بشائر النصر من الأخبار عن توافد قبائل أخرى لنصرته، وهنا تنتهي المسرحية، وتختتم بالرقصات المعروفة.

لقد حظيت هذه المسرحية باهتمام صحافي أميركي كبير، وكتبت عنها مقالات مطوّلة بعضها امتدحت الفرجة المبهرة التي انطوت عليها، والبعض الآخر أخضعها لمعايير المسرح الغربي. ولدينا أنموذجان من المقالات عن هذه المسرحية أحدهما كتبه مراسل جريدة نيويورك ديلي تريبيون بعنوان “عنتر بن شداد.. محنته وانتصاره في شيكاغو”. تضمن عرضاً للمسرحية واستطرادات تعليمية كثيرة، وسخرية ليست في محلها. وكما قال في مقدمة المقال، فإنه حضر المسرحية بناء على تشجيع اثنين من أبرز ممثلي الكونغرس يرافقهم مسؤول حكومي رفيع المرتبة!

وأضاف المراسل بعد تعليقات مشبعة بالتذاكي والغرور “لا تتظاهروا بمعرفة عنتر، ولكن سأنسخ لكم من الدليل هذه المعلومات. فهو محارب عربي وشاعر من القرن السادس. في الفصل الأول يفتتح بمسعود وهو يرتل شعراً ذا معان، مسعود الكلبي زعيم القبيلة المناوئة كانت عينه على عبلة حبيبة عنتر. قيس ملك قبيلة بني عبس يريد أن يمحو مسعود من الوجود.. الملك معجب بفصاحة عنتر وفروسيته، ولكنه يقول لعنتر إنه من الأفضل مطاردة مسعود حالاً قبل أن يتاح له جمع محاربيه وأصدقائه. ولكن عنتر لا يعطي بالاً للنصيحة ويقول: يا ملك الزمان هل من هم مثلي يخافون؟ فلو جمع مسعود صناديد محاربيه وأصدقائه وكل خيول الصحراء فلن تتحقق رغبته عندما تدور رحى الحرب. وعنتر إلى جانب كونه محارباَ وشاعراً، فهو رجل حصيف، فيسأل: من سيقوم بحماية نساء وأطفال القبيلة. فخبّره الملك أنه أمر عمارة وبني زياد بحمايتهم. ويعبّر عنتر عن قبوله بهذا الاقتراح، ويغادر لكي يمسح الأرض بمسعود. وتنزل الستارة بعد أن استغرق الفصل الأول مدة 37 دقيقة ونصف الدقيقة”.

وحول الفصل الثاني كتب مراسل نيويورك تريبيون أنه كان “قصيراً ومكرساً بالكامل للسيدات. عبلة منهمكة بحديث مع مسيكة صديقتها وكاتمة أسرارها، وتعلم منها عن حب مسعود لها، ولكن المسكين مسعود سيتم مسحه بالأرض قريباً. ومسيكة تعلق. وأرجو ألاّ تكون التعليقات شتائم لمسعود”.

وبعد استطرادات أخرى يقول “عودة إلى عنتر، قبل أن نقوم بوصف الرقصات، وكي لا تضيع منكم حبكة الدراما. عمارة كما يتوقع الجميع تبين أن شرير بدم بارد، ويستغل غياب عنتر ليغازل عبلة، ويعبّر عن إعجابه بسحرها وجمالها. في البداية تغضب عبلة، ولكن في ما بعد تحاول أن تقنعه بخطأ سلوكه، ولكنه يرفض الاستماع لها ويتابع مغازلتها. في الحقيقة يبدأ عمارة باستجداء عبلة أن تجلس إلى جانبه لكي يتكلم معها، ويمتع نفسه بتأمل عينيها الغزلانيتين. يحاول عمارة التقرب منها ولكنه يفشل في إقناع السيدة، فقد رفضت مساعيه وسلوكه المشين، فتضربه على صدره، فيستجمع نفسه ويطلب منها العفو متمنياً عليها ألاّ تقول شيئاً عما جرى لعنتر، فتقبل عبلة وتغادر المسرح، ويبقى عمارة وحيداً وهو يسرد مونولوغاً شخصياً يعبّر فيه عن ندمه، ويلعن الحب. في تلك الأثناء تُسمع أهازيج النصر التي ينشدها أتباع عنتر، الذين عادوا من “تدوير” رحى الحرب. فيقرر عمارة مغادرة الخشبة، فيدخل عنتر فيستقبله الملك، ويسرد على مسامع الملك مغامرته. فيثني عليه الملك قيس، ويدعوه للمشاركة في الرقص والغناء والمرح. ويقومون بذلك (أي الرقص والمرح) وفق الأصول الإسلامية من دون خمر، ولكن مع الكثير من الموسيقى والرقص..”.

ويدعو المراسل قرّاءه للذهاب إلى المسرحية ومشاهداتها بأنفسهم لأن العروض الأخرى في “الميدواي بليزانس″ ليست على سوية مقبولة، ناسباً الكلام إلى أصدقائه في مجلس الشيوخ، “فالسودانيون خدعة، والجاويون ليسوا على المستوى الملائم، ورجال الغابة من داهومي ليسوا على سوية مناسبة. ولكن العروض التركية هي أجمل العروض التراثية، وليس لها مثيل في ‘ميدواي بليزانس′”.

ويختم المراسل مقاله بالإشارة إلى بطرس أنطونيوس الذي يقول “من مسافة بعيدة: المسرحية التركية العظيمة عنتر بن شداد ستعرض ست مرات في اليوم على مدى ستة شهور. التذاكر رخيصة، خمسون سنتاً فقط، ويسعدنا أن نراكم مرة أخرى سيداتي سادتي“.

وتفصح الملاحظة الأخيرة لمراسل نيويورك ديلي تريبيون عن أن البرنامج المسرحي للفرقة قد تغير عما هو عليه في الدليل، إذ أن الإقبال الكبير على مسرحية “عنتر بن شداد” جعل الإدارة تكرر عرضها في اليوم 6 مرات على مدى 6 شهور.


غلاف دليل العروض التي كان يوزع على الجمهور

وصف المسرح

ولدينا مقال استثنائي عن مسرحية “عنتر بن شداد” لمراسل بيتسبيرغ ديسبيتش، نشر في أكثر من جريدة أميركية، وصف فيه العرض بكامله منذ الفقرات الفنية التمهيدية وصولاً إلى المسرحية نفسها ثم الفقرات الفنية الختامية. والحق أن هذا المراسل قدّم وصفاً ثميناً غير مسبوق للفرجة المسرحية القبانية التي تبدو مليئة بالحركة والكوميديا، والاعتماد على الترميز والاختزال. والأهم من كل ذلك كسر الجدار الرابع بين الخشبة والجمهور، وفق قوانين “العلبة الإيطالية”.

وكتب المراسل يقول “ليس ثمة شيء يميز المسرح الذي في شارع ‘ميدواي بليزانس′ عن أي مسرح ريفي يفتقر إلى مرافق الفخامة من أضواء كهربائية وكراس قابلة للطي وتنجيد راق.. إلخ فهناك صف الكراسي المألوفة، والكواليس على جانبي الخشبة، وصف من المصابيح الفاخرة. ولكن ما يميز ‘المسرح التركي’ هو الرايات والأعلام التي تحمل صورة الهلال، وصف من الوجوه غير المألوفة التي تزين الحائط، وهي صور للسلاطين والشخصيات الهامة في الدولة العثمانية. كما يوجد سجاد وستائر وطرابيش في كل مكان”.

ويتابع “قبل أن يحلّ موعد رفع الستارة لم تكن لتجد كرسياً فارغاً في المسرح وامتلأت الممرات بسرعة، وهي ضربة حظ للقرية التركية ومسرحها الذي كلف بناؤه 7000 دولار، وهو مسرح يتسع لألفي مشاهد حين يكون مكتظاً”.

وينتقد مراسل بيتسبيرغ ديسبيتش المحاضرة التي تسبق العروض ويقدّمها نعوم مغبغب “الشخص ذي المستوى العالي من التعليم”، ويصفها “بالثرثرة لمدة 15 دقيقة قدم فيها مقدمة وشرحاً للمسرحية، وأخبرنا بكثير من الأمور التي نعرفها عن بلدنا، ولم يخبرنا شيئاً عن بلده!”.

ثم يسخر من مغبغب الذي “كان بين الفينة والأخرى يثني على الرئيس الأميركي وعلى ‘نجمة بيت لحم’، وأنهى محاضرته أخيراً بفكرة مفاجئة وهي، قوله: إن معتقداتكم الدينية سوف تتعزز حين تشاهدون رقصة تؤديها سيدة من بيت لحم، والتي بمحض الصدفة اسمها ماري واسم زوجها يوسف، وطفلها، الذي ولد في المذود، قبل أن تشرّف أميركا. وكم هو جميل من هذا المولود أن يكمل الثالوث!”.

ويضيف المراسل “اختتم السيد مغبغب محاضرته أخيراً بالتمجيد، وأخذ مكانه السيد بيير أنطونيوس، والذي امتلك موهبة الإيجاز″. وببساطة أخبر الحضور، بعد أن تم تشويقهم لمدة نصف ساعة، عما سوف يسمعونه عن عنتر بن شداد “الدليل الذي تم توزيعه عليكم لا يحتوي الأحداث التي سوف تشهدونها على خشبة المسرح! سوف ترون عنتر بن شداد ثلاث مرات، لكن المسرحية تستمر طوال الأمسية. وبدلاً عن ذلك سوف تشاهدون لمحات من مسرحية أخرى بطلها مسعود الذي يذهب إلى الحرب ليجبر مالك على مسألة تزويجه من ابنته المفضلة”.

ويلفت مراسل بيتسبيرغ ديسبيتش إلى أنه خلال “حديث السيد أنطونيوس بدأت الستائر بالارتفاع لنشهد فرقة ممتعة، وبعد عزف البعض من المقطوعات سوف تشهدون انطلاقاً مفاجئاً للحن شبه مألوف لابد أن يكون “My Country، ‘Tis of Thee” (بلدي) أصغوا إليه جيداً فهو اللحن الوحيد الذي سوف تميزونه“.

الرجل الرصين ذو المعطف الطويل

ويتابع وصفه “أصدقاؤنا ليسوا أفضل من يعزف الألحان، فغناؤهم فيه تكرار، ولكنهم يؤدون مهمتهم بقوة؛ من روزا التي تتبختر حاملة العلم العثماني على كتف والعلم الأميركي على كتف أخرى، وتلوّح للجمهور مبتسمة، وحتى سعد الصغير في الخلفية، والرجل الرصين الذي يرتدي معطفا طويلا بالقرب من روزا، حيث يؤدون لحنا غريبا على نحو غير مألوف. وكانوا يرفعون أصواتهم. ويشبه صوت روزا بحدته صوت القربة الأسكوتلندية غير المتناسق.. التخت الموسيقي تكوّن من القانون والدفوف، تلا ذلك عزف النشيد العثماني الذي صدح بصوت أعلى، وابتسم الجميع وهم يرددونه، وربما كان مبعث بهجتهم أنهم يتقنونه أكثر من إتقانهم للنشيد الأميركي. وكانت روزا تلوّح بالعلم التركي بحماس وعنفوان”.

ولا شك في أن المراسل كان يقصد أبا خليل القباني عند حديثه عن “الرجل الرصين ذي المعطف الطويل”. فتأدية النشيدين الأميركي المترجم للعربية والعثماني هو نوع من التكريم الخاص لرائدنا، الذي كان يقف خلف هذا الإبهار المسرحي.

ويضيف مراسل “بيتسبيرغ ديسبيتش” القول إن “الستار أسدل وسط تصفيق وإعجاب الجمهور، والذي شاركهم فيه الممثلون أنفسهم. ولكن؛ حالما أسدلت الستارة تم رفعها مباشرة، ليبدأ عرض تؤديه ثلاث فتيات ورجل يعزف على القانون إضافة إلى عازفين على دفين وعود. كان الجميع يرتدون مختلف الأزياء الشرقية المتنوعة التي تنتشر في الدولة العثمانية. من الزي الألباني إلى الدمشقي والمقدسي ومن نواح أخرى بعيدة.. إحدى الفتيات كانت ترتدي قميصا طويلا داكنا وصدرية بيضاء وسترة حمراء ثقيلة مطرزة بالذهب، وكانت تعتمر قبعة يتدلى منها إلى الخلف منديل أبيض. كانت هذه السيدة من بيت لحم، وكان لباسها، باستثناء المنديل، يشبه لباس الفتيات الأخريات. وكان الرجل الذي يصحبها يرتدي معطفا قصيرا ويلف رأسه بكوفية تكاد تخفي وجهه.. وبآلاتها البسيطة عزفت الفرقة الموسيقية كافة المقاطع الموسيقية المرافقة للمسرحية، وكانوا بين الفينة والأخرى يعودون إلى نفس النغمة التي كانت تتردد بشكل متواصل: دو/ صول/ صول/ صول/ فا/ لا/ صول. هذا اللحن كان الثيمة التي تكررت طوال المسرحية، من أغاني روزا العاطفية إلى النهاية التي غنتها سعاد.. وكان الموسيقيون أيضا يرددون الغناء في مقدمة المسرحية، وكانوا جميعا يتنافسون في إظهار أصواتهم، وكانت هذه المنافسة تشبه الحياة على نحو ملحوظ، إذ من دون بذل الجهد لن تحظى المسرحية بنيل الاهتمام. تسدل الستارة مرة أخرى فيستقبلها الجمهور بالتصفيق”.

أوبرا حديثة

وفي تلخيصه للقصة يقول المراسل “الفصل الأول يظهر فيه رجال من قبيلة العاشق الذي دعاهم لكي يختطفوا محبوبته، كانوا حوالي 25 شخصا جميعهم لافتون للنظر، ذوو شوارب واضحة وأثواب شرقية طويلة، ويحملون بيارق خضراء وسيوف. وعبر الحديث الصاخب وترديدات الكورس نسمع حوار والد العروس وبطل المسرحية. ويردد الكورس في حوار متناغم مع البطل هذا الحوار:

- محمود (مسعود): هل سأفوز بتلك الفتاة؟

- يرد الكورس: هل سيفوز بتلك الفتاة؟

- يقول الأب: الأمر ليس بيدي.

(يخرج الأب وتظهر مجموعة من الأشقياء وهم يشهرون سيوفهم)”.

ويعلق مراسل “بيتسبيرغ ديسبيتش” على المشهد السابق بأن أسلوبه بدا “أشبه بالأوبرا الحديثة”.

ويتابع وصفه “في الفصل التالي يمكنكم تأمل آلام عبلة الجميلة (التي تقوم روزا بأداء دورها). قلب عبلة متعلق، بطبيعة الحال، بحبيبها، تدخل إلى الخشبة مشبوكة اليدين وتغني بثقة وهي تتمختر جيئة وذهابا، ثم تسرد لصديقتها مدى حبها وآمالها وخططها المستقبلية، أو على الأقل هكذا يقول السيد أنطونيوس، وتظهر صديقتها الحميمة وكأنها تعطيها نصائح سيئة.. وحالما استغرقت الفتاتان ببهجة لإيجاد حل لهذه المشكلة العويصة، يظهر فارس عربي وسيم ليغازل عبلة وهو يحاول التحرش بها بعنف. تقف عبلة وتوجه إلى صدر الشاب المصرّ لكمة تطرحه أرضا وسط تصفيق حاد من الجمهور. تنظر عبلة إلى ما حصل، وتنسحب، هي وصديقتها، تاركة العاشق المتيم يبرر هزيمته للمتفرجين”.


أبو خليل القباني رائد المسرح في بلاد الشام

وهذا المقطع يشير إلى الروح الكوميدية التي تسم العروض، وأن خشبة المسرح كانت متاحة للتفاعل بين الجمهور والخشبة، وهو أمر يبدو مستهجنا عند المسرحيين والنقاد الأميركيين الذين كان بعضهم يبدي في كتاباته التزاما بالقواعد الصارمة للعلبة الإيطالية.

ويتابع المراسل وصفه للعرض “في هذه الأثناء تدخل القبيلة كاملة، ويظهر الأشرار الثلاثة بالتتابع، وهنا فاتني الكثير من الحوار، إذ أنني لا أعلم بالضبط من هو المتهم. ولكن، في أي حال، فالشاب الضخم الأسود كان يبكي بمرارة، ويصيح: زوجتي، اللعنة، آه. ويبدو أن الأشرار الثلاثة كان لهم دور في مصيرها السيء، خاصة حين سمع الشكوى وأمر بتقييدهم وأخذهم إلى السجن، والجنود تم إكرامهم بحفل بهيج بالرقص والغناء بعد أن أدوا واجبهم في ساحة الوغى”.

ثم يصف المعركة التي اندلعت على الخشبة بأنها مدهشة وممتعة، إلى أن “يظهر البطل بسرعة شاهرا سيفه، وبسرعة ينجح في ما فشل فيه الآخرون، فيصرع خصمه بسرعة، ويقبض الحراس الثلاثة على الشقيين المتبقيين”.

بعد ذلك يصف دخول ساحرات ثلاث إلى الخشبة وهن “يمسكن بأيدي بعضهن البعض ويرتدين عباءات فضفاضة طويلة بنية اللون، عليها نقوش هيروغليفية، ويرتدين بأرجلهن خفافا صفراء، وعلى رؤوسهن أغطية حمراء وتعاويذ بيضاء جعلت وجوههن البنية تبدو سمينة تشبه لوحات الرسام الإيطالي تينتوريتو بلون أصفر شاحب خال من أي تعابير، شكلن حلقة وبدأن يغنين بأصواتهن الجُشّ، ويطلقن صرخات على أنغام الموسيقى. كان هناك راقصون بالسيف والترس، ومشعوذ يحضّر خلطاته في الهاوُن”.

ويلفت مراسل “بيتسبيرغ ديسبيتش” أنظار قرائه إلى أن “كل هذه الأمور رمزية. وبمنتهى الذوق تم إخفاء العازفين في الكواليس″، مستدركا بأن “النسوة الثلاث أطلقن صرخة، فهرب جميع المقاتلين، وبدأن يؤدين حركات بالأيدي على طريقة دلسارت وأسدلت الستارة”.

ويتابع المراسل وصفه اللافت “قرع الجرس مرة أخرى وخرج صف طويل من الموسيقيين، ولكن هذه المرة تمت إضافة الكمان، وعلى قرع الدف الذي قامت به ماري لزمة خرج فارس ألباني يرتدي تنورة بيضاء وجوارب ذهبية وسترة حمراء مخططة، وطربوشا وخفا مرصعا بالذهب، وقاد فتاة ترتدي تنورة حمراء مخططة وجاكيتا أحمر وقميص دانتيل أبيض وقبعة فضية ولف يديه على كتفيها وسارا مثل طفلين يسيران إلى المدرسة جيئة وذهابا عدة مرات، وكانت هذه رقصتهما.. بعدهما أتت الفنانات اللواتي يؤدين رقصات تراثية. لا أعلم ماذا أطلقوا على رقصتهن الأولى، ولكنني سميتها رقصة الكتف، أدتها طيرة الأطول والأنحف بين نساء الفرقة. كانت ترتدي ثوبا أحمر ضيقا، وتتنزنر بزنار، وترتدي جاكيتا مطرزا، وصدرية سميكة وردية اللون تغطيها بشال موسلين أعتقد أنه من التراث الغربي”.

ويعلق المراسل بالقول إن “هذا الشال لم يكن موجودا أصلا، ولكن بسبب التحفظات تمت إضافته إلى كل النساء الـ15 اللواتي يشاركن في الفرقة“. ومن المحتمل أنه كان يشير في هذه الفقرة إلى الحملة ضد الرقص الشرقي، أو إلى التحفظات المتعلقة بالتقارير الأمنية المرفوعة بالفرقة!

ويبدو أن الفنانة أستيرا الحكيم، الشهيرة باسم طيرة استحوذت على اهتمام المراسل الذي كتب “لم أر أي رقص يشبه رقص طيرة، لقد كانت قصيدة بايرونية (نسبة للشاعر بايرون) أقوى من الكلمات.. من دون أي تعبير على وجهها البني الجميل أو عينيها السوداوين الناعستين، أدت حركات أغرت عشيقها الذي تروي حكايته على طريقة دلسارت”.

ويتابع إطراءه بشكل لافت للنظر “لا تستطيع كلارا موريس أن ترتعش، ولا سارة بيرنار أن تهز أكتافها، أو هارييت رسل لا تستطيع أن تحرك شفتيها، ولا يستطيع دافن بورت معانقة الهواء، ولا تستطيع ليليان رسل القيام بالإيحاءات بالذقن والرقبة كما تستطيع طيرة.. ثمة المزيد، ولا أستطيع القول إن كان لديها أسراب من الطيور الصغيرة مخبأة في صدرها، أم أن قلبها فقط هو الذي يتحرك كما تشاء. كانت لديها طريقة خاصة بطرق الأصابع ظننتها للوهلة الأولى صنجات. المواهب التي تتمتع بها طيرة لا شك عديدة ومتنوعة”.

ثم يصف الرقصة الدمشقية، ورقصة روزا التي يشيد بها بوصفها “فنانة متعددة المواهب على أفضل مستوى فهي ممثلة ومغنية وراوية وراقصة”، ثم يقول إن روزا وطيرة “نجمتان على مستوى رفيع″. مشيرا إلى أن طيرة “بدأت بالرقص في سن العاشرة وكانت تجني في الأسبوع ما يعادل 150 دولارا أميركيا”.

ويختم مقاله بالقول إنه بعد العرض الذي استمر ساعة ونصف الساعة، ذهب إلى خلف الكواليس، حيث عرّفوه على روزا وطيرة والسيدة ماري من بيت لحم، وبقية أفراد الطاقم، والذين كانوا يرتدون ملابس التمثيل وهم يبتسمون. ثم يعدد أسماء فنانات الفرقة الباقيات؛ لطيفة خصكية، ونجمة الفرقة ملكة سرور، وسارة، وجينفياف، وأجاني، وجميلة، وبمبا، وهالة، وهنا وباقي الأحرف الأبجدية.

هارون الرشيد

المسرحية السادسة في البرنامج بعنوان “هارون الرشيد”، وهي تختلف عن مسرحيات هارون الرشيد الأخرى التي كتبها القباني سابقا، مثل “أنس الجليس″ و”قوت القلوب”، ويبدو أنه اختار هذا التفصيل من سيرة الخليفة العباسي بما يتناسب مع التوجهات الفلكلورية المرسومة للعروض، ومن الواضح أنه أراد إدخال عنصر الدراويش، نظرا لما ينطوي عليه من إيحاءات فلكلورية تتناسب مع التوجهات الأنثروبولوجية للعرض.

وكالعادة يفتتح العرض بملخص عن الحوار، ثم فرقة موسيقية تقدم وصلة غنائية قبل الدخول في المسرحية. ونرى في المشهد الأول قصر الخليفة في بغداد، تتبع ذلك أغنية تؤديها الفرقة. ثم يظهر الخليفة جالسا على العرش ومحاطا بوزيره جعفر، وقائده العسكري منصور وعدد من أفراد الحاشية وهم يستمعون إلى فرقة موسيقية تعزف.

يسأل هارون الرشيد وزيره جعفر عن رفاهية شعبه؟ ويجيب جعفر بأن رعاياه في حالة سلم مع أصدقاء الخليفة، وفي حالة حرب مع أعدائه، وفي أثناء ذلك يستأذن بالسماح لدرويشين بالدخول إلى حضرة الخليفة، ومن ثم يطلب منهما معرفة سبب زيارتهما. وبعد إلقائهما قصيدة مغناة يستجديان فيها صالح الأعمال الخيرية، يغدق الخليفة عليهما العطايا الوفيرة، ثم يتوجه إلى المسجد للصلاة.

المشهد الثاني يخص ولي العهد محمد الأمين ابن هارون الرشيد، حيث يقدم نفسه في المشهد مع أبي ماوية أحد أصدقاء والده المفضلين مع فرقة من المغنين. ويروي الأمين لأبي ماوية حادثة تتعلق بوقوعه في حب فتاة فقيرة رآها على ضفة الفرات، ويسأله رأيه حول الزواج بها. لكن أبا ماوية لا يحبذ فكرة الزواج، بل ينصحه بإرسال معونة لها ولعائلتها، مؤكدا له في الوقت نفسه أن عملا من هذا النوع سيكون جديرا بالتقدير عند الله والناس. فيستجيب الأمين في الحال لإشارة أبي ماوية الحكيمة. وبعد هذه الخطوات المبشرة، ووصول الأخبار بالانتصار على البيزنطيين تجري الاحتفالات.

العروس التركية

العرض السابع في البرنامج هو “العروس التركية”، وهو مقطع استعراضي بسيط يتضمن زفة العروس ذات القبقاب العالي على الطريقة التركية.

الابن الضال

العرض الثامن والأخير هو مسرحية الابن الضال، وتروي قصة نزاع بين الأخوين على ممتلكات أبيهما وهو حي، فالصغير طالب بحصته من بضائع والده والوالد يوافق، فيأخذ الابن الحصة مفارقاً والده وشقيقه الأكبر، وبعد أن ينفق النقود يجد نفسه في محنة لا حول له ولا قوة. يتأسف الولد ويعود إلى المنزل فيستقبله الوالد استقبالاً كريماً، وتقام الأفراح لعودته، غير أن شقيقه الأكبر يرفض مصالحته، ولكن بعد ضغوط الأب يوافق، ويتصالح الشقيقان.

والابن الضال بتفاصيلها هذه مسرحية معروفة على نطاق واسع في الكنائس الشرقية، ولا تزال تمثل في المدارس حتى اليوم، ومؤلفها هو الكاتب المسرحي السوري داود قسطنطين الخوري.

وعلى الأرجح لم تعرض المسرحيتان الأخيرتان “هارون الرشيد” و”الابن الضال” سوى عروض قليلة أو أنهما أوقفتا في بداية العرض. ولعل السبب يكمن في إقبال الجمهور على أعمال بعينها مثل “عنتر بن شداد” و”الدراما القلمونية” و”المروءة والوفاء” و”عرس دمشقي”.

استخلاصات فنية

بناء على الكتابات السابقة المنشورة في الصحافة الأميركية، تنهض مجموعة من الحقائق، لم نكن نعرفها عن مسرح أبي خليل القباني، تتعلق بالاحترافية العالية، والإبهار البصري، وتقنيات التمثيل والأداء، وعلاقة الخشبة بالصالة، وتوظيف الموسيقى درامياً.

ولعل الملاحظة الأكثر إدهاشاً هنا هي استخدام جريدة “كوكب أميركا” مصطلح “مدير الممثلين” أو “مدير التمثيل” لوصف وظيفة أبي خليل القباني في الفرقة. فللمرة الأولى في تاريخ المسرح العربي يتم الفصل بشكل واضح لا لبس فيه بين مدير مسؤول عن القضايا المالية والإدارية والترويج والإعلان، وهو بطرس أنطونيوس، وبين مدير متخصص بالتمثيل، أي مخرج وفق المصطلح الحديث لهذه المهمة. وقد أكدت الأخبار الثلاثة التي تناولت أبا خليل القباني في الجريدة المذكورة على مهمته الجديدة، التي اختبرها للمرة الأولى في هذه التجربة؛ إذ كان يتولى شخصيا في الفترات السابقة، بالإضافة إلى التمثيل والغناء، إدارة العمليتين الفنية والإدارية بما فيها إطعام الممثلين والموسيقيين. ولذلك استمرت الفرقة بالعمل أربعة شهور بعد اضطراره للعودة إلى سوريا بعد شهرين من الإقامة في شيكاغو.

وقد أجمع جلّ من كتبوا عن هذه التجربة على احترافيتها العالية، وامتلاك القائمين عليها لأدواتهم الفنية. وحتى الذين انتقدوا، لم يشككوا في الأداء الرفيع المتقن للممثلين. وكان لافتاً حماس بعض أعضاء الكونغرس الأميركي للعروض وتشجيعهم لمراسل “نيويورك تريبيون” على زيارة “المسرح التركي”. وهذا يشير إلى أن نخبة المجتمع الأميركي وطبقة المثقفين كانتا حريصتين على حضور أعمال هذا المسرح الذي أضحى مكان استقطاب للجمهور الأميركي منذ أيامه الأولى، وكشاهد على ذلك الزيارة الجماعية التي نظمتها الجمعية الوطنية الأميركية لمحرري الصحف لـ“المسرح التركي” في السابع عشر من أيار (مايو) 1893.

والذين كتبوا عن مسرحية “عنتر بن شداد” تحدثوا عن مخاطبة الممثل للجمهور مباشرة في بعض المواقف، ومنها محاولة عمارة تبرير موقفه “الخسيس″ للمشاهدين بعد أن يتلقى لطمة من عبلة. ولعل هذا يسبق تنظيرات الألماني برتولت بريخت حول كسر الجدار الرابع بين الجمهور والخشبة، بنصف قرن تقريباً. كما تحدث أحد الصحافيين عن مكياج للمشعوذات يشبه لوحات الفنان الإيطالي تنتوريتو. وثمة إشارة قوية إلى أداء رمزي وحركات أيدي مقتبسة عن أسلوب ديلسارت.

وتؤكد جميع المقالات التي كتبت حول أعمال الفرقة على فكرة الإبهار البصري متعدد المستويات، فالخشبة لا تكاد تهدأ حتى تعود للامتلاء مرة أخرى بممثلين يشعون حيوية، وهذا يرد على نقاد الأدب العربي المدرسي أمثال محمد يوسف نجم وعلي الراعي وشاكر مصطفى وغيرهم، والذين أقاموا أحكامهم القطعية الظالمة حول مسرح القباني بالاعتماد على نصوص المسرحيات المنشورة له. فتجربة شيكاغو والتغطية الصُحفية المواكبة لها تؤكدان أن النص كان مجرد عنصر ثانوي في الفرجة المسرحية المبهرة.

أما تأكيد النقاد الأميركيين أن الفنانة روزا كانت تغني وتمثل وترقص، فهو أمر محيِّر، ويؤشر على الجهد الكبير الذي بذله أبو خليل معها، ويدل على ابتكار الدوبلاج الحواري أو الغنائي، إذا افترضنا أن روزا لم تكن تعرف العربية الفصحى، وأنها لم تكن تمتلك صوتاً غنائيا احترافياً.

وتوضح صور الفريق المسرحي اعتماد أزياء تعبيرية، وخصوصاً القبعات المخروطية المبالغ فيها. وكل ذلك يقودنا إلى طرح تساؤل مشروع حول مصادر هذه التقنيات، وكيف تأتَّى لأبي خليل القباني أن يحيط بذلك كله من دون أن يعرف الفرنسية؟ والجواب قد يكون عند مساعده وابن مدينته اسكندر فرح، الذي تخبرنا سيرته بأنه من خريجي المدرسة العازارية في دمشق، والمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك في بيروت، أي أنه كان ذا ثقافة فرنسية رفيعة، تحدث عنها جميع الذين كتبوا عنه، من جرجي زيدان في تأريخه للتمثيل العربي عام 1905 إلى سليم عنحوري في مجلة الشتاء عام 1906، إلى توفيق حبيب وقسطندي رزق في ترجمتهما له. ومن غير المستبعد أن يكون اسكندر فرح مطلاً بشكل وثيق على نظرية ديلسارت حول أداء الممثل، فاختصاصه كان تدريب الممثلين حين عمل مع أبي خليل في دمشق والاسكندرية والقاهرة. وفي ذلك الوقت كان أسلوب ديلسارت معروفا في أوساط المسرحيين الغربيين.

أبو خليل القباني

ولد أحمد بن محمد بن حسين آقبيق، الشهير بالشيخ أحمد أبي خليل القباني، في مدينة دمشق عام 1842، واختلفت الآراء في سيرته، لكنها أجمعت على أنه بدأ التفكير في المسرح بعد أن شاهد مسرحية في المدرسة العازارية، فبدأ نشاطه المسرحي على نطاق ضيق إلى أن التقى بالوالي عبداللطيف صبحي باشا في العام 1872، حيث كلفه بتشكيل فريق مسرحي يرقّي بواسطته الأفكار السقيمة، فأسس خلال العامين 1874- 1875 أول دار للمسرح في دمشق قدم فيها بعض مسرحياته، قبل أن يثور عليه بعض رجال الدين بسبب مسرحية بعينها، فقرر الانسحاب.

وحين وصل مدحت باشا إلى دمشق في كانون الأول (ديسمبر) عام 1878، يسبقه فرمان سلطاني بتعيينه والياً على سوريا، استدعى أبا خليل وطلب منه إعادة تشكيل فريقه المسرحي، وقدم له الدعم اللازم لدوام مسرحه، فقدم خلال ست سنوات العديد من الأعمال المسرحية، وأسس مسرحه في خان الجمرك على قواعد متينة، فأقبل الناس عليه، وملأ صيته الآفاق. غير أن فئة من الشيوخ اعترضت عليه مجدداً بدواع شتى، وحاولت إيقافه عن طريق الوالي فلم تنجح، فانتدبت إلى القسطنطينية وفداً منها سعى لدى رجال السلطان إلى إيقاف القباني عن التمثيل في ولاية سوريا، وعن طريق الحيلة والدهاء نجح في مهمته. فشد الرحال إلى مصر في العام 1884 طمعاً في فسحة من الحرية. ولكن مؤامرة قذرة بدأتها جريدة “الزمان” القاهرية ضده في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1885، اضطرته في أواسط العام 1886 إلى مغادرة مصر، والبحث عن أي حلول ممكنة في ولاية سوريا، وبالتحديد في مدينة بيروت!

وثمة وثيقة عثمانية، غاية في الأهمية، مصدرها ولاية بيروت موجهة إلى مكتب الصدارة العظمى في اسطنبول؛ تتحدث عن طلب تقدم به “المدعو أحمد قباني” بحسب صياغة الوثيقة، “لمنحه رخصة إقامة ‘تياترو’ في بيروت لعرض لعبيات (مسرحيات) باللغة العربية”، وأنه سيراعي تحذيرات الحكومة في “اجتناب ما يخالف الآداب العامة”. ولكن ولاية بيروت لم تمنحة الترخيص، فعاد إلى القاهرة في العام 1889 برفقة فريقه المسرحي الضخم، وفي جعبته عروض مسرحية جديدة رفعت سقف المنافسة في أرض الكنانة. وبعد أن أنهى أعماله في مصر، في الشهر السادس من العام 1890، عاد إلى دمشق ليأخذ قسطاً من الراحة، ويقوم بواجباته حيال عائلته. ولا نعلم كم طالت فترة مكوثه في دمشق، ولكننا علمنا أنه ظهر مجدداً في بيروت في العام 1892 على رأس فريق مسرحي واستعراضي دمشقي- بيروتي كبير استعداداً للتوجه إلى شيكاغو، والمشاركة في معرضها الدولي!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.