كفي شموسك ياسُلاف

الجمعة 2021/10/01
تمثال للشاعر أبو العلاء المعري للفنان عاصم الباشا

المؤرخون الذين ترجموا حياة فيلسوف معرَّة النعمان وعصره ذكروا حادثة كانت بينه وبين صالح بن مرداس أمير بني كلاب، سببها المباشر أصحاب خمَّارة. جرت أحداثها سنة ثماني عشرة وأربعمئة، ولم يفصّلوا هذه الحادثة تفصيلاً تاماً، بل هم مختلفون في حقيقتها. وقد أشار فيلسوف المعرَّة إليها في أكثر من موضع في لزومياته. بعضهم يقول إنَّ أهل معرَّة النعمان تمردوا على صالح، فحاصرهم، فلما ضيَّق عليهم أرسلوا إليه فيلسوف المعرَّة شفيعاً، فقُبلت شفاعته.

ولكن لم عصوه وتمردوا عليه؟ يقول ابن العديم في كتابه المشهور “الإنصاف والتحرّي في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعرّي” بأنَّ امرأة دخلت الجامع الكبير في معرَّة النعمان صارخة تستعدي المصلين على صاحب الخمَّارة الذي أراد اغتصابها. فنفر كل من في الجامع، وهدموا الخمَّارة ونهبوا ما فيها. وكان صالح بن مرداس الكلابي في نواحي صيدا فأسرع إلى هناك، وعسكر بظاهر المعرَّة وشرع في قتالها ورميها بالمنجنيق، واعتقل من أعيانها سبعين رجلاً، إقامة لهيبة السلطان. فلما رأى أهل المعرَّة ألا قبل لهم بذلك، سعوا إلى فيلسوفهم يسألونه الخروج إلى صالح في معسكره بظاهر المعرَّة، والشفاعة لهم عنده. وما زالوا به حتى خرج، وقيل لصالح بأن باب البلدة قد فُتح وخرج منها رجل يُقاد كأنه أعمى. فقال: هو أبوالعلاء أوقفوا القتال. وأذن له وأكرمه وعرّفه شوقه إلى لقائه، ثم سأله: ألك حاجة؟ فلما ذكر له بأنه جاء شفيعاً لقومه، أجاب صالح: قد وهبتها لك يا أبا العلاء.

ونحن هنا نبحث مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من خلال كتابه المعروف “تجديد ذكرى أبي العلاء” عن ترتيب زمني لما جرى علنا نصل إلى حقيقة هذه الواقعة الخطيرة.

حين أطل القرن الرابع من الهجرة على الناس دخلت سلطة الخليفة في بغداد طورها الأضعف عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فقوي بذلك الضعف أمر عرب البادية في الشام، وأصبحوا يتسامون إلى الملك. ومن هؤلاء صالح بن مرداس الكلابي أمير بني كلاب وزعيمهم، وقد دخل حلب سنة اثنين وأربعمئة في خمسمئة من فرسان قومه يريدون من حاكمها الصلات والجوائز، وقد طمعوا فيه، واستهانوا بسلطته، ولكن حاكم حلب أمر بغلق أبواب المدينة، وقتل من بني كلاب مئتين وأسر أكثر من مئة، وفيهم زعيمهم صالح بن مرداس حُبس في قلعة حلب. ثم يقول ابن الأثير في روايته لهذه الحادثة أن حاكم حلب عمد إلى أزلال صالح بأن أكره أهل إحدى زواجاته الجميلات ويقال لها “جابرة” على الزواج منه، فرضيت بالأمر في سبيل أطلاق أهلها من الأسر. ثم احتال صالح بن مرداس للخلاص من سجنه وهرب إلى قومه، ثم عاد إلى محاصرة حلب في ألفي فارس من بني كلاب يضيقون الحصار على حاكمها حتى استسلم. وانصرف صالح وقد ظفر من الثأر والمال وإضعاف خصمه وإذلاله بما أراد. وبعد بضع سنين من تلك الحادثة تحالف صالح بن مرداس الكلابي وحسان بن مفرج الطائي وسنان بن عليان على أن يقتسموا البلاد، فيمتلك صالح حلب إلى عانة على الفرات، ويملك حسان الرملة الفلسطينية إلى مصر، وتكون دمشق الشام إلى سنان. وفي ذلك يقول فيلسوف المعرة:

أرى حلباً حاذها صالح

 وجال سنان على جلقا

وحسان في سلفي طيء

يُصرّف من عزّه أبلقا

وبذلك ابتدأت الدولة المرداسيَّة سنة أربع عشرة وأربعمئة. فما حكاية صالح مع أهل المعرة وحصارهم ورميهم بالمنجنيق؟ اختلف المؤرخون كما قلنا اختلافاً كثيراً في رواية الحادثة، ولكن فيلسوف المعرَّة ذكر سببها وبين نتيجتها وشفاعته فيها. فأما سبب الحادثة فهو أن امرأة لم يسمّها أحد من المؤرخين ولكن فيلسوف المعرة سماها “جامع” أقبلت يوم الجمعة على الناس وهم في مسجدهم فشكت إليهم أن أصحاب خمَّارة بلدة معرَّة النعمان تعرضوا لها وأرادوها بمكروه، فغضب لها الناس، فدخلوا الخمَّارة، وحطموا دنان الخمر، ثم هدموا الخمَّارة بما فيها. وقد رضي فيلسوف المعرَّة عن هذا كل الرضا، وحمده أحسن الحمد. فقال:

أتت جامع يوم العَرُوبة جامعاً

 تقص على الشهّاد بالمصر أمرَها

فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها

لخِلتُ سماء الله تمطر جمرها

فهدّوا بناء كانت يأوي فِناءه

فواجر ألقت للفواحش خُمرَها

وزامرة ليست من الرُّبد خضبت

 يديها ورجليها تنفق زمرها

ألفنا بلاد الشام إلف ولادة

نُلاقي بها سود الخطوب وحُمرها

فطوراً نُداري من سُبيعة ليثها

 وحيناً نصادي من ربيعة نمرها

أليس تميم غيّر الدهر سعدها

 أليس زَبيدٌ أهلكَ الدهرُ عَمْرها

وددت بأني في عمايةَ فاردٌ

 تُعاشرني الأروى فأكره قمرها

أفر من الطغوى إلى كل قفرة

أوانس طغيها وآلف قُمرها

فإني أرى الآفاق دانت لظالم

يغرّ بغاياها ويشرب خمرَها

وإن كانت الدنيا من الأنس لم تكن

سوى مومس أفنت بما ساء عُمرها

تدين لمجدود وإن بات غيره

يهزّ لها بيضَ الحروب وسُمرها

وما العيش إلا لجةٌ باطليّةٌ

ومن بلغ الخمسين جاوز غَمره

وما زالت الأقدار تترك ذا النهى

عيماً وتعطي منية النفس غُمرها

إذا يسّرَ الله الخطوب فكم يد

وإن قصُرت تجني من الصاب تمرها

ولولا أصولٌ في الجياد كوامن

لما آبت الفرسانُ تحمد ضُمرها.

وبلغ الخبر أحد كبار كتاب صالح، فقبض على سبعين من أفاضل أهل معرَّة النعمان، فقام الناس لنصرة هؤلاء، وثاروا على صالح بن مرداس وجنده. واشتد الأمر، وعظم الخطب، حتى دعا أهل البلدات المجاورة لمعرَّة النعمان في مساجدهم إلى نصرة أولئك الموقوفين في سجون صالح. فما كان من صالح إلا أن أمر بحصار أسوار معرَّة النعمان ومن ثم تأهب لاقتحامها. فهرع أهلها إلى فيلسوفهم، الذي سفه أخلاقهم وعاداتهم ومعتقداتهم وخرافاتهم، فتوسلوا به إلى صالح، فخرج إلى ظاهر البلدة. وقيل لصالح: إن باب المدينة قد فتح وخرج منه أعمى يتوكأ على قائد له، فقال صالح: هو أبوالعلاء، فدعوا القتال للنظر ماذا يريد؟ ودخل فيلسوف المعرَّة على صالح فأكرمه وشفّعه، واستنشده، فارتجل أبياتاً جاءت في اللزوميات:

تغيَّبتُ في منزلي برهة

ستير العيوب فقيد الحسد

فلما مضى العمر إلا الأقل

وحُمَّ لروحي فراق الجسد

بعثت شفيعاً إلى صالح

وذاك من القوم رأي فسد

فيسمع مني سجع الحمام

واسمع منه زئير الأسد.

وردَّ عليه القائد: بل نحن الذين تسمع منا سجع الحمام وأنت الذي نسمع منك زئير الأسد. ثم سأله عن حاجته فأخبره بها، فأصدر أمراً بالانسحاب، وترك معرَّة النعمان لأهلها.

اخترت لقب فيلسوف المعرَّة عن قصد، وأحببت أن يشيع هذا اللقب بين الناس، فهل كان أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي المُكنى بأبي العلاء المعري فيلسوفاً؟ يزعم طه حسين أن الناس لا يعرفونه إلا رجلاً ملحداً، فإذا سألتهم عن علَّة إلحاده، رووا لك أبياتاً في اللزوميات، تنطق بإنكار الشرائع، وازدراء الأنبياء، وهذا القدر هو فقط ما عرفه الناس عن فلسفة الرجل. طرح السؤال للجدل عميد الأدب العربي في كتابه القيم “تجديد ذكرى أبي العلاء” والذي قدمه إلى الجامعة المصرية ونوقش بين يدي الجمهور في الخامس من مايو سنة 1914 ونال مؤلفه شهادته العلمية ولقب دكتور في الآداب. وكان في جوابه بعد دراسة وتمحيص، نعم، يمكننا أن نسميه فيلسوف المعرَّة.

لوحة: عاصم الباشا
لوحة: عاصم الباشا

اجتمعت في فيلسوف المعرَّة المقومات النموذجية لمفكر حر، ألمَّ بفكر العرب وثقافتهم، واستمدَّ من تلك الثقافة رموزها الفلسفية، فأنضجها في أتون العقل، وصنع منها مشروعاً حضارياً عملاقاً نستطيع القول بأنه ما زال حيّاً إلى يومنا هذا. وهو بهذا القيد المعبّر الأمثل عن منحى التنوير في الإسلام. وبفضل طه حسين وعائشة عبدالرحمن عاد فيلسوف المعرَّة رمزاً من رموز الاستنارة وحرية الفكر وشجاعة العقل في العصر الحديث. تنصب في فيلسوف المعرَّة خلاصات حضارة عملاقة، كان هو جزءاً متميزاً منها، وعنصر تمرد أساسي ضدها؛ فهو نتاجها، الذي توجت فيه حتى بلغت النقطة الحرجة التي تؤذن بالانعطاف في مجراها الرئيسي لكي تستحيل إلى شيء آخر ينفيها في مجرى جديد، تنحل فيه تناقضاتها المدمرة لتبني كياناً آخر ينطلق منها دون أن يتعثر بأشلائها. ولعلها لو استجابت له حين بلغت الذروة لما سقطت شهيدة العجز عن التفتح والتجدد والديمومة. لقد استطاع بفكره الفلسفي المبثوث في مؤلفاته تجاوز زمانه ومكانه ليكون حاضراً في أيّ مسعى منشود لفيلسوف حرّ يريد أن يوحد بين الذات والنص لتوطيد سلطته الثقافية والفكرية. وقد استعملت لقب فيلسوف المعرة في أكثر من مقال منشور في الصحافة العربية وهنا أعيد تأكيده في هذا الكتاب ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وقد شجعني على هذا الأمر ابن العديم صاحب كتاب “الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري” وهو كتاب وضعه في الدفاع عن فيلسوف المعرة. روى فيه حادثة تؤكد أن إرهاصات التفكير الفلسفي بدأت مذ كان صبياً يتعثر في طرقات معرَّة النعمان المتربة. قال ابن العديم “خرجت جماعة من أهل العلم في حلب الشهباء إلى ناحية معرَّة النعمان، وقصدت أن تشاهد أبا العلاء، وتنظر ما يحكى عنه من الفطنة والذكاء، فوصلت إلى المعرَّة، وسألت عنه، فقيل لها هو يلعب مع الصبيان، فجاءت إليه وسلمت عليه، فرد عليها السلام. فقيل له: إن هؤلاء جماعة من علماء حلب جاؤوا ليناظروك ويمتحنوك، فترك لعب الصبيان، وقال لهم: هل لكم في المقافاة بالشعر؟ فقالوا نعم. فجعل كل واحد منهم ينشد بيتاً وهو ينشد على قافيته، حتى فرغ محفوظهم بأجمعهم، وقهرهم. فقال لهم: أعجزتم أن يعمل كل واحد منكم بيتاً عند الحاجة إليه على القافية التي يريد؟ فقالوا له: فافعل أنت، فجعل كلما أنشده واحد منهم بيتاً أجابه من نظمه على قافيته، حتى قطعهم كلهم، فعجبوا من فطنته وانصرفوا”.

لم يحدثنا التاريخ أن فيلسوف المعرَّة شرب خمراً أو نبيذاً، ولا شهد مجلساً تدار فيه كؤوس الخمر، ولا دعا إلى شربها، ولا حدثته نفسه بشربها، وإنما كان يمقتها مقتاً شديداً، وجعل شربها امراً عظيماً. والسبب في ذلك أن شاربها يشترى نشوتها بعقله. والعقل عند أبي العلاء أفضل الأعوان والأنصار في حياة المرء. وله كتاب مفقود سماه “خماسية الراح” في ذمِّ الخمرة، بناه على حروف المعجم، فذكر لكل حرف خمس سجعات مضمومات، وخمس سجعات مفتوحات، وخمس سجعات مكسورات، وخمس سجعات موقوفات، ومقداره عشر كراريس.

ويحق لنا أن نسأل عن تلك البيئة الاجتماعية التي عاش فيها فيلسوف المعرَّة وجعلته يقف هذا الموقف الشديد من الخمرة وأهلها؟  تعال معي نتعرف إلى الأسرة التي نشأ فيها فيلسوف المعرَّة، علنا نجد كوة ضوء نتدبر من خلالها طريقنا، والمثل يقول: كل إناء بما فيه ينضح. وخير من يقودنا في مهمتنا الجليلة هذه الدكتورة عائشة عبدالرحمن الملقبة ببنت الشاطئ، فقد عاشت مع فيلسوف المعرَّة سنين طويلة تحقق كتبه وتدرس آثاره. ولو قُدر لنا أن نسأل فيلسوف المعرَّة عن رأيه بعمل الدكتورة عائشة عبدالرحمن لسُرَّه ما قدمته من اهتمام ومعرفة بمؤلفاته وحرص على تصويبها وإظهارها للناس بمظهر يليق بمكانة فيلسوف المعرَّة، ولشكر لها عملها هذا لأنه كان في حياته شديد الحرص على كتبه عظيم العناية بها، كأنه كان يخشى من بغض الناس له من أن تضيع آثاره. ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فقد فقدت معظم مؤلفاته في اجتياح البيزنطيين لمعرَّة النعمان بعد وفاته بزمن وإحراقهم مكتبتها، ومنها مكتبته الشخصية التي كانت في منزله، وتضم مخطوطات فريدة لمؤلفاته.

تفتتح بنت الشاطئ كتابها  المسمى “أبو العلاء المعري” الصادر عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر عام 1965 وقد وجدتُ نسخة مطبوعة منه في مكتبة المركز الثقافي في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سوريا، بقولها “خرج إلى الدنيا والشمس غاربة والنهار مدبر من يوم الجمعة لثلاث ليال بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة للهجرة – تؤكد الدراسات الحديثة في العلوم الاجتماعية بأن الأفذاذ من البشر عادة ما يولدون في الربيع – وكانت ليلته الأولى على الأرض من ليالي المحاق، ولولا مولده في بيت علم وفضل لطويت تلك الليلة في غيابة الزمن، ولضاعت منا معالم الطفولة لذلك الوليد الذي قدر له أن يبهر الناس بعد حين، وجاء – وإن  كان الأخير زمانه – بما لم  تستطعه الأوائل، وسوف يغدوا أشهر من ينسب إلى معرَّة النعمان”.

وعلم فيلسوف المعرَّة باق يرفرف في سماء العلم والمعرفة ما بقي الدهر، فها هو الأديب السوداني الطيب صالح أحد أنبل من أنجبت أرض السودان يقف على قبر فيلسوف المعرَّة  في أحد أيام شهر ديسمبر من عام 1990 بعد أن استجاب – حيَّاه الله وأسكنه فسيح جنانه – لدعوة الشاعر محمد مهدي الجواهري التي أطلقها في عصرنا الحديث هذا، من خلال قصيدته عن فيلسوف المعرَّة، والتي جاءت في واحد وتسعين بيتاً، والتي أنشدها أول مرة في المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري في ذكرى مرور ألف سنة على مولده وذلك في حفل الافتتاح المهيب يوم الاثنين الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1944 على مدرج جامعة دمشق في العاصمة السورية. حضر الحفل رئيس الجمهورية السورية السيد شكري القوتلي وكان طه حسين حاضراً في تلك الأمسية، حيث اهتز وجدانه طرباً لسماعه تلك الأبيات. وراح يحدث النفس “لست أدري أيشعر الناس كما أشعر، ويجدون من سماع هذه الأبيات مثل ما أجد؟  قلبي يمتلئ لسماعها رحمة وبراً وحناناً وإشفاقاً. أترى فيلسوف المعرَّة فكر في نفسه وفيما سيقول الناس فيه بعد موته؟”.

في هذه القصيدة يمسك محمد مهدي الجواهري ناصية القول الشعري، والذي يجمع على جودته خلقا كثيرا، وتُطرب لوقعه أفئدة الملايين من البشر. يطل علينا من قمة التعبير الشعري المدهش، وليس بيننا وبينه سوى مسافة الاستجابة لهذا السحر، إنه شاعر أمة. وقد صدق نبينا الكريم حين قال “إنَّ من البيان لسحراً”. وها هو محمد مهدي الجواهري يُنشد قصيدته البائية بلكنة عراقية محببة ويده على كتف طه حسين:

قِفْ بِالْمَعَـرَّةِ وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَـا

وَاسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَـا

وَاسْتَوْحِ مَنْ طَبَّـبَ الدُّنْيَا بِحِكْمَتِـهِ

وَمَنْ عَلَى جُرْحِهَا مِنْ رُوحِهِ سَكَبَـا

وَسَائِلِ الحُفْـرَةَ الْمَرْمُـوقَ جَانِبهُـا

هَلْ تَبْتَغِي مَطْمَعاً أَوْ تَرْتَجِـي طَلَبَـا؟

يَا بُرْجَ مَفْخَـرَةِ الأَجْدَاثِ لا تَهِنِـي

إنْ لَمْ تَكُونِي لأَبْرَاجِ السَّمَـا قُطُبَـا

فَكُـلُّ نَجْـمٍ تَمَنَّـى فِي قَرَارَتِـه

 لَوْ أنَّـهُ بِشُعَـاعٍ مِنْـكِ قَدْ جُذِبَـا

إلى أن يقول:

عَلَى الحَصِيرِ وَكُـوزُ الماءِ يَرْفُـدُهُ

وَذِهْنُهُ وَرُفُـوفٌ تَحْمِـلُ الكُتُبَـا

أَقَـامَ بِالضَّجَّـةِ الدُّنْيَـا وَأَقْعَـدَهَا

شَيْـخٌ أَطَـلَّ عَلَيْهَا مُشْفِقَاً حَدِبَـا

بَكَى لأَوْجَـاعِ مَاضِيهَا وَحَاضِـرِهَا

وَشَـامَ مُسْتَقْبَـلاً مِنْهَـا وَمُرْتَقَبَـا

وَلِلْكَآبَـةِ أَلْـوَانٌ وَأَفْجَعُــهَا

أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُـرَّ مُكْتَئِبَـا

تَنَـاوَلَ الرَّثَّ مِنْ طَبْـعٍ وَمُصْطَلَـحٍ

بِالنَّقْـدِ لاَ يَتَأبَّـى أَيَّـةً شَجَبَـا

وَأَلْهَـمَ النَّاسَ كَيْ يَرضَوا مَغَبَّـتَهُم

أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَـا

وَأَنْ يَمُـدُّوا بِـهِ فِي كُلِّ مُطَّـرَحٍ

وَإِنْ سُقُوا مِنْ جَنَاهُ الوَيْـلَ وَالحَرَبَـا

لِثَـوْرَةِ الفِكْـرِ تَأْرِيـخٌ يُحَدِّثُنَـا

بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيـحٍ دُونـهَا صُلِبَـا.

يقول الطيب صالح في مقاله المنشور والمذكور أعلاه: رحم الله فيلسوف المعرَّة، لقد وقفت على قبره بمعرَّة النعمان في طريقي إلى حلب الشهباء مدينة المتنبي، تذكرت قول أبي الطيب في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي:

ما كنتُ أحسبُ قبل دفنك في الثرى

أن الكواكب في التراب تغور.

وأي كوكب غار في ذلك الثرى، كأنه عنى فيلسوف المعرَّة الذي كان أيضاً من تنوخ، وتلك من عجائب الصدف، أن يرثي السابق من لا يزال في طيات الغيب. حين سمع فيلسوف المعرَّة قول المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

 وأسمعت كلماتي من به صممُ

قال: ما أظنه إلا أنه تمناني بقوله هذا. كان الأثر جميلاً، بقدر ما تكون الآثار جميلة، حوله زرع وأزهار في باحة مبلطة بالرخام المنقوش. كان الضريح مسجداً فيما علمت، ثم جعلوه ملتقى للشباب ومكتبة. ما لفيلسوف المعرَّة والشباب؟ وأيّ عزاء له في ذلك؟ لقد فرَّ من الناس وأخلد إلى داره وأفكاره يهجو الحياة ويغازل الموت:

فلما مضى العمرُ إلا الأقلُ

وقاربت الروحُ تركَ الجسدْ

لو عاش فيلسوف المعرَّة اليوم، لأعجبه حاكم المعرَّة الحالي، رجل حسن الخلق، عالي الهمة، عميق الثقافة، محب للأدب والأدباء والعلم والعلماء. مسرور بأنه يصرف شؤون ذلك الإقليم العريق وفي عهدته رفات ذلك الإنسان الجليل. سألته إن كانوا قد اختاروه عن قصد لذلك المنصب فابتسم ولم يقل شيئاً.

 

• المقال فصل من كتاب قيد الإعداد تحت عنوان “ذمُّ الخمرة في مؤلفات فيلسوف المعرة”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.