لا شك أنه فخ

الثلاثاء 2022/11/01
حضور الواقع (رسمة لإسماعيل نصرة)

ماذا ترى الآن
من عدمك؟
أترانا نواصل
احتفالاتنا الخائبة
نحن الراقصون
في الجحيم
باعتباره
أرضنا الوحيدة.

تركت العبارة المعلقة على شاشة الهاتف، ومضت تحاول أن تكثّف من حضور الواقع في وعيها، تتكرر حولها الأشياء بإصرار رتيب ويكرر هو الأفعال ذاتها أمامها، تشعر في كثير من الأحيان، بأنهما ليسا معا أكثر من جزء مكرور يعاد مرارا في فيلم ما إلى الدرجة التي لم يعد فيها أي شيء له أن يثير دهشة المشاهد الذي ينهض لأنه قد سأمهما بدوره، لا دور حقيقيا، لا مشهد أصيلا، إنهما الآن نتاج اعتياد المشاهد ذاته على الفيلم نفسه كل يوم، المشاهد الذي يحاول أن يتحايل على شعوره بالضجر، في كل مرة، يضع أمامه ورقة وقلما، وهو يحاول أن يرصد اختلافاً ما على المشهد اليومي، وهو يطل من الزجاج الذي يكاد يلتهم جل المنزل، لا شيء جديدا وللأشياء انتظامها الرتيب نفسه، حتى ماسح الزجاج، ها هو يتدلى في الوقت المقرر له بالضبط ، يمسح  “ناظم” الغبار عن النافذة في السادسة صباحاً من كل يوم ، الصحراء قريبة، هم في قلب الصحراء، لكن هذه المدينة نجحت في التحايل على ذلك، تتقاطع عينه بعين المشاهد الوحيد خلف الزجاج ، لكنه لا يدرك ذلك، لا شيء سوى وجهه في انعكاس الزجاج، المشاهد الوحيد في الطابق العالي، يواجه عيناً عمياء، لا ترى من خلال الزجاج إلا نفسها.

قالت له جدته وهو يغادر القرية إلى مومبي، للقرية روح واحدة، وللمدينة أرواح عدة، لذلك يقصدها الباحثون عن حيوات جديدة، ومن مومبي إلى دبي، إلى حيث يزاول يومياً فعله الرتيب ذاته، وهو يتابع الحيوات من خلف النوافذ التي يمسحها، هو المتربع على قمة أعلى برج في العالم، يعاينه من أعلاه إلى أدناه، كأنه إله غير مرئي تماما، يرى المصائر أسفله وهي تتبعثر، دون أن يستطيع كالإله الحقيقي، أن يتحكم فيها، يلتصق ليلمح طيوفاً ضبابية أحياناً خلف الزجاج، يشعر بأنه يكاد يمسك بحياة ما، إلا أنه يبقى دائما كالمصاب بالغبش الثقيل، قبل أن تعود الشمس لتكثف من سطوعها على الأشياء والأماكن.

إله يهبط على الأرض، كاشفاً عن هشاشته والضآلة، له اسم واحد، وشكل واحد، وظل واحد، لكن لا أحد يلتفت له موحداً، أو رائياً، يشعر أنه عالق، عالقٌ في هذه المدينة الشاسعة، وعالقٌ في ذاكرته البعيدة، في القرية الصغيرة، حيث تتشظى كل الأشياء لتكشف عن أكثر من معنى، لكن المعاني الكثيرة هنا تجرحه، تشعره بخوائه، وهي كلها مشاعر ليس له أن يدرك طريقة للتعبير عنها.. يحمل في جيبه صورة إلهه الصغير الذي كانت صورته تلك، هي آخر ما وضعته له والدته في حقيبته، يصلّي له، وهما يتشاركان الضآلة، يتدليان معاً، ويتجاهلهما الخلق معاً.

يعود “ناظم” إلى شاشة صغيرة في الغرفة التي يتشاركها مع خمسة آخرين يشعل تلفازا صغيراً مستعملاً كان أن تحصّل عليه أحد رفاق الغرفة هبةً أو اختلاساً، لا يهم، المهم أنهم جميعاً قد عثروا على نافذةٍ أخرى يطلون بها على العالم، يشعل التلفاز، ويراها هناك، تعود إلى موضعها أمام شاشة هاتفها في إعادة مسائية للفيلم، وهي تتأمل ذلك الجالس أمامها، من المفترض أنه زوجها، لكنها، لا تشعر بأيٍّ معنى لتلك الكلمة الآن، يتشاركان سريراً بارداً، وتفاصيل أكثر برودة، تدور حوله في حلقات، لكأنها تصلّي في توسل صامتٍ لأن يلحظها، لكن لا شيء، هو صامتٌ وهي وحدها على الخشبة، تؤدي دورا مونودرامياً وحيداً، هي فيه الزوجة، اسما، والمفردة في واقعها الخشن، لا تتطور أحداث هذا المشهد كثيراً، و”ناظم” متسمرٌّ أمام وجهها رغم أنه لا يفهم شيئاً من لغة الفيلم العربية، يشعر بأنهما يتشاركان شيئاً ما لا شك أنه أكبر من اللغة أو المكان، تنقطع الكهرباء فجأة، لا شك أنها مضايقاتٌ من صاحب المكان لأن أغلبهم قد تخلف عن دفع إيجار الشهر، ينزوي إلى حيث موضعه من الغرفة وينام، ينتظره فخه الذي سيذهب إليه بملء إرادته في الغد.

المشاهد الوحيد، في الطابق المئة والأربعين ترك في رسالة انتحاره أنه أدرك الفخ مبكراً وأنه قرر أن يقفز على طريقة “جيل دولوز” لكنه لم يكن بحاجة لأن ينتظر سبعين عاماً كاملة كما فعل “دولوز” اكتفى بخمسةٍ وثلاثين، دوّن الشرطي الذي عاين موقع الحادثة ملاحظة هامشية تجزم بأنه مجنونٌ آخر من مجانين الحداثة، أولئك الذين لم يعد ممكناً أن تراهم يلبسون ثياباً مهلهلة ويهرشون رؤوسهم وهم يجوبون الشوارع، متفوهين بعبارات غير مفهومة، هم في بزاتهم الأنيقة وحياتهم الكاملة، يجلبونك في الخامسة فجراً على إثر رائحة، ودماءٍ يابسة ومسدس بكاتم صوت، بعدها بساعة تقاطعت عينا الشرطي بعيون “ناظم” العمياء وهو يمسح الغبار، هناك حاجزٌ كوني بينه وبين الدم على الجانب الآخر، الذي ليس له أن يراه، كم مجنوناً بعدُ في المدينة؟

يفكر الشرطي وهو يترك الغرفة كموقع معاينة على حالها، بما يتضمن المشهد الذي يعاد من الفيلم ذاته، والممثلة في المشهد تترك العبارة المعلقة على شاشة هاتفها وتمضي لتكثف من حضور الواقع في وعيها.. لكنها اليوم دون ذلك المشاهد الوحيد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.