ما لا نتذكره لم يحدث

رسامون من العالم العربي
الثلاثاء 2022/03/01
لوحة: زبير التركي

في البحرين وعن مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة صدر كتاب  بعنوان “رسامون من العالم العربي” بجزئه الأول الذي حمل عنوان “الفاتحون”، (608 صفحة من الحجم الكبير). في ذلك الجزء يقدم الناقد الفني فاروق يوسف سيرة للرسم في العالم العربي من بداياته إلى ما قبل ستينات القرن الماضي. كتاب هو مزيج من الرؤية التاريخية والمعالجة النقدية والنظرة الجمالية. ننشر هنا مقدمة الكتاب التي يطرح المؤلف نظريته في قراءة التاريخ الفني بمزاج جمالي. الأمر الذي يضع مسافة ما بين هذا الكتاب باعتباره كتابا نقديا وبين الكتب الموسوعية التي تكتفي بالمعلومات.  

أحلم مثل سواي بأن تكون هناك موسوعة للفن التشكيلي العربي. ذلك حلم يحتاج تحقيقه إلى عمل منظم تقوم به مؤسسة كبيرة ذات إمكانيات مالية واسعة. لا يحتاج الأمر إلى موهبة. بشر وأجهزة وأموال يرعاها خيال نزيه. لقد استطعت من خلال رحلاتي في مختلف أنحاء العالم العربي أن أتعرف على عدد كبير من الرسامين ومن أجيال مختلفة. لذلك كنت أردد مع نفسي “ذلك عمل إعجازي”. ربما لأني أجهل كيف يتم تأليف الموسوعات. عدد الرسامين في العالم العربي لا يُحصى. إنهم أكثر مما نتصور وإن كان أثرهم في الواقع لا يزال محدودا. التقيت عددا كبيرا منهم في شوارع المدن الأوروبية أيضا. إنهم هامشيون بالنسبة إلى أوطانهم الأصلية وأيضا بالنسبة إلى أوطانهم البديلة. يجادلون من أجل هوية، هي في حقيقتها جزء من الماضي. ماضيهم الشخصي. لم أقل لهم إنهم منسيون. ذلك ما لا يقع ضمن اختصاصي باعتباري ناقدا فنيا. هناك تجارب فذة وفي المقابل كانت هناك تجارب متواضعة. ولأني أؤمن أن من حق الجميع أن يرسم فقد رأيت كل شيء من غير حذر أو تكلف. غير أني لم أكن حائرا في ما يتعلق بذائقتي الجمالية. أزعم دائما أنني قد تعلمت من الرسامين الحقيقيين الذين قُدر لي أن ألتقي بهم وأرتبط بهم بصداقة متينة كيف أرى. ومع ذلك فإن ما لم ألتقه من الرسامين كان أكبر ممَن التقيت. لذلك كنت أشعر بالإحباط كلما عُرض عليّ أن أساهم في تأليف موسوعة عن الفن التشكيلي في العالم العربي. منذ عشر سنوات وأنا ألهو بالفكرة وأقلبها. فكرة الفشل في قول الحقيقة التي لن يجرؤ على التماس بها أحد. هناك رسامون عرب وما من رسم عربي. تلك فكرة يمكن أن تحررنا من المسؤولية. ولكن أيّ مسؤولية أقصد؟ لن يكون لزاما عليّ أن أفكر في رسم عربي وأنا أكتب عن الرسامين العرب.      

الرسامون وظلالهم

مشيت غير مرة وراء رسام عظيم. لا أنسى حكايتي مع عارف الريس في طنجة عام 1990. كان يُخيل إليه أن هناك حشودا من الفلاحين تتبعه. عاش في السنغال الجزء الأكبر من حياته. حين أعجب بقبعتي الخوص قال سأشتري واحدة مثلها غير أننا لم نعثر على واحدة تشبهها فاشترى قبعة من الجلد. بعد دقائق نزعها وهو يقول “أشعر كما لو أنني ألبس حذاء في رأسي”. كان الريس سرياليا في كل مراحله الفنية. كان ذلك مسوّغه لكي ينتقل من حياة إلى أخرى. لم يكن الأسلوب ضالته بل الأفكار. حدثني كما لو أنه يحدث نفسه. لم تكن لديه مشكلة مع الأسلوب. كان الأسلوب يتبعه. وهو ما يفعله الرسامون الكبار. ما من رسّام ممن شغفت بهم إلا وكانت له طريقة في الهروب من أسلوبه. كانت لديهم دائما طرق مفتوحة تقود خطاهم إلى أماكن تقع خارج سلطتهم. يعجبهم أن يتحرّروا من ماضيهم. ولكن التعرف على لوحاتهم هو شيء آخر. كنتُ أقول لصديقي رافع الناصري “أتعرف عليك ما أن أرى خطاً رسمتَه من غير أن أحتاج إلى النظر إلى توقعيك”، “ولكن أسلوبي شيء آخر” يجيبني. يصمت حين أذكرّه بزاووكي. هو لمَن لا يعرفه رسام صيني أقام في باريس. يقول لي “ليس زاووكي وحده. هناك فنانون يفكرون بالطريقة البصرية نفسها. لا تنسى أنّي درست في الصين” الرسام العربي ليس ابن بيئته كما يُشاع. ولا ابن ثقافته المحلية. علينا أن نعود إلى تجارب كبار رسامينا لنكتشف أن الرسام العربي كان طليعيا. يكفي أن نتذكر “جماعة الفن والحرية” وهي الجماعة السريالية التي تأسست في مصر عام 1938. كانت لحظة الواقع بالنسبة إلى تلك الجماعة هي لحظة الحقيقة. وبالرغم من نخبويتها، وكان ذلك أمرا لا بد منه، فإنها تركت إرثا فكريا يمكن الاقتداء به وتلمس أثره.    

الحكاية الناقصة: هل هناك رسم عربي؟

لوحة: لؤي كيالي
لوحة: لؤي كيالي

لا بأس. من الممتع أن يتصفح المرء كتابا يسرد مؤلفه حكايات عن بشر حاولوا أن يقنعوا مجتمعاتهم بأن الجمال يقع في الرسوم وأن هناك شيئا لا يقع في الواقع المباشر اسمه الجمالية بالرغم من أنه مستلهم منه. لقد رسم الرسامون العرب الأوائل بشرا يشبهوننا غير أنهم في اللوحات صاروا شخصيات مختلفة، كما لو أن الرسم أضفى عليهم سحرا خياليا. ولكن هناك ما أربكني وأنا أكتب عن تلك العلاقة. لقد قيل إن الرسم في العالم العربي كان قد بدأ مع رسامي الكنائس. ذلك صحيح، غير أنه لم يكن صحيحا تماما. ما بدأ في الكنائس هو الرسم بالأسلوب الأوروبي. في ما بعد حاولت الأحزاب القومية أن تعتمده مقياسا للرسم المحلي فاعتبرت الواقعية ورسم المناظر المحلية قاعدة لهوية الفن كما فعلت جماعة مدرسة تونس. ذلك لم يكن صحيحا. فالواقعية هي الأخرى اتجاه فني أوروبي. في نهاية هذا الكتاب هناك ما يحيي ذكرى الرسام الشعبي السوري أبوصبحي التيناوي حتى سبعينات القرن العشرين كان التيناوي يمارس مهنته رساما في السوق. كان رساما مختلفا ووقف بتجربته في خط متوازن مع تجارب الرسم الأوروبي التي صارت بمثابة حجر أساس لتاريخنا الفني.  

التيناوي من وجهة نظري هو رسام عربي أنجز رسوما عربية. أما الآخرون فإنهم رسامون عرب غير أن رسومهم لم تكن عربية. إنها جزء من التجربة الأوروبية (العالمية، حين يكون النظر إلى الغرب وحده مقياسا). ذلك ما دفعني إلى تقديمه باعتباره رساما غريبا. نموذجه ينفي الكثير من القناعات التي ارتكزت أصلا على إنكار وجود الرسم في الحياة العربية قبل أن يجلبه المبشرون الأوروبيون إلى الكنائس في القرن التاسع عشر.   

سيُقال إن التيناوي هو رسام ورقي ولم يعرف اللوحة المسندية التي تعلق على الجدار. ليست تلك حجة لنفي وجود الرسم. الرسم هو رسم ولا تتعلق صفته بالحيز الذي يحتله. دائما كان هناك رسامون لا يرسمون إلا على الورق.

 في العصف

كتبت عبر أربعين سنة عن مئات الرسامين العرب. العالم العربي هو غابة من الرسامين. من يصدق ذلك؟ ذلك حقيقي. هناك الكثير مما لا نعرفه عن أنفسنا. في كل مرة أزور فيها بلدا عربيا أكتشف جوقة جديدة من الرسامين لم أكن قد تعرفت عليهم من قبل. ولأن المؤسسة الفنية العربية متخلفة وبطيئة وتكاد صلتها بالواقع تكون مقطوعة فإنها كانت عاجزة عن استيعاب ما يجري من حولها. لذلك ظل نشاطها يتمحور حول عدد محدود من الفنانين الذين صاروا رموزا للفن في هذا البلد أو ذاك. قلة من الفنانين تمتعوا برعاية تلك المؤسسة أما الأكثرية فقد كانوا أشبه بالمنفيين. 

ولأني كتبت عن المقربين والمبعدين بالقوة نفسها فقد وجدت في هذا الكتاب حرية في أن أقول كلمتي. لست ملزما في أن أذكر الجميع. تلك فكرة ستغيظ المؤسسات ذلك لأنها تتناقض مع طريقة تفكيرها في الفن. ولكنّني هنا أفكر بطريقة نقدية وتاريخية لا علاقة لها بالتبني الرسمي. هناك فنانون مغمورون حُظيوا بعنايتي فيما اختفى فنانون مشهورون لم أجد لهم مكانا في سجلي النقدي. في هذا الكتاب خضعت لذائقتي الجمالية وورعي النقدي معا. وهو ما يمكن أن يعرضني للعصف. لا يهم. لقد عشت حياتي المهنية كلها وأنا أقف في مواجهة ذلك العصف. مخلصا كتبت عن تجارب فنية أعتقد أنها فتحت الطريق أمام العرب في اتجاه التعرف على الرسم الأوروبي بمختلف أساليبه ومدارسه. تلك تجارب تنتمي إلى عصر الرسم الجميل الذي صرنا نحن إليه مع مضي الوقت. الفاتحون هم أبناء ذلك العصر. لكل واحد منهم حكاية مع الرسم. وهي حكاية تستحق أن تُروى ويُنصت إليها باعتبارها درسا. لذلك مزجت حين الكتابة بين الفن والحياة. في أحيان كثيرة كنتُ جزءا من الحكاية باعتباري شاهدا. سيكون علي أن أعتبر نفسي ناقدا منحازا.   

الفاتحون

لوحة: زبير التركي
لوحة: زبير التركي

بغض النظر عن الطابع الانتقائي الذي سيطر عليه مزاجي شخصي وهو حق نقدي أمارسه من غير أن أخون التاريخ فإني اتبعت منهجا في تسلسل الأسماء يستند إلى سنة ميلاد الفنان في الإشارة إلى ظهوره التاريخي باعتباره فاتحا، ولهذا أغلقت قوس الريادة عند سنة (1935). ذلك لأني أعتقد أن مرحلة الفتح كانت قد انتهت مع ظهور فنانين ولدوا في تلك السنة أما المولودون بعدها فإنهم ينتمون إلى مرحلة أخرى من مراحل الرسم الحديث في العالم العربي هي مرحلة الحداثة الثانية وهم المغامرون. لقد خصّصت هذا الجزء لمرحلتي التأسيس والحداثة الأولى. غير أنني كنت أقفز أحيانا على أسماء فنانين ارتبطوا بمرحلة التأسيس غير أن تجاربهم اتسمت بالضعف الفني كما هو الحال في العراق فقدمت فناني الحداثة الأولى باعتبارهم روادا وفي المقابل سيلاحظ القارئ إني اكتفيت بالتركيز على مراحل التأسيس كما هو الحال في تقديم التجربة التونسية. غير أنني وقفت حائرا أمام بلدان الخليج العربي التي نشأ فيها الفن متأخرا جدا بسبب حداثة تكوين تلك الدول. وهو ما دفعني إلى أن اكتفي بالكتابة عن الفنانين الخليجيين الذين ولدوا قبل عام 1935 باعتبارهم جزءا من التجربة الفنية العربية الشاملة دون الدخول في تفاصيل نشوء الفن التشكيلي المتأخر في دولهم.

من المؤكد أن رسامين خليجيين ولدوا في أربعينات القرن العشرين أدى ظهورهم إلى إحداث تحول كبير في الحياة الثقافية في بلدانهم من جهة أنهم فرضوا طريقة في التعبير الفني لم تكن معروفة قبل ظهورهم. هم أيضا فاتحون. بل إنهم فاتحون بامتياز. ذلك لأنهم كافحوا من أجل نشر الفن في مجتمعات لم تكن مدنية. لقد تأثر فنانو تلك البلدان بتجارب فناني الريادة العرب ومن ظهر بعدهم وسعوا إلى أن تكون محاولاتهم استمرارا لتلك التجارب. وهو ما يؤكد المنهج الذي اتبعته في اعتبار العالم العربي منطقة فنية واحدة. لذلك لم أتبع التوزيع حسب البلدان بل حسب سنة الميلاد. وهو ما دفعني إلى أن أضع أولئك الفنانين في الأماكن التي تحفظ للكتاب سياقه التاريخي.

لا أبالغ إذا ما قلت أن دهشتي كانت كبيرة وأنا أتنقل بين تجارب الرسامين العرب الذين عاشوا مرحلة التأسيس وما بعدها. لقد رأيت رسوما عظيمة. هذا صحيح. وصحيح أيضا أن كل واحد من أولئك الرسامين عاش شظفا كبيرا في حياته من أجل أن يكون مخلصا لفنه. غير أن درسهم لا يزال قائما. نحن في حاجة إلى أن نعود إليهم بين حين وآخر. هناك تجارب كثيرة لا تزال تنطوي على سحر عظيم. وإذا ما كنا نعجز عن رؤيتهم مجتمعين في متحف فلا بأس أن نراهم كذلك في كتاب، هو عبارة عن “متحف خيالي”.

السيرة كما عشتها

أحيانا كنت أجدني وأنا أكتب واقفا في خضم الأحداث التي أحاول وصفها. لقد كنت هناك شاهدا. بل كنت أحيانا جزءا من الحدث إذا لم أكن بطله. هناك عدد من الفنانين ممن وردت أسماؤهم في هذا الكتاب كنت قد ارتبطت بصداقات عميقة معهم وأزعم أني تعرفت على تجاربهم الفنية من الداخل. لذلك كنت أستطرد في سرد وقائع لا يعرفها أحد، لأنني عشتها شخصيا وأنا أحاور الفنان أو أتنزه معه في شوارع مدينة ما. سيبدو الأمر كما لو أني أقتطع جزءا من سيرتي وألصقه بين منعطفات سيرة ذلك الفنان. الأمر ليس كذلك. فأنا لم أرو إلا الوقائع التي كانت تشير إلى شيء ما يقع داخل التجربة الفنية. فسيرة الفنان هي مجموعة الوقائع التي عاشها واقعيا وخياليا على حد سواء. وإذا ما كانت الوقائع الخيالية يمكن التعرف عليها من خلال تحليل أعماله فإن الوقائع التي جرت على سطح الواقع لا بد أن تكون مشتركة مع آخرين.

كنت أنا في بعض الأحيان ذلك الآخر الذي اشترك في صنع الواقعة.

وهنا لا بد من التذكير بأن الفنان ليس عمله الفني. لذلك لا يمكن التعرف عليه كليا من خلال عمله فقط. بل أن هناك مَن يتخذ من عمله الفني قناعا يختبئ وراءه فلا يظهر منه شيء. وهنا تحل الحياة المباشرة لتكون وسيلة يتم التعرف من خلالها على الفنان فهو كائن عيش أيضا.

تلك صفة لا يرغب فيها الكثيرون ويحبها عدد قليل من الفنانين.

بقدر ما هو متاح يسعى الفنان العربي لأن لا يكون فنه محاولة للاعتراف الشخصي. وهنا تكمن واحدة من أهم مشكلات الرسم الحديث في العالم العربي. تلك المشكلة تكمن في انفصال الفن عن الحياة. فأنت لا يمكنك أن تتعرف على حياة الفنان من خلال نتاجه الفني. هذا طبعا مرتبط بالموقف الاجتماعي السلبي من ثقافة الاعتراف.

وعلى العموم فقد حاولت قدر الإمكان أن أسبر غور حياة لم تكن مرئية لعدد كبير من الفنانين الذين عرفتهم أو الذين لم تتح لي فرصة التعرف عليهم لأكشف عن الممرات الخفية التي كانت تجري فيها مياههم الشخصية التي مزجوا فيها حياتهم بفنهم. كانت مهمة ليست يسيرة.

سيرة لم أعشها

لوحة: الشعيبية طلال
لوحة: الشعيبية طلال

عاش عدد من الرسامين ترفا غير متوقع بسبب رسومهم. في المقابل فإن الأغلبية عاشت حياة هي نوع من الكفاف. أتذكر هنا أن الفنان العراقي نوري الراوي وقد كان مولعا بالكتابة وأرشفة التاريخ الفني كان قد وصف زيارته إلى مرسم الرسام العراقي الرائد عبدالقادر الرسام في الصابونجية وهي إحدى محلات بغداد فوجده يعيش في فقر مدقع. كان ذلك الضابط العثماني السابق الذي ينتسب إلى دولة لم تعد موجودة يسعى من خلال الحرفة التي تعلمها في باريس أن يسد رمقه. كان يرسم من أجل أن يعيش. وهي واقعة ينبغي الوقوف أمامها بقدر من الحيطة والاحترام. فالرجل الذي عرف بالرسم “الأوروبي” وكان مؤسسا لم يكن على دراية بما يفعل. كان يرسم لأن الرسم هو وسيلته الوحيدة في العيش. ربما يكمن ترفه الوحيد في تلك الصورة التي التقطت له وهو يجلس بين رسامين ينتمون إلى جيلين لاحقين، كانوا يعرفون عن الرسم باعتباره وظيفة ثقافية واجتماعية ما لم يتعرف عليه. ذلك درس فريد من نوعه. الصورة التي بقيت هي الدرس. هناك ما تتعلمه الأجيال بصمت. هناك فنانون مروا من غير ضجيج غير أنهم تركوا أثرا لن ينسى. شيء من هذا القبيل حاولت أن أتتبعه. كان ذلك مصدرا قويا للإلهام. صحيح أن هناك فرقا بين رسام يعرف ما الذي يفعله على مستوى الارتقاء بالذائقة الجمالية ورسام يكتفي بالرسم وسيلة للعيش الكريم غير أن النوع لم يكن على استعداد لخيانة المهنة من أجل الربح. تلك معادلة كانت هي الحد الفاصل بين الفن الحقيقي والفن التجاري.

العمل الموسوعي ضرورة

كان هناك وعد دائم بتأليف موسوعة يكون الفن التشكيلي في العالم العربي موضوعها. هناك مؤسسة فنية واحدة وضعت ذلك الوعد قيد التنفيذ. لقد سعدت شخصيا بتلك الخطوة بالرغم من أنني لاحظت أن معظم العاملين في ذلك المشروع لم يكونوا عربا أو أن معرفتهم بموضوعه كانت متواضعة. تلك مشكلة اعتقدت المؤسسة المعنية بالأمر أن في إمكانها أن تحلها عن طريق المال. غير أن الطريق كانت شائكة ومعقدة ومليئة بالدسائس. ما صار جليا بالنسبة إليّ أن تلك الموسوعة لن تصدر إلا بعد ثلاثين سنة أو أكثر من ذلك. لقد كان العمل يتم ببطء شديد. وكما يبدو فإن غياب المساءلة كان عاملا مساعدا في الاحتيال على المشروع من خلال سرقة الوقت. بحيث صارت الرواتب تُدفع من غير مقابل. لم يكن هناك مَن يعمل. تعطلت الموسوعة تلقائيا. تلك الموسوعة هي اليوم حاضرة وغائبة في الوقت نفسه. كان خطأ تلك المؤسسة فادحا حين تعاملت مع المشروع بشيء من سوء الفهم المتراكم حين اعتقدت أن كتّابا أجانب يمكنهم أن يكونوا محايدين أكثر من الكتّاب العرب في النظر إلى التاريخ الفني العربي من غير أن تدرك أن جهل أولئك الكتّاب بالموضوع سيكون عائقا جوهريا يحول دون إنجازه. وهو ما حدث فعلا. لقد ضاع الوقت وأهدر مال، كان في إمكانه أن يغطي تكاليف أكثر من موسوعة. اليوم علينا أن نفكر بطريقة مختلفة. من وجهة نظري كانت التجربة الفنية العربية غنية بالأساليب والأفكار والرؤى والأحلام والوقائع ذات المغزى لذلك فمن الضروري التعرف على تفاصيلها. يجب أن نكتب عن تلك التفاصيل مهما كانت صغيرة. هناك بشر وهبوا حياتهم من أجل أن يكون الجمال ممكنا، بعد أن فتحوا أعينهم على صحراء، وجدوا أن من واجبهم ان يؤثثوها بأشياء هي من صنع خيالهم. جزء كبير من حياتنا الجمالية هو من صنع الفنانين. التفكير في عمل موسوعي عن الفن في العالم العربي ضرورة. 

رسامون أحبهم

أن تكتب عن رسامين تحبهم فهذا معناه أنك تقوم بنزهة في حديقة، سبق لك أن اخترعت عددا من  زهورها. أنت تمشي وراء عطر تلك الزهور محمولا على أجنحة، تعرف أنها لن تخذلك. هذا ما حدث لي بالضبط. فالرسامون الذين كتبت عنهم، على اختلاف أساليبهم وميولهم النفسية كانوا بالنسبة إليّ جوقة أصدقاء. ذلك ما أعانني على التعريف بهم والانزلاق إلى تجاربهم بخفة. كتبت عن الرسام في محترفه باحثا عن أسرار حياته التي كانت مرجعيته الخفية. فالرسام كما أرى ليس نتاجه الفني وحسب بل وأيضا حياته التي تسللت إلى لوحاته وصنعت درسه الذي لا يُنسى. لقد سعيت لعدم الفصل بين التجربة الفنية وتجربة العيش المباشر، كونهما من وجهة نظري الشيء نفسه. وإذا ما كان هناك نقص في المعلومات التي تتعلق بحياة الرسام، بسبب كسل بعض الرسامين وضعف الاهتمام لدى المؤسسة الفنية فقد سعيت جاهدا إلى البحث عمّا يسد ذلك النقص عن طريق السؤال الشخصي. وهو عمل مرهق، تخلله نوع من الشك في أن تكون كل الأخبار صادقة. لذلك قد تكون هناك أخطاء قد وقعت، غير أنني على يقين من أنها ليست أخطاء فادحة. وكما هو معروف فإن قراءة التاريخ لن تكون نهائية، ما دام البحث مستمرا مع تجدد وتطور أدواته التي يمكن أن تعيننا على اكتشاف وقائع لم تكن معروفة. فإذا كانت محاولتي هي خطوة في طريق طويل فإنها ستكون بمثابة الجرس الذي يُذكّر بواجب، سيضع الكثيرون أنفسهم في خدمته. ما أود هنا الاعتراف به وقد يكون نوعا من الفائدة الشخصية التي قد لا تتكرر أن مزج الحياة بالفن وهبني سعادة أن أكتب بحب عن الفن باعتباره حياة مجاورة. فكان عليّ أن أعتبر أن الكتابة هي الأخرى حياة مجاورة.        

مرجعيات محلية

لوحة: فائق حسن
لوحة: فائق حسن

ما الذي نعرفه عن مؤسسي فن الرسم في العالم العربي وهم رواده؟ قلة من المختصين تعرف ما يتوجب معرفته. فهناك باحثون اجتهدوا في تأليف عدد من الكتب كانت عبارة عن حفريات في التاريخ الفني الحديث للمنطقة. وهي كتب إما ألقت نظرة على ذلك التاريخ مجتمعا أو نظرت إليه بطريقة مجزأة وكانت كتبا مفيدة. 

وفي الغالب فإن تلك الكتب لم يتم النظر من خلالها إلى الرواد المؤسسين منفردين بتجاربهم الفنية. كان هناك هاجس يتعلق بالكشف عمَّن بدأ الرسم أولا. وهو ما لا أجد له ضرورة إلا في سياق معالجة أكاديمية ضيقة. لذلك فقد قررت أن أتصفح أوراق تجارب الفنانين الأوائل واحدا بعد آخر، كما لو أني أتصفح كتابا وضعته الحياة بين يدي. أنا هنا أعيد رواية أحداث، كان لها أكبر الأثر في تطوير معرفتنا بالرسم ومن ثم الارتقاء بذائقتنا الجمالية إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على التمييز بين ما هو جميل وسواه من خلال الصنيع الفني.

وبعكس ما نحن عليه الآن، وهو ما ورثناه من عصف مرحلة كانت الأسوأ في تاريخنا الفني هي مرحلة ستينات القرن العشرين فقد كان التراكم في الخبرة مبدأً معمولا به في الحقب التي شهدت تأسيس الفن التشكيلي “الرسم بشكل خاص” في العالم العربي. كان مهما بالنسبة إلى الرسام أن تكون لديه مرجعياته الفنية التي تقع داخل المحترف المحلي إضافة إلى مرجعياته الأجنبية.   

وهو ما راعيت الإشارة إليه في سرد مجوعة الحكايات التي تبدو في النهاية كما لو أنها سلسلة متماسكة ومحكمة.

ذكرى النسيان

“ما لم نتذكره لم يحدث” تلك الجملة رافقتني أثناء العمل على هذا الكتاب ــ المشروع. جملة يمتزج من خلالها الألم بالتحدي. ألم النسيان وتحدي الذاكرة. العكس صحيح أيضا. فالنسيان يتحدى فيما الذاكرة تتألم. لم يكن الحرص وحده كفيلا بإنقاذ الذاكرة. فالمعلومات تشيخ، بمعنى أنها تتراجع وتذوي وتتدهور بسبب الإهمال وغياب الصيغة المناسبة لوضعها في مكانها الحقيقي. لقد حاولت أن أكون وفيا لذائقتي الجمالية وأنا أخوض وسط ركام من التجارب الفنية والإنسانية مطمئنا إلى أنني لم أمارس النقد الفني إلا بسبب شغف لا يمكن تفسيره أو الإتيان بما يعادله على مستوى المنهج العلمي. وإذا ما كنت قد قضيت وقتا طويلا من أجل التأكد من صحة المعلومات التاريخية فقد حرصت على أن أقضي وقتا أطول في تأمل التجارب الفنية في محاولة مني لرصد القيمة الجمالية لتلك التجارب في سياق تشكل المحترف الفني العربي. سيبدو ذلك واضحا من خلال التركيز على القيمة الفنية واعتبارها أساسا لبناء الحقائق التاريخية التي يمكن أن نعيد من خلالها تركيب المشهد. بهذا المعنى تكون هذه المحاولة قد استعانت بـ”الفني” على اعادة ترميم “التاريخي”. فأنا تذكرت ما حدث لا لكي أؤكد حدوثه بل لأضعه في مواجهة سؤال مصيره. لم يكن هناك مسعى لمحو فقرات من التاريخ الفني بقدر ما كانت هناك رغبة في القبض على الخيط الممتد من مرحلة البدايات المدرسية إلى مرحلة البحث الشخصي مرورا بمرحلة التأسيس. لذلك لم أشعر بحاجة إلى وصف العلاقة بين فنان وآخر لحق به بقدر ما كانت تلك العلاقة هي التي تفرض وجودها من خلال تسلسل عفوي تشكلت من خلاله مرجعيات المحترف الفني العربي.    

الشكر على سعته

وإذ أتقدم بالشكر إلى مركز الشيخ ابراهيم الثقافي وإلى الشيخة مي بنت محمد آل خليفة شخصيا لتبنيهما نشر هذا الكتاب فإنني هنا لا بد أن أعترف بأنني كان من الممكن أن أعمل إلى ما لا نهاية من غير أن أعرض كتابي على دور النشر العادية. كانت لديّ أسبابي الشخصية التي يتقدمها شعور عميق باليأس من إمكانية إنتاج كتاب فني بمواصفات عالية تليق بمادته. غير أن هناك سببا آخر لذلك الامتناع يبدو كما لو أنه مزحة. فأنا كنت كلما نشرت كتابا أشعر بانقطاع صلتي به، وأنظر إليه باعتباره كائنا غريبا. ولأنني أحببت ولعي بالتجارب الفنية التي عملت عليها في هذا الكتاب فقد كنت أرغب في أن يظل ذلك الولع ملتصقا بي في كل لحظة التفت فيها إلى ما فعلته كما لو أنني فعلت ما لا أقوى على فعله. غير أنني حين أطلعت على مشروع الشيخة مي آل خليفة الثقافي الذي يشكل مركز الشيخ إبراهيم في المحرّق بالبحرين ركيزته تخليت عن أوهامي ورغبت في أن ينتمي كتابي إلى ذلك المشروع التنويري. حدث أشبه بالأحلام. أن ترى كتابك محلقا بأجنحة تهبه قوة الأمل. وهي القوة التي تنعشه بمعان مكتسبة من مشروع أكبر منه، هو مرآته التي تجمع الأزمنة الحية في زئبقها. ذلك هو المعنى الذي سعيت من أجله منذ اللحظة الأولى الذي بدأت فيها بتأليف هذا الكتاب. وإذا ما كنت اليوم لا أتذكر السبب الذي دفعني للبدء بتأليف هذا الكتاب فإن ما تحقق يعوضني عن السؤال.

لوحة: فخر النساء زيد

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.