محاولة فهم ما يجري

الجمعة 2016/04/01

نعيش في منطقتنا العربية الموبوءة بالاستبداد والدّم لحظة قاتمة ومختنقة بالضجيج. الجميع يصرخ إمّا وجعًا أو كي يلفت الانتباه إلى الحل السحريّ الذي يملكه ويراه وحده القادر على إخراجنا من الأزمة. هذا الصراخ أصبح مشكلة في حدّ ذاته، لأنه يكاد يحجب القلّة الواعية فعلًا باللحظة وخطورتها.

أنا أميل إلى ألا يكتب الرّوائيّ شيئًا في لحظة الدّم.

الكتابة عن هذه اللحظة في ذروتها تجعله أسيرها بشكل أو بآخر. على الرّوائيّ أن يحتفظ بمسافة عقلية ووجدانية عما يحدث كي تنضج أفكاره ومشاعره حيال ما يحدث، وكي يكون قادرًا على التقاط ما عجز عنه الخائضون في الدّم، فعلًا كان أم قولًا. مهمة الرّوائيّ في هذه الحالة تختلف ولا شك عمّا يفعله الصحفيّ والسّياسي على سبيل المثال؛ إنه ينأى بنفسه عن الغرق في التفاصيل التي تلوكها وسائل الإعلام كل يوم، ينأى عمّا يراد للناس معرفته والاقتناع به، يبقى بعيدًا بما يكفي لينظر في عموم المشهد، في الصورة الكبيرة التي تتطلّب تأملًا وتبصّرًا عاليين. لهذا يبدو الرّوائيّ ظاهريًا على هامش الأحداث، منزويًا وغير مبالٍ، لكنّه فعليًا في القلب من كلّ ما يجري.

برأيي أنّ الرّوائيّ يكتب بالدرجة الأولى للقلّة الناجية من ضجيج الآني والباحثة عن مساحات تفسير أكثر هدوءًا ونضجًا، ثم لأولئك الذي سيأتون لاحقًا ممتلئين بالسؤال عمّا حدث بالضبط، أولئك الذين ستبدو أمامهم الصورة أكثر تعقيدًا وهم يصطدمون بروايات شديدة التناقض حول الضحية والجناة. لكنه ورغم ذلك، هو لا يُشبه المؤرخ أيضًا. ثمة زوايا وهوامش لا تعني المؤرخين هي في صلب اهتمامه. ينصبّ تركيز الرّوائيّ على الإنسان، على خسائره غير المرئية، تلك التي يعدّها المؤرخون نصرًا مؤزّرًا بمقاييس اللحظة الراهنة. إنّه يلم جوهر ما يتساقط منّا في ذروة نشوتنا الزائفة بالامتلاء، يضيء المناطق العمياء في إدراكنا ووجداننا، يمنحنا فرصة أن نتقدم أخيرًا خطوة إلى الأمام في محاولة فهم ما يجري، عوض حركتنا الدائبة في المكان ذاته.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.