محاولة في قراءة قصيدة

"غدّارة الجنرال في بحار الجنوب" لعبدالعزيز جاسم
الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: جهاد حسن

تصعب المجازفة في البحث عن مكمن “قوة الحدس الشعري” في قصائد الشاعر عبدالعزيز جاسم، تجربة ممتدة بعمق الاشتغال والتراكم الحيّ وطاقة مخزون جارف من الأكوان والعلامات، كما أنه يصعب التملّص من الأثر المحرّض على تدفق الوعي الذوقي، إنك في حالة انخطاف شعريّ، تحاول أن تدخّر جزيئة واحدة صغرى، لتكون إزاء سطر مبتدأ يحاول أن يتزن ليوجد حالة وصف خاصة بتلك الجزيئة الأم. فكانت جزيئتي المدّخرة هي اللغة.

مع قصيدته” غدارة الجنرال في بحار الجنوب” المنشورة في أعماله الشعرية الصادرة عن دار التنوير – بيروت 2017، يصعب التكهن بسر تلك القوة الصوتية المتمثلة بمغناطيس أزليّ، بصفاء شعري مطلق يعانق دهشة حيوات مجهولة. لا تعلم، أنت متئدٌ وحذِر من أن تستل نصل الضوء الشعري على عجل. وهذا الفضاء الغزير يسحبك من أزمنة شاسعة نحو عمق بعيد، يمتدّ وينتهي بك حتماً إلى الغرق في الصمت. ياله من غرق شعريّ رحيم ينقذك بلطف وذهول.

سأجازف.. لا بأس.. وأقول لعل في شِعره عِنَاد البحّار، حين يُقْسِم ألا يعود إلى اليابسة أبداً. مفارقاً كل الثوابت. أو ربما، روح الملاح في علوّ حدسه بالامتداد المُطلق.

أو قد يكون النّسر الذي خُلِق لا ليهدأ، بل ليُكثر حَجُّه وطوافه المؤنس لقمة الوجود…

أو لعله الجين القديم في مهد الأرخبيل الجلفاريّ المعجون بماء الملاحم، جلفار التي هي “الأكثر من صلاة.. الأكثر من عمود فقريّ في الريح“، إذ يبدو الصلصال الأوليّ لقصيدته كتلة واحدة ملمومة ومنصهرة داخل طبقات كيان بدئي قديم، كيان من وجع اليابسات والسلالات، شيفرة أبجدية عتيقة. وأظن أن الأرض الجلفارية كفيلة بحفظ تردد الطاقات القديمة المكتشفة للإنسان.

كتب

الطاقات التي أعنيها ليست مقتصرة، كما هو مألوف، على تلك المعثورات واللقى والخزّانات والمدافن الأثرية تحت الأرض، وإنما أعني خيمياء الأرض و(تردد الروح /أثر روح الميت على اليابسة والماء) وجموحه المستفز للأحياء، الميت الذي لم يكن عبوره في الأرض عادياً، وإنما أنتج في الكون خلوده الخاص وجماله الاستثنائي. فهناك في العالم السفليّ للوجهة الصحراوية الخصبة تأتمن رمال رأس الخيمة على عظام القصيدة في ضاحية (الخرّان)، حيث ينام في أبديته الماجدي بن ظاهر، الشاعر الذي ولّد سؤال التأسيس الإنساني في الإبداع الشعريّ الخلاق.

في المقابل.. تتلو الزُّرْقة المعانقة لرمال الوجهة البحرية سيرة الملاح الفلكيّ الشاعر (شهاب الدين أحمد بن ماجد) الحيّ في الماء والأشياء على جلفار، رديف السفر والفضول والاكتشاف، وطرق الوداع واللقاء والترقب، إذ يبدو أن امتداد روحه لم يكن في الشأن الملاحيّ فقط، وإنما اتسع وتعمّق على صعيد التكوين الداخليّ والتراكم اللامرئي في الكينونة البحريّة الشعرية. ولا أجمل من جنوح الكينونة الفلسفية داخل سِفْرِ اللغة، داخل وجهها الاستفزازي، وتحوير وشائجها بما يفيض على يابسة العالم.. إلى بنية ماكرة عميقة ذات قوة شعرية عالمية، دائبة التجدد والارتقاء والتوليف بين ذخيرة لغوية حيّة بالدلالات الجديدة والاستبصار والحدس.

***

غدارة الجنرال في بحار الجنوب

(1)

في فصول شعريّة سينمائية نشاهد الملحمة العظيمة لجلفار في قصيدة “غدّارة الجنرال في بحار الجنوب” وفق نسق متسلسل تمرُّ فيه الأحداث بمتْنِها وهوامشها بين الضباب الفَجْريّ والدّخان، ومراكب الصيد، والقذائف، وخبز الأمهات، والحرائق، والرّماة والبحارة المفقودين، تتموّج في حركة تنوس وفق سياق داخلي للغة جلفارية، وحين أنسب لجلفار اللغة، فإني لا أعني الأبجدية واللفظ الظاهريّ وإنما أشير إلى الذاكرة والحكمة المتراكمة عبر العصور داخل نسيج اللفظة، أشير إلى طاقة الأحداث في العبارة المأخوذة بالكبرياء والعناد والصمود والنار والينبوع والصلاة والأضرحة، مفردات تنتمي إلى المعجم الملحميّ لجلفار القديمة، لغة شعر الشمال القصيّ المتأصل بصهيل عرس منسيّ وصليل مأساة مندلعة، ونداءات حصاد لم يكتمل في السهوب، عظام وسِهام ورسائل حجرية وزوابع وصدى عميق لعواء ذئاب جريحة بين الأودية، لغة يبدو صلصالها الحيُّ في قصيدة عبد العزيز حداثياً؛ إلا أنك تشعر بها تتدحرج في الما قبل، في البرق القديم والحلبات الكبرى للعواصف، لغة تتبع تردداً أخّاذاً ينبعث من السحيق، من زمن المتون الأولى وصدوع هزّات أرضية كبرى.

وفي قصيدة “غدارة الجنرال” تبدو لغة الشاعر أكثر شبهاً بالنّذور المعقودة عند نهايات البِحر أو الصواري، وُلد فضاؤها بين شِعاب الترقب والتنبؤات. أيمكنني التفصيل أكثر؟

إنها لغة نَصْل قديم لإرث جلفاريّ مكنوز، لغة بِذرة قاسية لوجود يتداعى بين الآلهة والشياطين، بين الأفلاك والغمر العظيم، لغةٌ بقفزةٍ واحدة لمُحارب.. تُسمع فيها شهقة الدّروع والمدافع والمعسكرات والطوفان ومردة الجن وصيحة مسمار يُدَقُ في آخر نعش بشريّ على الأرض. وفي القفزة ذاتها نحدس بلغة السطح اللؤلؤي لمياه الساحل، لغة الماء ومرساة القاع والملاحين والوجود الصافي المنجذب بانسيابية لكل حركة ممتدة في دورة الطبيعة:

كان الفجر بارداً، وجلفار الملتحفة بغيمها وأبراجها وسُورها. الطاوية أحلامها حول معصمها كيدٍ تحضنُ مهد العالم. جلفار الشبيهة بالعافية الخضراء، المتكاثرة مثل خلايا النحل في تصحُّر الوقت وشحوب القبائل.

(2)

لوحة: جهاد حسن
لوحة: جهاد حسن

يبدو المشهد الشعريّ السينمائي في القصيدة متراصفا بنسق ضدّي ما بين: معجم شعري ثائر وشرس يتصل بتشابكات جلفار على حافة البَرد وقارّات العصور المهجورة المُلبدة بالصواعق والأعاصير والمحاربين والجياد وارتطام النعوش بقاع السماء:

جلفار الصرخة النافذة في خرائب الدّم وأعمدة الهلاك

من نزلنا بحبالِنا في مهاويها كي ننقذ عيونها المتبقية.

يقابله معجم شعري آخر من الصلوات وهدأة جلفار بين شجيرات القُرم وظلال الجبال، المستريحة باكتفاء وتخلٍّ، كشرود روحيّ لدرويش تحت ضوء نجمة، تبدو جلفار في القصيدة كمعبد وحيد من الملح والرّيش والشجر والماء والجبل، هذيان أرخبيلي يمتدّ من زمن المضيق الحُرّ الذي أبحر من خلاله فوج هائل من المتصوفة والأصداف والبحارة، نهضوا على اليابسة كالمحار الأبيض، وتجوّلتْ خيولهم الخضراء باشتعال روحي مؤنس. وقد تعبر في القصيدة رائحة خاطفة للخزف والطين والأفران في السهول وعزلة القيعان الحجرية:

جلفار المربوطة مثل وشاح مُشجّر في عُنق البحر

تغشاها الهدأة وتحرسها الحكمة كربّة الأوليمب

جلفار التي هي أكثر من صلاة وأكثر من عمود فقريّ في الريح

جلفار التي ساقتنا واحداً واحداً، على دروب الملح كي نجرّب الموت دون أعذار.

***

أعود لأحفر في جذوة السؤال نفسه: كيف يمكننا رصد الزلزال في قصائد شاعرنا عبدالعزيز جاسم؟

هذا سؤال جيل بأكمله، الجيل العَطِشُ للدهشات الشعرية العميقة. ووفق شِرعة الخاطر وإصابة القول التفافاً وبحثاً عن إجابة افتراضية بين القصائد، رأيتُ الشاعر عبدالعزيز جاسم في لوحة أنطولوجيّة، ببداهة وجودية حساسة “(كان) يُسافر كمظليّ يهوي من السماء العاشرة، من دون أن يفتح مِظلته. (كان) يسافر كغجريّ، أو ملّاح أو متسلّق جبال. (كان) يسافر كتمثال من الماء، أو كيوغِيٍّ يسيرُ في النّوم، ويطيرُ فارداً قامته بين النجوم”.

كان كل أولئك وأكثر، (كان) المترددة هنا محمولة بدلالة اتصال الزمان من غير انقطاع.. اتصال الشاعر بحالة السموّ الغجريّ فوق السديم وجذوة الطيران البِكر والعذوبة اللامنتهية، استعارة لشيء ديموميّ أكثر تجريداً وحرية وصلاة فوق بخار النبع الشعريّ.

كم يصعب التكهن والمجازفة بالتأويل. ألم أقل ذلك منذ البداية؟ لكنه عناد القارئ أيضاً حين ينوي دخول مغارة الشعراء بحثاً عن البوصلة، ويحدث نادراً أن يألف البقاء في الداخل، تنسيه الدهشة المغارية باب الصخرة التي دخل منها، تنسيه الحياة في الخارج. هذا ما تفعله بوصلة الحدس والرهبة داخل المغارة الشعرية لعبد العزيز جاسم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.