محاولة للعثور على الذات

الخميس 2021/04/01
لوحة: دينو أحمد علي

1

أكتب الشعر لأسحبني من بركة سحيقة البقاء فيها طويلا يفضي إلى انتحار. أكتب الشعر كي أعثر عليّ من بعد ضياع، ولأجد ضالتي في العدم القادم على ظهر فيل من أرض ليست هنا. أكتب الشعر لأنه بضاعتي أنا الزاهد عن كل سوق وعن كل بضاعة. أكتب الشعر لأن خيطا رفيعا بيني وبين الموت، ولأنني جئت من أرض بعيدة. أكتب الشعر لأنه قدري الذي أكاد أعرف مدالفه ومدافنه وشعابه وبحاره وغيومه، وفي الوقت نفسه، أوشك على الانفلات مني إلى يد آلهة بيضاء. أكتب الشعر لأضاعف من أرقي حتى طلوع الصباح، ولأن السهر مشكلتي الأجمل. أكتب الشعر لأنني بلا حدود وبلا نهايات وبلا أشرعة في هذا المحيط الشاسع المزدحم بي. أكتب الشعر لأن سؤال كتابة الشعر هو الوحيد الذي يمكنني الإجابة عنه في سبعين مليون كلمة وأشعر حينها أني لم أقل شيئًا، أو إنني قلت كل شيء.

أريد من القصيدة أن تنفر بعيدًا كي أطاردها بين الشعاب والجبال والمراعي والمنحدرات وفي أعماق الماء. بصيغة أقرب: أريد من القصيدة أن تكمل ضحكتي وأن تنهي عذاباتي وأن تبتسم لي -ليلا أو نهارًا _ كلما ابتعدْتُ عني وانشغلت بتأثيث الفراغ. كما أريد منها أن تكون نجمتي المتفردة وقلادتي ليوم المحشر. وأريد منها أن تعبر بي مطارات المنفى حاملًا شعارات مناوئة للتبلد. أريد من القصيدة أن تتجدد على يدي، وأن تشرق كل مرة من تلال وحدتي الممتدة حتى آخر هضبة في سيبيريا المتجمدة. أريد منها أن تفتح صدري لتسمع ما أنا فيه من اضطراب واحتراب وموسيقى. وألاّ تبتعد كثيرًا كلما كنت في حاجة للاحتماء بها وللاختباء مني ومن شياطيني.

في الشعر، أحاول أن أعمل ما يعمله نجار في دكانه: ترميم نوافذ الكون وترتيب زجاج الروح، لا أكثر. كما أرغب دوما في كتابة الأعماق وقد دأبت منذ حين على أن أكون سابقا للزمان متكئًا على جذع نخلة في حديقة وراء المستقبل.

بالمعنى الحرفيّ: ليس لديّ أيّ مشروع شعري. ما زلت أتخبط بين ألف صحراء، حافيًا وعاريًا تحت الشمس، وكل دقيقة تمضي من حياتي، محسوبة في حياة مشروع قادم أظنني سأنجزه. التحقت بفيسبوك أواخر 2010، وأتذكر أنه بعد عامين فقط، أي في 2013، ذهبت أجمع منشورات ومخفورات كثيرة تنزلق في الحائط الذي ينتهي عند عرش ملائكة ويمتد حتى فيلادلفيا. أسميتها: كتابة المنفى؛ كتابة الشتات؛ تفاعل رقمي شبه مجنون؛ اللوح الفيسبوك؛ مناورة مع تنّين. وغير بعيد، في يوم ما من أيام 2019، كنت بدأت في صفحة أولى أسميتها “فيسبوكيات البردّوني” أو “البردوني مفسبكًا”، كيف يقضي عبد الله البردّوني أوقاته في فيسبوك بعد سنوات من غيابه؟. وما يشبه المشروع الشعري، تقريبًا: أحاول أن أهتمّ بمنجز قصيدة النثر اليمنية، من العام 2000 فصاعدًا.. وقدمت ملفات في هذا الصدد، لكنها لا تزيد عن كونها “قشور انطباع نصّي” في الدرب المحفور بالبارود، المنهوب بلا نهاية. يدفعني لذلك، قلة من يلملمون منافي هذا الشعر الشاب واليافع والمتجدد والمغاير والمنفعل.

2

هذا سؤال أكبر مني. أعتقد أن عناويني أجمل من محتوى ما أكتب في السياق، ولم ينتبه لها نقاد الشعر. أتحدث عن عناوين النصوص والأعمال المخطوطة الجاهزة للطباعة التي تنتظر مني وقتا لترتيبها بشكل نهائي. عدا هذا، لا أحاول أن أفهم ما تقوله معظم نصوصي، فأنا لا أدري كيف كتبتها: لا أخطط لكتابتها مسبقًا. فمن أي زاوية في مجراتي طلع هذا النص أو ذاك؟ لا أدري.

3

ثمة أسماء فارقة في شعرنا العربي الراهن، فلا يمكنني تصور ألاّ يكون هناك وديع سعادة أو صلاح فائق أو محمد بنطلحة أو سيف الرحبي. هذه الأسماء كل منها مغاير وله تجربة مختلفة ومُشتغل عليها، في ما نقرأه الآن.

ليس بالضرورة أن أحد هؤلاء ترك أثرا خاصا أسهم في بعث دوافعي في كتابة الشعر. لكن، تصور معي: أن لا أحد من هؤلاء: فائق؛ سعادة؛ الرحبي؛ بنطلحة، على هذه الأرض؟

إلى ذلك، أنا على يقين أنني أكتب الشعر لأن الله اختارني لأكون شاعرا في لحظة خلق قد تكون قديمة وقبل آلاف السنين. هذا يعني أن ما في قدرتي، الآن، أنني شاعر. وأشكر الله أن جعل مني شاعرًا ولم يجعل مني سائقًا لشاحنة بترول على طريق صنعاء – الحديدة. لست راض عن معظم نصوصي وكتاباتي حتى الآن. وأعتقد أن لي دوافعي الخاصة في الكتابة الشعرية ولست ممن يتأثر سريعا بما يقرأ. فأنا أكتب عكس ما أقرأ. وقد أقرأ كتابًا في فيزياء الكون، مثالًا، فيلهمني لكتابة شعرية. الأمر فيه مكافآت من نوع ما، وما عليك سوى أن تشعر بارتباك، وأن تكون حائرًا أمام أسئلة كثيرة أولها الوجود وآخرها أنت في ارتباكاتك وغموضك ونزوعك للفرح والأغنيات ولكسر الرتابة بما هو أكثر عزلةً وطقوسًا وجنونًا.

4

بالفعل، سوق الشعر العربي اليوم ملأى بكتابة خرقاء ودواوين كزبد البحر، وقصائد متناسخة حتى في مسألة العنونة، تكاد لا تفرّق بين عنوان وآخر: تشابه وتناسل مرعب للكلمات. غير أن هذا لا يعني أنه ليس هنالك من هو صاحب مشروع حقيقي. خذ مثالًا: أدونيس. أليس شاعرًا مهمًا؟

5

الانهيارات الروحية فعل قسري، في زماننا هذا. بعض الوقائع والأحداث واليوميات والمستجدات تكسر الصخر وتفتته، ما بالك بروح شاعر فيها من الرهافة والأناقة والحزن والوجع والهموم ما يجعل منها أكثر قابليةً للانكسار. هذا زمان قاس برغم أدواته ورقمياته. الصمت أحيانا قصيدة. والصمت هو الفناء في حضوره الشبحيّ الجميل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.