مزمار قمر الذئب الدموي

السبت 2022/10/01

في ليلة من ليالي ديسمبر يرتفع صوت مزامير الجن في السماء، وتمر الأرض بين الشمس والقمر، لتتوارى الشمس خلف الأرض، ويتحرك القمر في ظل الأرض الذي تعكسه الشمس، مكملاً دورته مكتسباً ظلا شديد الحمرة عند رؤيته من الأرض، في مشهد خسوف يخترقه عواء الذئاب كمزامير تدق أبواب السماء، فيكتمل القمر مستوهجاً بلون قرمزي، وتغطيه مجموعة من السحب السوداء في شكل ذئب.

يعم الظلام الكون ويلتف بعاصفة جليدية كأنها أنفاس تنين تلقي بأغصان الأشجار المهشمة في الشوارع، تزداد كثافة الثلج حتى يغطي البيوت والأشجار، فتتعالي أصوات أشبه بطلقات الرصاص من الشقوق التي تحدث بجذوع الأشجار، فتسقط جذوع الأشجار على خطوط الكهرباء التي تسقط بدورها علي الأرض وتتلوى مثل الأفاعي وهي تبصق شرراً كهربائياً أزرق يحوّل كل ما حوله إلى ألوان لا حصر لها، تصعق النظر وتميت القلب.

بدأ الظلام ينسدل تدريجياً، وتهدأ العاصفة قليلا، لكن البرد بدأ يشتد محولاً كل ما حوله أقرب إلى عظام ثلجية ميته براقة مختلفة الأحجام.

تتباعد السحب تدريجياً كاشفة عن وجه القمر. فيلمع الثلج الذي حول الشوارع إلى سطح أبيض براق يخترق هذا الظلام القابض للأرواح.

عواء شيء ما آت من لا مكان وكل مكان، مثل عواء الذئاب. بدا أنه آت من لا مكان وكل مكان، مثله مثل ضوء القمر الذي يغمر الكون آت من لا مكان وكل مكان.

إنها مراحل تحول القمر إلى ذئب دموي متجسداً في شكل ذئب يطل بعينيه الحمراوين من السماء المظلمة، يهر بصوت مرعب يضج تدريجياً الي أن يصير عواء أشبه بمزامير الجن في السماء.

بعدها يبدأ الذئب الدموي يرتفع على حافة السماء ويركض نحو الأرض بقوة نارية بفرائه المشعث باللون الأحمر البرتقالي في لهيب النجوم وعيناه شعلتان ناريتان براقتان… ذو يدين آدميتين.. ولكن قد حلت المخالب مكان الأصابع.. كأنه شيطان يمكن أن يكون في أي مكان وأي موضع أو هيئة…

إنها بداية تحالف القمر مع الشيطان ليرقصا رقصة الموت على مزامير الجن.. على تيار أخضر ذهبي هادئ من ضوء النجوم… ليتغير شكل القمر الدموي ليلاً ويتحول إلى مستذئبة تتجول في الغابات وهي تتظاهر بأنها ذئب بلا ذيل كي تتصيد فرائسها في الغابات..

تبدأ المستذئبة البحث عن حبيبها البشري ذي الساعدين العضليين الموشمين حتى تجده وتقرر مراقبته كل يوم ليلاً.

وفي إحدى الليالي كان حبيبها ينهي عمله في لحظات متأخرة جدا، وكان المكان خالياً تماماً فأسره نسيم الليل الهادئ الذي يحرك أوراق الشجر على حدود الغابة.

لبث بعض الوقت يتنسم الهواء، متأملاً ضوء القمر الأحمر الذي ملأ سماء الليل وراح بريقه ينعكس على الأرض. كان يتذكر شبابه الأول وحبه القديم.

في هذا الضوء الهادئ سمع صوتاً خافتاً، ورأى غصون الشجر تحت الشرفة تهتز وتتباعد.

شعر أنه ليس على ما يرام تلك الليلة، مريض أو مرهق ربما. إذ ذاك وقع نظره على فنجان قهوته المعدني المفضل ووجده يلمع كالمرآة، وفي سطحه العاكس المقوس رأى شيئاً لا يصدق.. شيئاً جعله خائفاً، وبينما هو يستدير صدم بذراعه فنجان القهوة، فيسقط أرضاً ولطخت القهوة المكان، حرك ساعديه وندت عنه صرخة ألم في نبرة خائفة. نعم هو خائف، لقد نسي وزنه الثقيل وعضلات ساعديه المفتولة.

نسي كل شيء إلا المستذئبة التي تقف هنا أمامه على قدميها الخلفيتين، وتمشي كما تمشي المرأة وتحدق فيه بعينيها الجاحظتين الحمراوين اللامعتين زافرة أنفاسها الحارة في وجهه كأفعى تقذف لهباً أخضر ذهبياً له رائحة البارود. الضوء الأحمر يلمع على فرائها ويمنحه بريقاً قرمزياً. ها هي تتضخم أمامه كالسحر الأسود أو كوحوش أفلام الرعب. وحش خرج من الشاشة فجأة. ها هي تتحرك حوله ببطء محاولة تشمم رائحة ضعف الضحية. تتقلص شفتها العليا التي لونها مثل لون الكبد، كاشفة عن أنياب صفراء طويلة حادة.

يحاول حبيبها النظر إلى اللون الأحمر الذي يتوهج في عينيها، يشعل عود ثقاب في وجهها ليخيفها، ينطلق منه بعض الشرر، فيحرق شعيرات دقيقة في يديها، تتراجع المستذئبة إلى الوراء للحظة، وتطلق زئير ألم وغضب يخترق أبواب السماء.

تتعالى أصوات مزامير الجان في السماء يخالطها المزيد من العواء، تنقض المستذئبة على حبيبها فيسقط أرضا. فيض من الدم يخالطه زفيرها الحار ممزوجا باللون الأحمر، إذ تغوص أنيابها في عضلة ظهره.

يتأرجح حبيبها واقفاً على قدميه مصدوماً لا يستطيع التنفس. لكن صدمته ما هي إلا عاطفة حب سوداء. يستيقظ من صدمته، ويستشعر النزف في ظهره، يحاول الصراخ وهو يشتم رائحة الفراء المحروق يملأ أرجاء المكان، بينما ضوء القمر الدموي يسبح من النافذة.

يشعر فجأة أن شيئاً ما يتغير داخله. وجهه يلتوي وأنفه يتسطح ويطول، يزداد بدانه. قميصه القطني ينتفخ ويتمدد، فجأة تتمزق الخياطة، تثب خصلات شعر قوية من صدره لتزداد كثافة وتملأ أنحاء الجسم والوجه. شفتاه الرقيقتان تتشققان لتكشف عن أنياب حادة وغليظة. يداه تتحولان إلى مخالب. صار وجهه الباسم الرقيق شيئاً حيوانياً وعيناه البنيتان صارتا خضراوين ذهبيتين مخيفتين.

صوته لم يعد صوته، تحول إلى نوع من العواء المتواصل. يقفز من النافذة، ليكون ضوء القمر الدموي آخر ما يراه حبيبها المذؤوب الممسوخ. ليتحقق تحالف رقصة موت القمر الدموي مع الشيطان على مزامير الجان. في ضوء اللون القرمزي المميز لخسوف القمر.

قيل “إن الشيطان يسير بيننا في كل مكان.. عند اكتمال القمر الدموي دورته، يتخذ أي وضع ليتجسد ويحيي رقصة الموت”.

وكذا الحب يشبه الموت أحيانا.

إنها حبيبته قاتلة الليالي القمرية، عادت لتشاركه رقصة الموت على مزامير الجن.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.