من الموجود إلى الوجود

الأحد 2023/01/01
لوحة: حمود شنتوت

أنا كائن موجود في هذا العالم، وجدت مصادفة، أنا المصادفة التي راحت تعيش وتعمل وتفكر وتحب وتغضب وتحقد وتتأمل وتأمل وتخاف من العدم حباً بالحياة.

أعرفُ وأدركُ وأحسُ وأشعرُ أني أنا موجود. لا أحتاج إلى دليل إطلاقاً، ولن ألعب لعبة الشك الديكارتي كي أدلل على وجودي، ولست محتاجاً إلى أحد كي يقنعني بأني موجود، وأنا أعرف كيف أتيت إلى هذا العالم ولا أفتقر إلى أي دليل على صحة ما أنا معتقده من قدومي.

أنا وجود، وأنت وهو وهي وهم.. كل ما سبق موجود وجوداً خاصاً ووجوداً عاماً.

وإذا أنا أكتب بقلمك الحبر الفاخر جداً على هذه الأوراق الجميلة، أتأمل قلمي الأسود وريشته الذهبية، فأشعر بكبريائي..

أضع نظارة على عيني، أجلس على كرسي مزخرف زخرفة شامية، وطاولتي التي تتبعثر عليها الأوراق والدفاتر والكتب هي الأخرى من نمط الأرابسك.

فن الطاولة والكرسي ينتمي إلى مئات السنين لكنهما مصنوعان قبل سنوات قليلة.

ما الذي جعل الصانع الشامي يزخرف الطاولة والكرسي المصنوعين من خشب الجوز بالأصداف بأشكال جميلة جداً.

إنه وعيه الجمالي بما يجب أن يكون عليه الأثاث الفاخر المرتبط بالحضور.

تلك القصور المزخرفة والقلاع العظيمة تنسيك بناتها ومن عاشوا بها بكل صخب الحياة، إنها الآن مسكونة بالعدم.

حين أرفع رأسي لأستريح أو لأفكر في الجملة، تظهر أمامي صورتا والدي ووالدتي اللذين قضياً موتاً عادياً أتذكر الموت أحياناً حين أنظر إليهما.

رحلا بكل حنينهما إلى طولكرم ويافا، وحبهما للأولاد والأحفاد، كثير من المحتلين الذين حملوهما على الهرب قد ماتوا وآلوا إلى العدم.

أصوات تتهادى إليّ من جهاز التلفزيون دون أن أفهم معانيها، وتنبهني ضحكات أولادي الثلاثة. مطالب جسدي تنبهني إلى ضرورة أن ألبي نداءات جسدي، أقوم خاضعاً لمطالب الجسد،، أسمع رنين الهاتف، إنه شخص يحتاج إلى مساعدة، أعده بالخير، أفرغ من نداءات الجسد وأعود إلى طاولتي وكرسي، يرن جرس هاتف نقالي.

أتأمل بالرقم كي أقرر أن أرد أو لا.

أحمل الهاتف النقال متوجهاً إلى شرفة مسوّرة بسبب ضيق مساحة البيت أسمع صوت انهمار المطر، وضجيج السيارات المتقطع.

تذكرت أن واجبي أن أنهي تقريراً علمياً لتقويم الإنتاج العلمي لأحد المرشحين للترفيع إلى مرتبة أستاذ كي أقدمه صباح الغد إلى مجلس التعليم العالي. أعيش صراعاً صعباً بين مطلب الموضوعية والحياد تجاه أعمال المتقدم الذي لا يستحق الترفيع، وأعلم بأنه متطفل على الفلسفة، من جهة والشفقة عليه. تنتصر في النهاية موضوعيتي وأرفضه، فيكرهني ويحقد عليّ.

تخبرني زوجتي – وهي تقطع عليَّ قراءة الإنتاج العلمي التافه للدكتور المرشح – أن العدوّ قد دخل مخيم جنين، وتطلب مني أن أشاهد المنظر في التلفزيون، ابني يشتم، وابنتي الموجودة في البيت تبكي.

وأعلم بأن الفلسفة التي أكتبها، والشعر الذي يهجم وحيه علي لن يُنجي مخيم جنين من عنصرية المحتل.

ولكني أعلل نفسي بوجود كما يجب أن يكون فأتابع همومي على الورق.

أترك الكتابة وآوي في ساعة متأخرة إلى النوم. أحب النوم وأتمنى لو لم يكن هناك نوم، أو أن الجسد لا يحتاجه، لأنه يحرمني اليقظة، إنه فعلٌ لاإرادي، حالة حيوانية. حين أفكر بالنوم أراه عدماً مؤقتاً، تجربة في الموت، فكل فقدان علاقة صاحية بالحياة شكل من أشكال الموت. حين يذكرك النوم بالموت يخلق لديك شعوراً بالقلق الوجودي، لكن انشغالك بالزائل والمبتذل ينسيك العدم، فأقرر أن أكتب نصاً بعنوان “نسيان العدم”.

لوحة: حمود شنتوت
لوحة: حمود شنتوت

أخرج في الصباح، متأنقاً، أختارُ ربطة عنقي بدقة، بعد أن أغتسل وأشرب القهوة وأتناول الفطور، أدخل بسيارتي حرم الجامعة، وأنزل رافعاً رأسي، أسلّم على الأساتذة والطلبة أدخل قاعة المحاضرات، التي أستمتع بنظرات الطالبات والطلاب المليئة بالإعجاب.

من أنا الموجود في هذه الطقوس الجامعية؟ أنا ببساطة سلطة، أمتلك سلطة خطاب، سلطة نص، سلطة معرفة، سلطة حضور، وسلطة وظيفة.

لكني أنا الموجود سلطة أكره السلطة الحاكمة، بل أكره أيّ سلطة، لكني معجب بسلطتي.

أخرج من الجامعة إلى المواعيد والأحاديث التي لها معنى والتي لا معنى لها. أنظر إلى الساعة فأدرك ضرورة العودة إلى البيت لتناول الطعام مع زوجتي التي لا تتناول الطعام دوني إلا إذا اعتذرت منها.

لقد تغير وجودي مع الزمن، ففي طقوس الحب قبل أن أكون بنية أخضع لها، كان الوجود أزرق، أنا لست أنا الآن وهي ليست هي الآن.

في المساء يكون الطقس اليومي الكتابة مرة أخرى. خلفي مكتبتي، المليئة بكتب أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وابن رشد، وكانط وهيغل وماركس.. و سارتر وفوكو.. إلخ، كلهم ماتوا وتركوا إرثهم للجميع، ها أنا في المقهى بعد سيري على الأقدام في شوارع المدينة التي أحب، فدمشق تنسيني أني لاجئ من مدينة طولكرم، لكنها لا تنسيني بأني ابن القضية..

أشرب القهوة مع الأصدقاء، عدد كبير من الجالسين الذين يحبني بعضهم ولا يطيقني بعضهم الآخر.

والسؤال عن الحب والكره ينقلك من الموجود إلى سؤال الوجود.

يمر من أمامي أشخاص، يلقون التحية وأنا لا أعرفهم، أو لا أعرف أكثرهم.

صديقي الذي أواعده خائف دائما من الاعتقال ويتوقعه، إنه معارض للنظام، أسير وإياه خارج المقهى، نأكل الأكلات السريعة في مطعم شعبي.

صديقي المتمرد أكثر شجاعة مني، مع أننا متشابهان في كرهنا للسلطة، أوصلته إلى بيته في سيارتي المتواضعة، وفي صباح اليوم التالي هتفت إليّ زوجته بصوت حزين: لقد اعتقلوا ميشيل يا دكتور.

ها هم يعتقلون كل طقوس الفرح البسيطة التي عالمها مطعم شعبي ومقهى وزيارة أصدقاء واحتجاج لغوي، وشتائم للنظام.

ها أنا الآن أستمع إلى صوت أم كلثوم، أحن إلى أيامها الجميلة، أم كلثوم تذكرني بعبدالناصر، الذي تربطني به علاقة متناقضة أحبه قائداً وطنياً، وأعيب عليه دكتاتوريته.

أم كلثوم تشحذ ذاكرتي فتضعني في قلب الماضي، ياه: جزء مني أصبح ماضياً يقيم في ذاكرتي وأستدعيه دون إرادة.

ماذا يعني أن أكون حاضراً من جهة وماضياً من جهة ثانية، أنا الموجود وجود متناقض، تناقض العدم والوجود.

فجأة يأتيني هاتف من القاهرة يحدد لي موعد المؤتمر الفلسفي القادم، تمر بقرب سيارتي سيارة، يطل منها وجه لا أعرفه يبتسم لي ويحييني بحرارة، أرد عليه بالمثل دون أي شعور بالمتعة أو الفرح فأنا لا أعرفه.

ها أنا في حوار مع صديق حميم، نتحدث بصدق وعفوية، أسرّ له ويسرّ لي، جلسة مليئة بالكلام المباح وغير المباح، صديقي كاتم أسراري، يعكر صفو جلستنا شخص نعرفه، يجلس دون استئذان، يسألني عن رأيي في ديوان شعره، أغمم الأمر، لأني لا أريد أن أقول له إن شعره ضعيف وسخيف.

أعود إلى البيت وأستمع إلى نشرة الأخبار، أسمع أكاذيب زعماء لم يزعمهم أحد، وأقرف من تعليقات العملاء الصغار، يستوقفني الغرب السياسي الذي يدمر العالم من أجل مصالحه، وأتساءل كيف لهذا التقدم الحضاري ولهذه المجتمعات الحرة أن تنتج عصابات قتل للشعوب؟

أقف على الشرفة أحلم أن لي بيتا في أعلى الجبل، إنه بيت من الخشب الأسود، يطل على الوادي، في الليل أسمع عواء الذئب وصوت الريح، وفي الصباح أسمع تغريد العصافير.

البيت وحده في أعلى الجبل وأنا وحدي.

أحلم بأني مواطن دولة عربية من المحيط إلى الخليج، قوية ديمقراطية، ولم يبق من الصهاينة أحد، سوى أولئك اليهود الذين آثروا العيش مع أهل المنطقة لأنهم بالأصل قادمون من المغرب والعراق واليمن.

أستيقظ من حلمي على صوت المؤذن الذي يرتفع مع مكبرات الصوت العديدة المعلقة على رأس المأذنة، وأتساءل عن حق المؤذن وحقي.

أعرف وأتذكر وأنسى وأغضب وأفرح وأقاوم وأكره وأحب وأحلم وأحن…

العالم حولي جزء من وجودي، الزوجة، الأبناء، الأصدقاء، المارة، الشارع، المقهى، التلفاز، الطاولة، الكرسي، القلم، فنجان القهوة، الطعام، الجبل، السهل، الشجرة، الكلب، والهر.

الطلاب، قاعات المحاضرات، العواصم: دمشق القاهرة عمان بيروت طرابلس عمان.. الخ. الغرب أميركا، التاريخ، معاوية ويوسف العظمة.. فلاسفة العالم من أفلاطون إلى فوكو.

اللوحة المرأة كتبي دفاتري أسراري، وخطاي، مصيري. العالم من حولي يلتصق بي وألتصق به، العالم الذي ألتصق به هو جزء من وجودي، كل ما سبق هو وجودي الإنساني الحجر الذي أنظر إليه بإعجاب وجود إنساني.

كل ما أعيشه يومياً، دائماً، كل ما طرأ عليّ من تغيّر، وكل ما يطرأ، كل ما أفكر فيه، كل ما أحلم به، كل أشيائي.. كل متعي، كل ما لا أطيق وجودي.

وما لا أعيشه ولا أفكر به ولا أحلم به ولا أستمتع ولا أطيق ليس من وجودي. قد يكون وجوداً إنسانياً آخر. كلّ منا يعيش وجوده الإنساني الخاص، أنا لا أملك وجوداً، أنا وجود. إن جبلا أصعده بدافع المتعة، أو أراه جميلا، أو يخلق لديّ التشاؤم هو جبلي، جانب من وجودي. قد لا يشاركني هذا الوجود كائن آخر. وقد لا أشاركه وجوده وقد نشترك بوجود ما ونختلف، ليس هناك على وجه الأرض وجود غير إنساني حتى الجماد وجود إنساني.

ها أنا الموجود وجود، ولا وجود سواي، في عدمي لن يعود هناك وجود.

عن هذا الوجود في كل أحواله التي أراها قمينة بالنظر أكتب، لم أسأل نفسي لماذا أكتب؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.