موناليزا الغروب عند الظهيرة

الأحد 2022/05/01

قال ريتشارد مايتلاند بضيق بالغ لزوجته: “تلك النوارس الحقيرة! ألا يمكنك إبعادها؟”.

وقفت جوديث خلف الكرسيّ المتحرّك، ويداها ترفرفان حول عينيه المعصوبتين بالضمادات مثل حمّامتين عصبيتين. ألقت نظرة عبر العشب إلى ضفة النهر، وقالت: “حاول ألا تفكّر بها يا حبيبي. إنها تقبع هناك فحسب”.

“فحسب؟ هذه هي المشكلة!”.

رفع مايتلاند عكّازته وراح يلوّح بها بعنف في الهواء: “أشعر بوجودها هناك، تراقبني!”.

كانا قد اختارا السكن في منزل والدته لكي يقضي فيه فترة نقاهته، على افتراض أنّ المخزون الثري من الذكريات البصرية سوف يعوّضه عن العمى المؤقت؛ إصابة بسيطة في العين التهبت بعد ذلك، وتطلّبت في النهاية عملية جراحية ومدة شهر من العتمة خلف الضمادات. غير أنّ تلك الذكريات لم تعوّض عن نموّ حواسه الأخرى. كان المنزل يبعد نحو ثمانية كيلومترات من الساحل، ولكنْ عند انخفاض المدّ فإنّ سرباً من الطيور الجشعة، يأتي من النهر ويستقرّ على الطمي على بعد خمسين متراً من مكان جلوس مايتلاند على كرسيّه المتحرّك وسط المعشبة. لم تكن جوديث تسمع النوارس إلا بالكاد، أما بالنسبة إليه، فإنّ نقرها المفترس ملأ الهواء الرطب مثل صرخات جوقة باخوسيّة وحشيّة. كانت تسكن مخيلته صورة طاغية للضفاف الغارقة بدماء آلاف الأسماك الممزّقة.

استسلم لشعوره بالعجز، وأخذ يستمع إلى أصواتها وهي تخفت فجأة. ثم، بصوت حادّ، مثل تمزّق قطعة قماش، ارتفع السرب دفعة واحدة في الهواء. جلس متصلّباً على الكرسيّ المتحرّك، قابضاً بيمناه على عكازته كأنّها هراوة، مترقّباً هبوط النوارس على العشب، ومتخيّلاً مناقيرها الشرهة تمزّق الضمادة فوق عينيه.

وكأنما ليبعدها عنه، أخذ ينشد بصوت عال:

“كانت العنادل تغني

قرب دير القلب المقدّس

وتغني في الغابة الدامية

حين صاح أغممانون عالياً.. !”.

خلال الأسبوعين المنصرمين منذ عودته من المشفى، قرأت له جوديث معظم أشعار إليوت الأولى. بدا أنّ سرب النوارس اللامرئية يخرج مباشرة من ذلك المشهد القاتم.

هبطت الطيور ثانية، ومشت جوديث بضع خطوات متردّدة على العشب، وقامتها القاتمة تقطع دائرة الضوء التي تغطّي عينيه.

قال ضاحكاً: “تبدو قطيعاً من سمك البيرانا، ما الذي تفعله، هل تفترس ثوراً؟”.

“لا شيء يا عزيزي، بقدر ما أرى…”. اختفى صوت جوديث مع هذه الكلمة الأخيرة. رغم أنّ عماءه مؤقت – في واقع الأمر، كان يمكنه، عبر إزاحة الضمادات قليلاً، رؤية صورة ضبابية إنما متناسقة للحديقة مع أشجار الصفصاف التي تحجب النهر – فما زالت زوجته تحاصره بالممنوعات المعقّدة التي يستخدمها المبصرون لكي يبقوا على مسافة من المكفوفين. فكّر أنّ المعوقين الحقيقيين، هم ذوو الأطراف المثالية.

“ديك، عليّ الذهاب إلى البلدة لشراء البقالة. أستكون على ما يرام لمدّة نصف ساعة؟”.

“بالطبع. فقط أطلقي بوق السيارة حين تعودين”.

كانت مهمة الاعتناء بالمنزل الريفيّ المتداعي بمفردها – فوالدة مايتلاند الأرملة ذهبت في رحلة بحريّة إلى المتوسط – تَحدّ من الوقت الذي يمكن جوديث أن تمضيه معه. لحسن الحظّ، فإنّ معرفته الحميمة بالبيت وفّرت عليها الاضطرار إلى قيادته في أرجائه. كان كافياً إقامة بعض الحواجز من الحبال ووضع بضعة مصدّات ارتطام قطنية على زوايا المناضد الخطرة. بالتأكيد، ما إن يصبح في الطابق الأعلى، فإنّه يتنقّل بين الأروقة المتعرّجة والسلالم الخلفية المعتمة بسهولة أكبر من جوديث، وقطعاً بشعف أكبر؛ غالباً في المساء تذهب بحثاً عنه وتجفل إذ ترى زوجها الضرير يخرج فجأة من باب على بعد بضعة أمتار منها خلال تجواله في الحجرات العلوية القديمة المغبرة. قسمات وجهه المنتشية، حين يكون مستغرقاً في ذكرى ما من الطفولة، كانت تذكّرها بطريقة غريبة بأمه، تلك المرأة الجميلة الفارعة الطول التي بدا أنّ ابتسامتها الرقيقة تخفي دوماً عالماً خاصاً.

في البداية، حين كان أسير الضمادات، دأبت جوديث على قراءة الصحف له في فترتي الصباح وبعد الظهر، ثم ديوان شعر وحتى، بجهد بطولي، بداية رواية موبي ديك. إلا أنه في غضون بضعة أيام، تصالح مع عمائه، فتلاشت الحاجة الدائمة إلى أيّ محفز خارجي. سرعان ما اكتشف مثل كلّ شخص ضرير أنّ الناتج البصري الخارجي ليس إلا جزءاً من النشاط البصري الواسع للدماغ. كان قد توقّع أن يغرق في ظلمة جهنمية عميقة، لكنّ دماغه، بدلاً من ذلك، كان مليئاً طوال الوقت بالحركة المتواصلة للضوء واللون. في بعض الأوقات، حين يكون مستلقياً في شعاع الشمس الصباحي، يرى أنماطاً دائرية دقيقة من الضوء البرتقالي، مثل أقراص شمسية ضخمة. وهذه الصور تنحسر في النهاية إلى نقاط صغيرة باهرة تشعّ فوق مشهد محجوب تتحرّك عليه أشكال داكنة مثل حيوانات في واحة أفريقية عند الغسق.

في أوقات أخرى، تفرض ذكريات منسيّة نفسها على هذه الشاشة، وقد افترض أنها تعاويذ بصريّة من طفولته مدفونة منذ زمن طويل في تلافيف ذاكرته.

كانت تلك الصور، بذكرياتها المؤلمة، أكثر ما يضايقه. إذا ما سمح لعقله بالانجراف مع تلك الصور فيمكنه استحضارها متى ما أراد، مشاهداً بلا حول ولا قوّة بينما تتجسّد تلك المناظر المراوغة في الأطياف التي تملأ عينه الداخلية. صورة على وجه الخصوص، مكوّنة من اللمحات الخاطفة لجروف شديدة الانحدار، ورواق مظلم من المرايا ومنزل مرتفع عالي الجملونات، كانت تتكرّر باستمرار، وإن بتفاصيل غير متصلة بأيّ شيء يذكره. حاول استكشافها، مصحّحاً الجروف الزرقاء أو البيت المرتفع في تفكيره ومنتظراً أن تنتج من ذلك صورة يتعرّفها. لكنّ جلبة النوارس وحركة جوديث ذهاباً وإياباً في الحديقة، ما فتئت تشوش تفكيره.

“وداعاً يا حبيبي! أراك لاحقاً!”.

حيّاها مايتلاند برفع عكّازته في الهواء. سمع السيارة وهي تبتعد على الممرّ، مغيّرة في الأثناء الهوية الصوتية للبيت. كانت الدبابير تطنّ بين اللبلاب أسفل النافذة، وتحوم فوق بقع الزيت على الحصى. وأخذت الأشجار تتمايل في الهواء الدافئ، كاتمة صوت اندفاع جوديث بسرعة في السيارة. لمرّة، ظلّت النوارس صامتة. عادة كان من شأن هذا أن يثير ريبته، لكنه بقي متمدّداً، مديراً اتجاه الكرسيّ المتحرّك حتى يصبح في مواجهة الشمس.

غير مفكّر بشيء، أخذ ينظر إلى الهالات الضوئية الصامتة في عقله. عادة، يؤدّي تحرّك أشجار الصفصاف أو صوت نحلة تصطدم بإبريق الماء الزجاجي على الطاولة بجواره، إلى إنهاء شروده هذا. وقد ذكّرته هذه الحساسية المفرطة تجاه أبهت الأصوات أو الحركات بالحساسية الفائقة للمصابين بداء الصرع، أو ضحايا داء الكلب في تشنجاتهم. بدا تقريباً أنّ الحواجز بين أعمق مستويات النظام العصبي والعالم الخارجي، لم تعد قائمة، تلك الطبقات العازلة من الدم والعظام، من اللاإرادي والعرفي…

مع توقّف بالكاد محسوس في تنفّسه، استرخى بحذر على كرسيّه. وقد انعكست على شاشة عقله صورة لمحها من قبل، لخطّ ساحليّ صخري تلوح جروفه المعتمة بين الضباب البحريّ. كان المشهد بأكمله رتيباً كئيباً. وفي الأعلى غيوم منخفضة عكست سطح الماء الصفيحيّ. ومع انقشاع الضباب اقترب من الشاطئ، ورأى الأمواج تتكسّر على الصخور. وامتدّت أعمدة الزبد كالأفاعي البيض بين البرك والشقوق بحثاً عن الكهوف التي تغور عميقاً في قلب الجرف.

ذكّره الساحل، في حاله تلك من الهجران، بالشواطئ الباردة لتييرا ديل فويغو وبمقابر السفن في كيب هورن، أكثر مما بأيّ ذكرى تخصه هو. إلا أنّ الجروف اقتربت، ولاحت عالياً في الهواء فوقه، وكأنّ هويتها تعكس صورة ما مدفونة عميقاً في عقله.

وإذ ما زال مفصولاً عن خطّ الشاطئ بالمياه الرمادية، فقد تتبع هذا الخطّ، حتى انقسمت الجروف عند فم مصبّ صغير. فانقشع الضوء فوراً، والتمعت مياه المصبّ بوهج شبه شبحيّ. كانت الصخور البيض للجروف المحيطة، التي تخترقها كهوف ومغاور، تسطع بضوء ناعم، كأنما كانت مضاءة بقنديل سرّي ما.

متشبّثاً بهذا المشهد أمامه، بحث على الشاطئ عن مصبّ النهر. كانت الكهوف مهجورة، لكنه حين اقترب منها فإنّ الممرّات المقنطرة المضيئة بدأت تعكس الضوء كقاعة من المرايا. في الوقت نفسه وجد نفسه يدخل ظلمة البيت المرتفع الذي رآه من قبل، وقد فرض الآن حضوره في حلمه. في مكان ما داخل البيت، خلف المرايا، كانت قامة طويلة برداء أخضر تراقبه، متقهقرة عبر الكهوف. سمع بوق سيارة يتردّد مرّات عدّة، ثم سمع صرير الحصى تحت عجلات سيارة تعبر الممرّ المؤدّي إلى البيت.

نادت زوجته: “أنا جوديث يا حبيبي، أكلّ شيء على ما يرام؟”.

لاعناً في سرّه، تحسّس المكان حوله بحثاً عن عكّازته. اختفت صورة الساحل المظلم والمصبّ بكهوفه الشبحية. مثل دودة عمياء، أدار رأسه الثقيل نحو الأصوات والأشكال اللا مألوفة في الحديقة.

لوحة

عبرت جوديث العشب واقتربت منه: “أأنتَ على ما يرام؟ ما الخطب، إنك تبدو متشنّجاً، هل ضايقتك تلك الطيور؟”.

“لا، دعيها”.

أخفض عكّازته، مدركاً أنه على الرغم أنّ النوارس غير حاضرة بصرياً في نطاق نظره الداخلي، فقد لعبت دوراً غير مباشر في خلق ذلك المشهد. الطيور البيضاء، صيادة القطارس. بذل جهداً ليقول: “لقد كنت نائماً”.

انحنت جوديث وأمسكت يديه: “عذراً. سوف أطلب من أحد العمال بناء فزّاعة. يفترض بذلك أن..”.

حرّر يديه منها: “لا، إنها لا تقلقني البتة”، ثم أضاف همساً: “أرأيتِ أحداً في البلدة؟”.

“د. فيليبس. قال لي إنك ستتمكّن من نزع الضمادات بعد نحو عشرة أيام”.

“حسن. ولكن لا داعي للعجلة. أريد إنجاز الأمر بالصورة المناسبة”.

بعد أن عادت زوجته إلى البيت، حاول استئناف أحلام يقظته، لكنّ الصورة ظلّت عالقة خلف شاشة وعيه.

عند الفطور في صباح اليوم التالي، قرأت عليه جوديث الرسائل البريدية.

“ثمة بطاقة بريدية من والدتك. إنهم بجوار مالطا، في مكان يدعى جوزو”.

“أعطني البطاقة”، تحسّس البطاقة: “جوزو، تلك جزيرة كاليبسو. لقد أبقت عوليس هناك سبع سنوات، وعدته بالشباب الأبديّ إن بقي معها إلى الأبد”.

جذبت جوديث البطاقة نحوها: “لايفاجئني ذلك.. لو استطعنا توفير الوقت، فيجب أن نذهب معاً إلى هناك في إجازة. بحور قاتمة بلون النبيذ، سماء كالفردوس، صخور زرقاء. سحر”.

“صخور زرقاء؟”.

“أجل. أفترض أنها الطباعة السيئة. لا يعقل أن يكون هذا لونها الحقيقي”.

“إنها كذلك في واقع الأمر”.

ظلّ ممسكاً بالبطاقة، وخرج إلى الحديقة، مستعيناً بالحبال لكي يتحسّس طريقه. حين استقرّ على الكرسيّ المتحرّك، فكّر بأنّ ثمة أموراً أخرى متوافقة في رسم البطاقة مع ما رآه في حلم اليقظة. الصخور البيضاء نفسها والمغاور الشبحية، يمكن رؤيتها في لوحة ليوناردو “عذراء الصخور”، إحدى أكثر لوحاته غموضاً؛ السيّدة العذراء جالسة على الحافة الصخرية الجرداء قبالة المياه تحت مدخل الكهف المعلّق فوقه، مثل روح تتسيّد عالماً بحريّاً مسحوراً، منتظرة أولئك الذين يقذفهم البحر إلى الشواطئ الصخرية لنهاية العالم. كما في الكثير من لوحات ليوناردو، كلّ خصائص الشوق والرعب فيها يمكن العثور عليها في الخلفية. هنا، عبر طريق مقنطر عبر الصخور، يمكن رؤية الصخور البلورية الزرقاء التي رآها مايتلاند في حلم يقظته.

“هل أقرأها لك؟”.

“ماذا؟”.

“بطاقة والدتك. إنك تحملها بيدك”.

“عذراً، رجاء افعلي”.

أصغى إلى نصّ الرسالة الموجز، منتظراً عودة جوديث إلى داخل البيت. حين رحلت جلس بهدوء لبضع دقائق تصله أصوات النهر البعيدة عبر الأشجار، والزعيق الباهت للنوارس ينجرف على الضفاف البعيدة أسفل المصبّ.

هذه المرة، كأنّما استجابة لمناشدته، عاودته الرؤية بسرعة. عبر الجروف المظلمة، والأمواج المندفعة عند مداخل الكهف، ثم عبر العالم الشفقي للمغاور بجانب النهر. في الخارج، عبر الدهاليز الصخرية، رأى سطح الماء يتلألأ مثل صفحة من الموشور، وكان الضوء الأزرق الناعم ينعكس على المرايا الزجاجية التي شكّلت جدران الكهف. في الوقت نفسه شعر أنه يدخل المنزل المرتفع، الذي تشكّل سوره من المنحدر الذي رآه من البحر. تلألأت القناطر الشبيهة بالصخور بالألوان الزيتية الغامقة للأعماق البحريّة، وتدلّت ستائر قديمة من الدانتيل من الأبواب والنوافذ مثل شباك عتيقة.

كان ثمة سلّم داخل الكهف، ومنعطفاته المألوفة تؤدّي إلى قاعات داخلية. نظر إلى الأعلى فرأى القامة المتّشحة بالرداء الأخضر تراقبه من مدخل مقنطر. كان الوجه مخفياً عنه بالضوء المنعكس من المرايا على الجدران. اندفع مرتقياً السلّم، حتى وصل إليها، ولهنيهة رأى وجهها.

“جوديث!”، مهتزّاً إلى الأمام على كرسيّه، مدّ يده بعجز إلى إبريق الماء على الطاولة، ويده اليسرى تضرب جبهته في محاولة لتبديد الرؤية المرعبة.

“ريتشارد! ما الخطب؟”.

سمع صوت خطوات زوجته المسرعة على العشب، ثم شعر بيديها تهدّئان من اضطراب يديه.

“حبيبي، ما الذي يجري؟ إنك تتصبّب عرقاً”.

 

بعد ظهر ذلك اليوم، حين وجد نفسه وحيداً مجدّداً، اقترب من المتاهة المظلمة بمزيد من الحذر. عند انخفاض المدّ عادت النوارس إلى الأرض الطينية بعيد الحديقة، وزعقاتها القديمة أعادت عقله إلى أعماقه مثل الطيور الجنائزية التي اختطفت جسد تريستان. حارساً نفسه ومخاوفه، عبر ببطء الحجرات المشعّة للمنزل السرّي، باحثاً في الأرجاء عن الساحرة ذات الرداء الأخضر التي كانت تراقبه من أعلى السلّم.

لاحقاً، حين جلبت جوديث الشاي على صينية، تناول الطعام بعناية، متكلّماً إليها بنبرة محسوبة.

سألته: “ماذا رأيتَ في الكابوس؟”.

قال لها: “رأيت بيتاً من المرايا تحت البحر، وكهفاً عميقاً، رأيت كلّ شيء، إنما بطريقة غريبة، مثل أحلام أناس مكفوفين منذ زمن مديد”.

خلال فترة بعد الظهر والمساء ظلّ يعود من وقت لآخر إلى المغاور، متحرّكاً بحذر عبر الحجرات الخارجية، متنبّهاً دوماً للقامة المتدثّرة بالرداء التي تنتظره عند مدخل الحرم الداخلي الأعمق.

في صباح اليوم التالي زاره الدكتور فيليبس لكي يغيّر الضمادات.

“ممتاز، ممتاز”، علّق، حاملاً المصباح بيد بينما يعاود لصق الضمادات فوق عينيه، “أسبوع آخر وستتخلص نهائياً من هذه. على الأقلّ بتّ تعرف ما الذي يشعر به المكفوفون”.

قال مايتلاند: “يمكن أن يحسدهم المرء”.

“أحقاً؟”.

“يرون بعين داخلية مثلما تعلم. بمعنى ما، كلّ شيء هناك حقيقيّ أكثر”.

“هذه وجهة نظر”.

أنهى د. فيليبس وضع الضمادات. ثم فتح الستائر: “ما الذي رأيته بعينك الداخلية؟”.

لم يردّ مايتلاند. كان د. فيليبس قد فحصه في المكتبة المظلمة، لكنّ ضوء المصباح اليدويّ الرفيع وإبر الضوء القليلة المتسرّبة من الستائر ملأت عقله مثل الكشّافات الضوئية. انتظر انحسار الوهج مدركاً أنّ عالمه الداخلي، المغارة، وبيت المرايا والساحرة، قد احترقت في عقله بفعل نور الشمس.

قال د. فيليبس وهو يحكم غلق حقيبته: “إنها صور سباتية، لقد كنت في منطقة غير مألوفة، جالساً لا تفعل شيئاً إلا أنّ خلايا نظرك العصبية متأهبة، أرض قاحلة بين النوم والوعي، يمكن توقّع أن تحدث شتى الأمور الغريبة فيها”.

بعد رحيله، قال مايتلاند للجدران غير المرئية، وشفتاه تهمسان تحت الضمادات: “دكتور، أعد لي عيني الداخلية”.

تطلّبه الأمر يومين كاملين لكي يتعافى من هذه الفترة القصيرة من الضوء الخارجي. بذل جهداً، مستكشفاً صخرة بعد صخرة، حتى يعاود الوصول إلى الساحل المخفيّ، مندفعاً عبر ضباب بحريّ يغلّف كلّ شيء، باحثاً عن المصبّ الضائع.

في النهاية عاودت الشواطئ المشعّة الظهور.

قال لجوديث: “أظنّ من الأفضل أن أنام وحدي الليلة، سوف أستخدم غرفة أمي”.

“بالطبع يا ريتشارد. أمن خطب؟”.

“أظنّ أنني قلق. لا أحظى بما يكفي من التمارين الرياضية، وثمة ثلاثة أيام متبقية فحسب، لا أريد أن أقلق نومك”.

وجد طريقه بنفسه إلى غرفة نوم أمه، التي لم يرها إلا لماماً منذ زواجه قبل سنوات خلت. أعاده السرير المرتفع، والحفيف العميق للملاءات الحريرية وأصداء الروائح المنسيّة إلى طفولته الأولى. ظلّ مستيقظاً طوال الليل، مصغياً إلى أصوات النهر وهي تنعكس من الأواني الزجاجية فوق الموقد.

بوكس

فجراً، حين طارت النوارس من مصبّ النهر، زار المغاور الزرقاء من جديد، والبيت المرتفع في الجرف. وإذ بات يعرف ساكنة البيت، ذات الرداء الأخضر التي تراقبه من أعلى السلّم، فقد قرّر أن ينتظر ضوء الصباح. عيناها المغريتان، قنديل ابتسامتها الشاحب، كانت تطفو أمامه.

إلا أنه بعد الفطور، عاد الدكتور فيليبس.

قال لمايتلاند بخفّة وهو يقوده من الحديقة إلى البيت: “حسناً، “فلننزع هذه الضمادات”.

سألته جوديث: “للمرّة الأخيرة؟ أأنتَ واثق من ذلك؟”.

“قطعاً. لا نريد أن تستمرّ هذه الحال إلى الأبد، أليس كذلك؟”. وجّه مايتلاند نحو حجرة المكتبة، وقال لهما: “اجلس هنا يا ريتشارد. جوديث، أسدلي الستائر”.

وقف مايتلاند متحسّساً المنضدة: “لكنك قلت إنّ الأمر سيتطلب ثلاثة أيام أخرى يا دكتور”.

“هذا مسلّم به. لكنني لم أردك أن تتحمّس أكثر من اللازم. ما الأمر؟ إنك تقف هناك متردّداً مثل امرأة عجوز. ألا تريد الإبصار ثانية؟”.

كرّر مايتلاند بصوت كئيب: “الإبصار؟ بالطبع”. جلس بتكاسل على المقعد بينما قام د. فيليبس بنزع الضمادات. سيطر عليه شعور عميق بالخسارة. قال: “دكتور، هل أستطيع وضعها لـ..”.

“هراء. تستطيع الرؤية بصورة ممتازة. لا تقلق، لن أعاود رفع الستارة. سوف يمرّ يوم كامل قبل أن تتمكّن من الرؤية بحريّة. سوف أعطيك نظارات شمسيّة لتضعها على عينيك. على أيّ حال، هذه تسمح بمرور ضوء أكثر مما تتخيّل”.

 عند الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، وعيناه تغطيهما النظارات الشمسيّة، خرج مايتلاند إلى المعشبة. وقفت جوديث على السطيحة تشاهده وهو يشقّ طريقه متجاوزاً الكرسيّ المتحرّك. حين وصل إلى أشجار الصفصاف، نادته: “أأنتَ على ما يرام حبيبي؟ هل تراني؟”.

من دون أن يردّ، التفت نحو البيت. نزع النظارات الشمسية ورماها على العشب. نظر من خلال الأشجار إلى مصبّ النهر، إلى السطح الأزرق للمياه الممتدّة على الضفة المقابلة. كانت مئات النوارس محتشدة على الضفاف، ورؤوسها تلتفت جانبياً لتظهر القوس الكامل لمناقيرها. نظر خلفه إلى البيت المرتفع، متعرّفاً البيت الذي رآه في منامه. كلّ شيء في هذا البيت، مثل النهر المضيء الذي يمرّ به، بدا ميتاً.

فجأة ارتفعت النوارس في الهواء، وزعيقها يحجب صوت جوديث التي كانت تناديه مجدّداً من السطيحة. في حركة تحويم كثيفة عن الأرض، مثل معول ضخم، ارتفعت النوارس فوق رأسه وراحت تحوم فوق البيت.

بسرعة، قام مايتلاند بدفع أغصان الأشجار جانباً واتجه منحدراً إلى الضفة.

بعد لحظة، سمعت جوديث صرخته تعلو على زعيق النوارس. كان الصوت نصفه ألم ونصفه انتصار، وهرعت بين الأشجار غير واثقة ما إذا كان قد جرح نفسه أو أنه اكتشف شيئاً سارّاً.

ثم رأته واقفاً على الضفة، رأسه مرفوع نحو الشمس، والدم النازف من عينيه يلمع على وجنتيه ويديه، مثل أوديب جشع، وخال من الندم.

1964

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.