نبعة الريحان

فصل من رواية
الأربعاء 2022/06/01
لوحة: أسعد فرزات

كنت أعمل عازفة بيانو في أحد مطاعم أوتاوا، وأعزف لرواده أحيانًا موسيقى بعض أغاني سيلين ديون فيطربون لها، ويحيوني برفع قبعاتهم أو كؤوسهم.

ذات يوم دعتني سيدة خمسينية، أثناء استراحتي، إلى طاولتها. كانت رفقة ابنتها، التي يبدو عمرها دون العشرين، لم أرها من قبل في المطعم. سألتني بلطف إن كنتُ معجبةً بسيلين ديون، قلت إنني لست معجبةً بها فقط بل متيّمةً بأغانيها، فقالت إنها تحبها أيضًا، في حين تفضّل ابنتها أغاني فرقة ميتاليكا الأميركية.

– يسمونها ثراش ميتال.

هتفت البنت بحماسة، فعلّقتُ:

– جميع فرق موسيقى الميتال شيطانية في نظر الكنيسة.

ردّت ببعض العصبية وكأنني مسست مشاعرها:

– ما لي ورأي الكنيسة! ألبومات هذه الفرق تصرخ ضدّ الظلم في العالم، وتتحدث عن الحقيقة بلا خبث ومواربة.

قالت السيدة لابنتها:

– دعكِ من هذا، الظلم والحقيقة لا يلتقيان.

ثم سألتني:

– كم حفلةً حضرتِ لسيلون ديون؟

أجبت بخجل:

– للأسف لم يسعفني الحظ أن أحضر لها أي حفلة، لكني أتمنى ذلك.

فطنت السيدة إلى أن لغتي الإنكليزية تشوبها عجمة، فقالت:

– هل أنت من أصل عربي؟

قلت:

– عراقية، وذلك المحاسب زوجي.

أشرت إلى أفرام المنهمك في عمله، فربّتت بكفها على يدي، وسألتني بلهجة لبنانية فاجأتني بها:

– شو اسمك؟

قلت:

– تيريزا صليبا، وزوجي اسمه أفرام.

– مسيحيّة لاجئة! أعرف مأساتكم. أنا اسمي سونيا حداد، مسيحيّة أيضًا، وهذه ابنتي كارول.

– يسعدني أن أتعرّف إليكما.

– اسمك جميل يذكّرني بفتاة اسمها تيريزا هلسا.

– غريبة! أنت ثاني شخص يقول لي إن اسمي يذكره بشخصية يعرفها. هل هي شخصية مشهورة؟

– نعم، التقيتها مرات عديدةً في “مرجعيون” جنوب لبنان. كانت في عمر نيكول آنذاك، تنتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية وتتدرب على عمليات فدائية، وكنا أنا وأخي قد التحقنا بالمنظمة أيضًا، إلاّ أن أبي أصرّ على عودتنا إلى بيروت لمواصلة دراستنا. كانت تيريزا من أب أردني وأم فلسطينية. ولدت وعاشت في مدينة “عكا” التي انتقل إليها والداها قبل النكبة، ومن هناك شدّت رحالها مشيًا إلى مرجعيون.

لوحة: أسعد فرزات
لوحة: أسعد فرزات

أردت أن أغير مجرى الحديث فسألتها:

– منذ متى جئتِ إلى كندا؟

– منذ ربع قرن.

– عمر طويل، ماذا تعملين؟

– أعمل أمينة مكتبة عامة في ألتا فزتا.

– يا للصدفة! أنا أذهب كل سبت إلى المكتبة العامة القريبة من بيتنا.

– أين تسكنين؟

– في سانت لوران.

– ليست بعيدة عن ألتا فزتا، في المرة القادمة تعالي إلى مكتبتي.

– سآتي حتمًا.

ارتشفتْ ما تبقى في كأس البيرة دفعةً واحدةً وسألتني:

– من أي منطقة في العراق؟

– من الموصل.

– في الشمال! زرتها مرتين قبل أربعين سنة.

قلت بلهفة:

– هل تتذكرين شيئًا من معالمها آنذاك؟

هزّت رأسها متأوهةً:

– هل تغيرت الآن؟ أتذكر الحدباء، أطلالها وأسوارها القديمة، الجسر الحديدي.

كادت عيناي تدمعان لكني تمالكت نفسي وقلت:

– هل زرتها للسياحة؟

شزرت السيدة سونيا امرأةً تجلس على مقربة منا، في منتصف الثلاثينات من عمرها، قصيرة ذات وجه ممتلئ شاحب وملامح لاتينية، كانت طوال الوقت تلوّح لي بحركات غريبة أو ترفع كأسها، وأنا أعزف، ثم التفتت إليّ وأجابت:

– نعم، كنت حينها صبيةً أعيش مع أهلي في بغداد. أبي كان قنصلًا في السفارة اللبنانية هناك. مكث في وظيفته سنتين ثم عدنا إلى بيروت. وقتها كانت المغنية العظيمة سليمة مراد في عمري الآن، ولا تزال بعض أغانيها عالقةً في ذهني، لم يكن يمر يوم واحد دون أن تبثها الإذاعة: خدري الشاي، يا نبعة الريحان، هذا مو إنصاف منك، على شواطي دجلة، وغيرها ما عدت أتذكرها.

– وزوجها ناظم الغزالي، ألا تتذكرين بعضًا من أغانيه؟

ضربت براحة يدها على جبينها وقالت كأنها تؤنب نفسها:

– يا يسوع! كيف نسيت؟ طبعًا طبعًا، عيرتني بالشيب، يا أم العيون السود، أيَّ شيء في العيد أهدي إليك يا ملاكي… توفي قبل ذهابنا إلى بغداد ببضع سنوات.

– يُقال إن مغرضين اتهموا حينها سليمةً بأنها هي التي قتلته، لكن الدلائل أثبتت عكس ذلك، وكانت وفاته بداية انتكاسة لها.

– ربما كان عملاء للموساد وراء ذلك ليرغموها على الهروب إلى إسرائيل بعد أن رفضت الرحيل بمحض إرادتها.

كان صوت السيدة سونيا دافئًا وهادئًا وهي تتحدث عما بقي في ذاكرتها من أيامها ببغداد، فأثار جرسه في نفسي شعورًا بالراحة والألفة وكأنني أعرفها منذ زمن طويل. بعدئذ طلبت منّي أن أحدثها عن نفسي وعن علاقتي بالموسيقى وشغفي بسيلين ديون، لكني استأذنتها لأعزف شيئًا لرواد المطعم ثم أعود إليها، وقد تعمدتُ أن أفاجئها بعزف موسيقى يا نبعة الريحان، من دون وجود نوطة مكتوبة أمامي. كان الأمر صعبًا إلى حد ما، بيد أنه كان محاولةً أثارت شجون السيدة سونيا، وجعلتها تتمايل مع النغمات مثلما استلطفها الآخرون لغرابتها، عدا تلك المرأة التي تجلس على مقربة منها فقد بدا عليها أنها ثملة، أخذت تدمدم بكلمات متقطعة غير مفهومة وهي تنظر إليّ بنظرات شبقة.

حين رويت للسيدة سونيا قصة اضطهادنا في الموصل على يد التكفيريين أطرقت رأسها، وأسبلت جفنيها لتحبس دموعها، وظلت تحدق إلى أصابع يدها كأن طلاء أظافرها سيتبخر. كان واضحًا أنها قد استبدّ بها إشفاق ينوء بحمله قلبها. بعد دقائق سألتني أن أعطيها رقم هاتفي المحمول فحفظته في هاتفها، وودعتني قائلةً إنها ستتصل بي قريبًا.

راقبتها وهي تخرج من المطعم فإذا بها تتجه إلى سيارة حديثة بيضاء اللون وتفتح بابها وتدلف إلى داخلها. كان الوقت قبيل الغروب والجو في الخارج مثلجًا، فانتظرتْ بعض الوقت حتى تدفئ السيارة وينزاح الثلج عن زجاجها، ثم قادتها على مهل وانعطفت إلى الشارع الرئيسي. بعدها عدت إلى آلتي لأواصل عزفي وفي خلدي يجيش إحساس بأن تلك السيدة فكّرت في أمر ما يفيدني أنا وحبيبي أفرام، لكني ما إن أردت أن أشرع بالعزف حتى نهضت المرأة الثملة من مقعدها وهجمت عليَ مثل ثور هائج، وأخذت تقبّلني من شفتي وتدعك ثدييّ وهي تصرخ بصوت متهدج “أنت عسل.. أنت عسل، أريدك لي”، لكن أفرام وبعض رواد المطعم أسرعوا إلى انتشالي منها ودفعها إلى الخارج. وسمعت أحدهم يقول لي صائحًا “دعكِ منها وواصلي عزفك، إنها مجنونة”، وعارضه آخر قائلًا “لا لا، إنها ليست مجنونةً بل ثملةً”، فردت عليهما عجوز تجلس في الزاوية القصية من المطعم “ما هذا الهراء يا أغبياء؟ إنها سحاقية رخيصة وكفى”.

منذ ذلك اليوم حظر مدير المطعم ارتياد تلك المرأة، لكنها ظلت بعد ذلك حوالي مدة شهر تأتي ولا تجرؤ على الدخول، تظل واقفةً في الخارج بضع دقائق، تلوّح لي بيدها أو بقنينة خمر “بيسكو” من خلف الزجاج وترسل قبلات في الهواء ثم تمضي إلى حال سبيلها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.