نقد التجييل الستيني في العراق

بين نار الوعي وجليد اللامبالاة
الخميس 2022/09/01
لوحة: ماهر الراوي

إن المشروع الجيلي الذي بشّر به شعراء العقد الستيني في العراق كان يعني بإيجاز كتابة شيء يمثل الحياة الجديدة بروح لا تعرف المؤاخاة بين قيم التطور الاجتماعي والأخلاقي ومفاهيم التعبير الفني والجمالي ليس لأن التمرد إحساس فظيع بأن لا مستقبل سوى للفن، بل هو الإحساس بأن العقائد منحلة والتقاليد مفككة ولا بد من التخلي عن العواطف والانفعالات وجعل الفكر هو كل شيء وما عداه عالم من الأوهام والشعر هو وحده الواقع الذي هو أقوى لا وعيا في تفسيره وفهمه.

لقد تفاقم النزوع الى التجريب حتى غدا هوسا لدى الستينيين شعراء ونقادا وفنانين ومثقفين كمسألة جوهرية لا مفر منها، وبها يمكن استعادة الضائع وتجربة الانتفاع منه وليس في ذلك مدعاة للأسف بل هو وسيلة لاقتناص الفرص. هكذا سار الستينيون في العراق متحملين جراح واقع ممض ما زالت آلامه قوية مؤمنين ألا سبيل لتجاوز المحنة سوى باللامبالاة التي توصل إلى القناعة، وبها يبلغ المبدع السعادة. أما التزمت في المبادئ والإصرار على المواصلة باتجاه تحقيق الأهداف فهو انتحار تنهار معه الجذور وتتحطم القواعد.

وكان من نتائج اللامبالاة أنها أخذت تخطو خطواتها الأولى نحو النقد الأدبي الذي توزع بين ذاتية الحزب الواحد وانطباعية الفكرة الجمالية في التعبير عن التجارب الإنسانية ومنها التجربة الشعرية أو تناول قضايا وظواهر أدبية ومنها ظاهرة التجييل التي أصابت الكثير من الشعراء والنقاد بجليد اللامبالاة فمرّروها إلى كتابتهم عبر السنوات السابقة.. ولكن اللامبالاة تقلصت مع الروح المنهجية التي دخلت النقد العراقي حتى غدت العلمنة قادرة أكثر على زحزحة الذاتية الحزبوية وبصرامة الاستعاضة عنها بمفاهيم النظرية الأدبية.

وقدمت المناهج الاجتماعية والسايكولوجية والفنية للناقد العراقي وضعا مريحا يستطيع من خلاله أن يشخّص ويفسّر ويرصد باستقلال وموضوعية يعضدهما ما لديه من وعي عال بالجمال وهمة كبيرة على المجابهة والتحدي مع التحرر من أيّ ضغط يمكن له أن يثلب بعضا من نار الوعي التي تمتع بها الناقد العراقي ـ لاسيما في ثمانينات القرن العشرين ـ وحققت له نجاحا كاسحا في مواجها الكثير من الظواهر الأدبية.

وسنأخذ كتاب حاتم الصكر “مرايا نرسيس” مثالا على نار الوعي التي تجعل الناقد موضوعيا في عرض وجهات النظر وبوازع نفسي لا تؤثر فيه التعابير الجاهزة ومنها تعبير “الجيل الستيني” الذي تخلص من استعماله في التدليل على التجارب الشعرية من خلال توظيف مصطلح “الحداثة”.

وليس التخلص سوى استعاضة للامبالاة الذاتية بالعلمية يقول “نحن نرى أن الحداثة مصطلح فني لا زمني ونعني به تحديدا الانتقال بالقصيدة إلى مواقع جديدة في الرؤية والأسلوب معا لكننا وجدنا أن ذلك متحقق تماما في ما عرف بالشعر الحر الذي بدا ظهوره النصي في أواخر الأربعينات من قرننا هذا. وعلى أساس من تغير الرؤية والأسلوب معا وليس التجديد في الموضوعات أو اللغة فحسب قامت التجارب الشعرية الحديثة وتنوعت بها الطرق بعد ذلك” (مرايا نرسيس، حاتم الصكر، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، ط1 ، 1999، ص8).

ووجد أن انطلاقة حداثة الشعر الحر في تجاربه الريادية الأول كانت نابعة من هاجس المغايرة الشكلية، فظهرت القصيدة المطولة والسيرة الذاتية وقصيدة اللقطة اليومية وقصيدة المرايا عند أدونيس ارتهانا بتقنية القناع في تصوير التجربة والقصيدة المسرحية عند خليل حاوي عبر النزوع الدرامي نحو تعدد الأصوات والقصيدة الملحمية المطولة عند السياب والقصيدة الحكاية عند حسب الشيخ جعفر التي شخصها في ديوان “أعمدة سمرقند” 1989 .

ويبدو جليا من هذا التشخيص للتجارب أن الناقد لا يعمم ولا يجيّل، بل هو يخصص بوعي ومسؤولية هذه التجارب، محددا نوع القصيدة بشاعرها. فالحكاية مثلا ما صارت عند حسب الشيخ جعفر رديفة لقصيدته إلا بسبب “إحساسه بالحكاية كنظام يتبلور في تجربته الرائدة في كتابة القصيدة المدورة التي بدأها عام 1969 بقصيدة قارة سابعة التي تخللتها أبيات غير مدورة لكنه في الرباعية الأولى عام 1970 يكتب نصا مدورا كاملا” (المصدر السابق، ص259).

وعلمنة النقد في المنهج الفني الذي اعتمده الناقد وأتاح له بلوغ محصلات عقلية واعية دعمها ببعض الأدلة الواقعية ومنها حوار أجري مع الشاعر حسب الشيخ جعفر، وفيه قال “إن الدافع الأول إلى التدوير في القصيدة كان عندي دافعا نثريا وليس شعريا، إن ما دفع بي إلى التدوير هو ما كنت قرأت من أعمال بروست وسارتر وعدد آخر من الكتابات الروائية ومسرحية بعد السقوط لآرثر ميلر” (ينظر: المصدر السابق، ص259 . وأجرى الحوار نصيف الناصري، مجلة الفينيق، العدد 22 ، 1997 ، ص18). وبهذا أكد الشاعر ما ذهب إليه الناقد وهو أن التدوير أحد تشكلات الحكاية عنده ثم خصص القول في السونيت “وقد التزمت أنا بالتكنيك الشكسبيري أما الحافز فهو الحافز نفسه الذي حدا بمؤلف كليلة ودمنة إلى وضع تصوره أو إدراكه.. على ألسنة الطير والوحوش” (المصدر السابق، ص261).

وهذا التأثر بالتكنيك الشكسبيري كان قد تمثل في بواكير ما نشره حسب الشيخ جعفر وهو كتابة قصته “حلم ليلة شعر” التي فيها تأثر بمسرحية شكسبير “حلم ليلة صيف”. وظل هاجس التأثر بشكسبير مستمرا مع الشاعر وهو يجرب الكتابة الشعرية على نمط السونيت الشكسبيري.

بيد أن نار الوعي هنا خفتت عند الناقد وهو لا يرى في شكل القصيدة أو بنائها في ديوان “أعمدة سمرقند” جديدا وتساءل أين الصياغة الجديدة وشكل السونيت مصمم بعناصر وأعراف ثابتة؟ وتساؤله هذا يعني أنه يقلل من أهمية ما أكده حسب الشيخ جعفر من أنه التزم بالتكنيك الشكسبيري من جهة ويؤكد من جهة أخرى أنه يتبع لويس عوض في رأيه بالسونيت علما أن عوض حاول كتابة سونيتات باللهجة العامية في كتابه “بلوتولاند” ودعا عام 1947 إلى اعتماد نظام جديد للشعر العربي يحطم “عمود الشعر، لقد مات الشعر العربي مات عام 1932 مات بموت أحمد شوقي مات ميتة للأبد مات.. السونيتة قالب في الشعر الأوروبي متحجر وقديم” (بلوتولاند شعر، لويس عوض، ط2، 1989، ص19. والطبعة الاولى للكتاب كانت عام 1947).

وعلى الرغم من أن لويس عوض لم يفلح لا في دعوته ولا في كتابة السونيت، فإن حاتم الصكر تابعه القول أيضا بقدم السونيت وصرامة نظامه وصعوبته، قائلا “إذا أخذنا واحدة من منظومات حسب الشيخ جعفر فسنجدها تخضع لنظام تقفية صارم يوحدها بالسونيتات المئة” (مرايا نرسيس، ص 268)، ولا غرابة في ترك حاتم الصكر لقول حسب وأخذه برأي لويس عوض لأنه لم يكن يمتلك اللغة الإنجليزية التي تمكنه من قراءة السونيت ومعرفة حقيقة ما قيل في صعوباته أو جمالياته.

ولأن لحاتم الصكر باع نقدي ووعي عال بجماليات النصوص، حاول أن يستعين بمفاهيم نظرية القراءة كالتلقي والعتبة وافق التوقع كي يوازن ما بين ما قاله الشاعر عن التزامه بالسونيت وما قاله عوض عن قدم السونيت، فوجد أن أفق التوقع سيكون ثابتا إذا افترضنا أن للقارئ معرفة مسبقة بالسونيت “وما سيكون عليه نظام القصيدة من حيث معناها وإيقاعها التقفوي، ولن يثير أفق توقعه أي شيء في مثل هذا النظم الثابت. ولكن حسب ينجح كمنتج لخطاب حكائي تقليدي في اختيار السونيتة شكلا لقصائده الحكائية تهيئ له السونيتة ثباتا صارما وكلاسيكية نموذجية سواء في البناء البيتي أو الدلالة الموجهة بقيود هذا البناء أو بالخلاصات التي يختم بها قصائده. يضاف إلى ذلك النظام الصارم تقليدية الحكايات ذاته” (المصدر السابق، ص268).

وعلى الرغم من ذلك، لا ينكر حاتم الصكر أن هناك وجهة نظر معاصرة تزاوج بين السونيتة ونظامها الوزني وبين رؤية حديثة أو معاصرة جدلية بمقصدية تعميم الشاعر للحكاية وأن “في أعمدة سمرقند بعض القصائد الحكائية على النظام الإيقاعي للسونتية.. وإذا نصل إلى مرحلة ديوان ‘كران البور’ فإننا نجد الشاعر قد أوغل في تغريب اللغة قاموسيا” (المصدر السابق، ص277).

لقد أردنا من وراء هذا العرض المفصل لموقف الناقد من تجريب حسب الشيخ جعفر نمط السونيت، إيضاح الطريقة التي بها ينظر الناقد بمنهجية واعية إلى كل تجربة من تجارب شعراء عقدي الخمسينات والستينات فلا ينسى تجربة تقع ما بين العقدين ولا يتعمق في تجربة إلا لقوة هذه التجربة وعمقها كتجربة حسب الشيخ جعفر الذي عده شاعرا ستينيا.

وما كان للوعي النقدي أن يتوغل في الوعي الشعري إلا لأن نار الوعيين شديدة حيث أتت نار الأولى من التخصص النقدي بعد أن أنجز حاتم الصكر رسالته للماجستير في موضوعة “النزعة القصصية في شعر الحداثة العربية” وأتت نار الثانية من أصالة الموهبة التي تمتع بها حسب الشيخ جعفر وقوتها.

أما مثالنا على جليد اللامبالاة فتمثله عشرات الأسماء التي طرحت نفسها كشعراء ستينيين ولكنها اضمحلت تدريجيا بنهاية العقد أو في السنوات التي تلته. وقسم قليل من تلك الأسماء قدمت شهادات حول الجيلية، ومنهم شريف الربيعي الذي عد فيها نفسه شاعرا ستينيا وقدّم تصورات بعضها نقدية إزاء شعراء جايلهم ومنهم فاضل العزاوي الذي “ترجم المقتطفات الموجودة من البيان السوريالي الثاني ونشرها في الشعر 69 العدد الثاني” وذكر أيضا أن قصيدة “سلاطين العجم” هي الظهور الشعري الأول المهم لعبدالرحمن طهمازي قبل قصيدة “الحسين” وأنه كان معروفا باندفاعه نحو الفلسفة ودخول التجربة الشيوعية مع القيادة المركزية ثم عمل في جريدة “النصر” مع جاسم الزبيدي وجاء إليهم حسب الشيخ جعفر الذي سرعان ما ترك العمل وحل محله رياض قاسم.

وتعامل الشاعر نصيف الناصري مع التجييل بكثير من اللامبالاة في مقالته “المغامرة الشعرية ما بعد الرواد ردات واندفاعات” ناظرا باتجاه آخر لا يماشي ما أراده منظرو الستينات من خلال نفيه التميز عن الجيل الستيني وأنه فشل في أن يكون جيلا هو امتداد لجيل الرواد، قائلا “هنا أجدني مضطرا إلى الاعتراف بألم ومرارة باعتباري أعظم شاعر عراقي خاسر في المشروع الذي حفره الرواد الكبار لقد تاجرت بالخسارة لكنني لم أحقق ذلك بسهولة وإنما كانت مهمة وسخة أستطيع الآن بعد أن أنجزت كتابة تسع مجموعات شعرية لم تطبع واحدة بعد أن أجبر ثعبان كوبرا على هز مؤخرته بينما أنا آكل لفة فلافل وأنا أغني. يبدو لي الشعر العراقي الآن بعد حالات التراجع والردات التي تعرض لها على أيدي هواه ما بعد السياب بحاجة إلى زعيم قبيلة من الهنود الحمر.. لقد شهدنا في أعوام الستينات والسبعينات ولادة عبقريات شعرية كبيرة خارج خارطة الشعر العراقي” (المغامرة الشعرية ما بعد الرواد ردات واندفاعات، نصيف الناصري مجلة الكتابة الأخرى، رئيس تحريرها هشام قشطة، العدد 12و13 1996 ، ص177).

وممن تعامل بلامبالاة مع التجييل أيضا محمد مظلوم في دراسته “في التصنيف والخارجين منه وعليه” وفيها دلل على أن الشعر العراقي ينفرد بظواهر وأخلاقيات منها “الأجيال” التي استولت على النقد وتساءل “من أين جاءت فكرة الجيل للشعر العراقي؟”، ووجد الإجابة تكمن في النقد الحديث الذي رسخ التجييل “في التصنيف والخارجين منه وعليه، محمد مظلوم، مجلة الكتابة الاخرى، العدد 12و13 ، 1996).

ولم تقتصر برودة اللامبالاة مع التجييل على الشعراء بل صدر عن مجلات تعنى بالشأن الشعري أيضا، ومن تلك المجلات “الطليعة الأدبية” التي أعدت ملفاً عن شعر الثمانينات من دون أن تنخرط في تجييل الشعراء. مما حدا ببعض الشعراء الذين تحمسوا للتجييل العقدي أن اعترضوا بالتساؤل هل يكون الجيل الثمانيني ابن سوء غير مرغوب فيه كي لا يجيّل أو هي عقدة يوسف؟ ترميزا إلى التصارع الذي يصنعه التجييل العقدي.

ولم تكن الملتقيات الشعرية للشعراء الشباب لتغير من جليد اللامبالاة نحو التجييل، فالناقد فاضل ثامر في دراسته “محاولة للوقوف أمام تجربة شعراء السبعينات الشباب” شكك بإمكانية تصنيف الشعراء بحسب العقود في أعقاب انحسار الهم الستيني وقال “مما يزيد في ارتباك الناقد العراقي أنه لم يفرغ بعد من دراسته وتمحيص تجربة الشعر الجديد في الستينات التي دوخته إلى درجة كبيرة أخذ على الجملة أنها تريد أن تجرد شعراء الستينات الشباب من هذا الحق لأنهم أصبحوا كهولا رأى أن هذا غير مشروع ويدفع بالناس إلى الشيخوخة السريعة وهنا قد تواجهنا مصطلحات الجيل الأدبي أو شعراء السبعينيات” (محاولة للوقوف أمام تجربة شعراء السبعينات الشباب، فاضل ثامر، الطليعة الأدبية، العدد الاول، 1979).

وعلى الرغم من أن للناقد آراء عن مراحل شعرية وتجييل عقدي واستعمال لمقولة الجيل الستيني والسبعيني بيد أنه لم يكن مباليا بأمر تمييز جيل عن آخر زمنيا مؤكدا أن أي تعداد للشعراء الشباب والكبار والمخضرمين يأتي من باب الإحصاء لا التصنيف.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.