نقد المفاهيم

صدر هذه الأيام كتاب جديد للمفكر المغربي عبدالله العروي بعنوان “نقد المفاهيم”، عن المركز الثقافي للكتاب.
الأحد 2018/07/01
لوحة: ريم يسوف

في هذا الإصدار الجديد يحاور العروي نفسه وكتاباته وينتقدها، وخاصة مشروع المفاهيم، الذي صدر في كتب مفردة ناقشت مفاهيم الأيديولوجيا والحرية والدولة والعقل، والتاريخ في جزأين، ما بين 1980 و1996، قبل أن تصدر هذه الكتب مجتمعة نهاية السنة الماضية. ليأتي اليوم كتاب “نقد المفاهيم” وهو يقدم قراءة في هذه المفاهيم، وفي تراث عبدالله العروي، وفي مفاهيم جديدة، عبر صفحات وتأملات هذا الكتاب الذي يحكي لنا حكاية فلسفية شيقة، ويبين لنا كيف يفكر عبدالله العروي في عبدالله العروي وهو يحاوره ويتجاوزه باستمرار.

مفاهيم العروي

مفاهيم عبدالله العروي ليست هي “الأيديولوجيا” أو “الحرية ” أو “الدولة” أو “العقل”… وسواها من المباحث التي خصها بالتحليل. فتلك كانت المفاهيمَ التي قامت عليها الحداثة الغربية، كما أراد أن يقول لنا الرجل.

مفاهيم العروي الحقيقية وآلياته في القراءة والتفكير والتحليل هي التي يقدمها في هذا الكتاب، وهو يسر إلينا بها. وأما أول مفاهيم العروي فهو “السجال”. وهنا يصرح المؤلف في مفتتح الكتاب بأن علاقته بالفلسفة وعلم الكلام إنما هي علاقة “سجالية”.

أما المفهوم الثاني فهو مفهوم “التعددية”. وهنا، يصارحنا العروي بأن هذه التعددية طافحة في جل كتاباته، ومن يتصفح كتاباتي، يقول العروي “يتأكد بسهولة أنني مجبر في النهاية على الانتصار للتعددية”. ففي “الأيديولوجيا”، يخاطبنا العروي “تجدون ثلاثة أشكال للوعي”، وفي كتاب “الإسلام والتاريخ”، ينهض ذلك الحوار ما بين الفقيه والمؤرخ، وفي كتاب “مفهوم التاريخ” ثمة ثمانية شواهد وثمانية تواريخ، لا تاريخ واحد. وأما في كتاب “مفهوم العقل”، وهو آخر “المفاهيم”، ففيه حديث عن منطق القول في مقابل منطق العقل. وذلك حين حدثنا العروي عن أن الحداثة فعل وممارسة، وأنه لكي نتحدث عن الحداثة ينبغي أن نتحدث، قبلها، عن اللاحداثة، وأن نكنسها من الشوارع والمقاهي.

ويخلص العروي، وهو يعيد شريط مصنفاته إلى أن “هنالك دائما تعددية تزيد وتنقص، حسب الحيز الذي تتجلى فيه”. والحال أن “التوحيد لا يتحقق إلا في الذهن، وعبر استحضار الزمن. وأما في كل لحظة، عند الإدراك، فإننا لا نلمس سوى الاختلاف”. وهنا يمكن أن نضيف إلى التعددية مفهوما آخر يتدلى من شجرة الحداثة، ومن فكر العروي، وهو مفهوم “الاختلاف”، الذي يؤسس للتفكير وللقول الفلسفي عند هذا المفكر المغربي.

المقارنة والتأويل

يعقد المؤلف فصلا للحديث عن “علوم المجتمع″، مثلما يناديها العروي، وهو يدعو إلى أن تشمل علوم المجتمع هاته الاقتصاد ثم الاجتماع ثم التاريخ ثم السياسة ثم الجغرافيا البشرية ثم علم النفس ثم التربية. ويتساءل العروي لماذا نجد هذه التخصصات موزعة عندنا على معاهد مختلفة، بينما هي مجتمعة عند غيرنا. ليختم الفصل الثاني من الكتاب بنداء يدعو فيه إلى إعادة النظر في الهيكل الجامعي، في العالم العربي، كما تأخذ علوم المجتمع المكانة التي تستحقها بجانب العلوم الأخرى، وبتعاون وتلاقح معها. وهذه المسؤولية “ضرورة أكاديمية وحاجة تربوية ملحة”، تبعا لنداء العروي.

في هذا السياق، ومن أجل التأسيس لهذه العلوم وإعادة استنباتها في حقل الثقافة العربية، يتحدث العروي عن مفهومين هما المقارنة والتأويل، تم إعمالهما وتشغيلهما من قِبَلِ دارسي أي مجتمع من المجتمعات. يعود بنا العروي إلى سؤال “من هو السوسيولوجي الأول؟” وما إذا كان المؤرخ اليوناني توقديد أم ميكيافيللي أم مونتسكيو أم ابن خلدون؟ لا يهم العروي هذا السؤال، بل يهمه ما وراءه. فحين ينظر إلى الأمر يتبين له أن ما يجمع هؤلاء الأعلام هو أنهم درسوا مجتمعاتهم في مقارنة مع المجتمعات الأخرى، قبل أن يقوموا بصياغة أطروحة تنتمي اليوم إلى ما نسميه عملا تأسيسيا لعلم الاجتماع. فهذا توقديد وقد بنى أطروحته على المقارنة بين أثينا الديمقراطية وإسبارطة الإيرانية الأرستقراطية. وذلك ميكيافيللي وهو يقارن بين الجمهورية الإيطالية والنظام الملكي في فرنسا وإنكلترا، مثلا، وكيف مهد لقيام الدولة الحديثة. وهذا مونتسكيو وهو يقارن بين تقدم المجتمع الإنكليزي المسيحي وتخلف الأمم الآسيوية تحت لواء إمبراطورياتها الشاسعة، من عثمانية وصفوية ومغولية وصينية… وذلك ابن خلدون، مؤسس علم العمران، عند العروي، وهو يقيس مجتمعات الحضارة على مجتمعات البداوة، ويقارن بين عصبية العرب والبربر، وانفتاح الأتراك. وجب التنبيه ههنا إلى أن العروي قد أصدر كتابا سنة 1990 بعنوان “ابن خلدون وماكيافللي”. وها هو اليوم يخوض مراجعة في هذا الكتاب، لينبهنا إلى أن صاحب “المقدمة” إنما أَعْمَلَ المقارنة بين العرب والبربر والأتراك منهجا لتأسيس علم العمران، معتمدا على ما لاحظه أثناء تنقلاته في مناطق الغرب الإسلامي، وعلى ما قرأ عند الرحالة من أمثال المسعودي أو المقدسي أو ابن حوقل، وعلى ما وقف عليه من حال الأتراك بعد رحلته شرقا وغربا.

كتاب

المقارنة التي يأخذ بها العروي هي التي لا تبحث عن التشابه والمماثلة، “لأنها تؤدي حتما إلى التلفيق وإن سمي توفيقا”، يقول العروي. إنها المقارنة التي تقف عند المفارقة والاختلاف الذي تحدث عنه من قبل. يذكرنا كلام العروي بالقاعدة الأصولية “نسبة إلى علم أصول الفقه”، وهي أنه “لا قياس مع وجود الفارق”. والفارق من المفارقة، ولذلك لا يمكن أن ندعو إلى إحياء الميكيافللية أو الخلدونية، مثلا، لأن “المقارنة” لا تصح هذه المرة. وهنا يلتقي العروي مع الجابري، الذي ختم مقالين له من كتاب “التراث والحداثة” بعبارته الشهيرة “إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته”.

ولئن كان الوصف يحمل في طياته منطق المقارنة، أو الموازنة، بتوصيف العروي، كما في خطاب الرحالة، مثل ابن بطوطة، أو المستكشفين، من طراز شارل دو فوكو، فإن الوصف لا يمكن أن يرقى إلى مستوى التأويل، لأن التأويل يبدأ حيث يتعذر الوصف. “في البدء يكون هنالك تفاهم وتواصل مباشر، ويكون معه تفاهم تلقائي، من غير أن يحدث انفصام ما بين المعنى والشيء. ولسبب طارئ، ربما يكون عامل الزمن، يحدث انقطاع وانفصال يمنعاننا من الفهم والإدراك”. هكذا، يتشكل فراغ وبياض مع الوقت، فلا يمكن أن يملأهما سوى التأويل. فتغدو الممارسة التأويلية عند العروي أشبه ما تكون باستعادة معنى أصلي غاب عن الذهن مع مرور الزمن. ونحن حين ننتقل من زمن مضى إلى زمن جديد، فإن هذا الأخير يغير المعنى ويحرفه ويحوره، فيصبح المعنى غامضا.

وبينما يلجأ التقليدي إلى محاولة استعادة المحيط الأول حتى يتضح المعنى “الأصل” من جديد، يلجأ العقلاني إلى تطويع المعنى الأول حتى يتطابق مع المحيط الحالي، فيحصل الفهم من جديد.

حكاية فكرية

مرة قال عبدالله العروي إنه يلجأ إلى كتابة الرواية حين يعجز التفكير عن إدراك الحقيقة. وبلغة العروي نفسه، حين لا يقوى المؤرخ على فهم ما جرى ويجري، لا بد من الرواية. وقد افتتح العروي روايته الأولى “الغربة” باستهلال لأندريه جيد يقول فيه “التاريخ رواية واقع، والرواية تاريخ متوقع″.

وإذا كان العروي قد قدم لنا سيرته الذهنية، بمعنى ما، عبر شخصية إدريس، ومن خلال ثلاثيته الروائية “الغربة” و”اليتيم” و”أوراق”، فها هو يقدم لنا سيرته الفكرية، ورحلته مع المفاهيم، عبر محكيات هذا الكتاب.

وبالفعل، نحن أمام تفكير بنفَس سردي، حيث نجد العروي “يروي”، وهو يتحدث بضمير المتكلم، منذ المقدمة “كثيرا ما أسأل عن علاقتي بالفلسفة وعلم الكلام، في إطار ما أسميه بالتاريخية، سيما وأن تلك العلاقة تبدو سجالية”. أو حين يقول “حاولت أن أوضح موقفي من هذه المشكلة في كتاب ‘أوراق'”. وها هو يسمي روايته كتابا، قبل أن يضيف “أميل بطبعي إلى التفلسف، لكن الفترة التي نشأت فيها، والبيئة العائلية كذلك، كانت لا تبدي تفهما لذلك الميل. كانت تدعو الجميع، والشباب بخاصة، إلى الارتباط بالواقع″، لتبدأ حكاية العروي الفكرية منذ ذلك اليوم.

وفي سياق آخر، يضيف المفكر المغربي “من يتصفح كتاباتي المختلفة يتأكد بسهولة أني مجبر في النهاية على الانتصار للتعددية”. وحديث العروي عن كتبه ها هنا يدل على أن الكتاب الذي بين أيدينا هو “كتاب الكتب” في مكتبة العروي، لأنه يناقش كتبه الأخرى ويساجلها.

العلم وخياله

كان العروي قد ارتاد عوالم “الخيال العلمي” في روايته الأخيرة “الآفة”، ليقول من خلال الرواية ما لم يستطع قوله من خلال العلم، والعهدة عليه. الثنائية التي يقوم عليها كتاب “نقد المفاهيم” هي ثنائية العلم وغير العلم، “وهذا هو موقفي المعرفي”، يشدد المؤلف، ويضع سطرا تحت العبارة في هذا الكتاب. وهذا العلم لا يمكن أن يتقدم إلا بالتجاوز، وبلا تجاوز لا يتقدم العلم، حسب المؤلف.

ليخلص العروي إلى أنه لا يوجد اليوم إلا شغلان جديدان: العلم والخيال العلمي. “إذا كنت مؤهلا، فعليك بامتهان البحث العلمي، وإذا لم تكن، وكانت لك قدرة على التعبير، فعليك اليوم بكتابة القصص العلمي”، وتلك وصية العروي ومفهومه لمستقبل العلم والتفكير والإبداع في كتاب “نقد المفاهيم”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.