نقد منظومة التعليم

الخميس 2016/12/01

في حقيقة الأمر إن التعليم هو عنوان هوية أيّ دولة والذي يرسخ لدى أجيالها حب الوطن بل ويعمق الشعور بالانتماء، فأيّ انتماء هذا في ظل أن التعليم الجيد هو التعليم الأجنبي سواء الفرنسي أو البريطاني أو الأميركي أو غيرها، حتى أنه أصبح في بلادنا جامعات صينية وروسية وأوكرانية، هذا لا يستنزف أموالنا فقط، بل يهدر فرص النمو والتنمية الحقيقية، إذ أن مثل هذه الجامعات لا توطّن العلم، بل تقدم العلوم في صورة سطحية.

التاريخ والامتحانات

امتحانات التاريخ بوضعها الراهن تولّد البلادة وفقدان الشعور بالاعتزاز الوطني، فيكره تلاميذ المدارس في الوطن العربي مادة التاريخ، ويعتبرونها مادة ثقيلة الدم والظل، يحفظون منها التواريخ والأحداث لكي يضعوها في نهاية العام في كراسة الإجابة، دون أن تدرك وزارة التعليم في دولة كمصر، أنها بمناهجها الشنيعة إنما تدمر جانبا مهما لبناء الشخصية الوطنية والولاء للوطن، هذا ما أراه مع أبنائي، لذا بات من الملحّ أن ننظر إلى الأمر نظرة عميقة ونفحصه ونحلله، لماذا يكره هؤلاء التاريخ؟

إن أول شيء يقابلنا هو طريقة وضع مناهج التاريخ، فهذه المناهج كانت تصلح إلى أواخر القرن العشرين إلى حد ما، لكن مع عصر الإنترنت والعالم الرقمي، لن تكون هذه المناهج سوى التخلف في حدّ ذاته لدى الأجيال الجديدة، فهم يحتقرون كتاب التاريخ، لأن واضعه يفكر بطريقة دفنت مع مبتكريها منذ سنوات طويلة، فالتاريخ السياسي ليس إلا جانبا من التاريخ، فالأطفال في عصر الإنترنت والناشئة في مرحلتي الإعدادية والثانوية يفكرون ويطرحون أسئلة:

- كيف نشأت الحضارة؟

- كيف تطورت المجتمعات وظهرت الدولة؟

- تكنولوجيا الأشياء والأدوات كيف ابتكرت وتطورت؟

وغيرها من الأسئلة التي يبحثون عن إجابات عليها، ثم إن الصورة والفيلم التسجيلي هما أداتان مكملتان لمادة التاريخ، فالسرد الذي عليه كتب التاريخ اليوم، هو سرد كتبه شخص عادة ما يفتقد روح اللغة العربية، فهو يسرد حقائق جافة إذا قرأتها ستكره من كتبها، بينما التاريخ قصة تروى بصورة شيقة وممتعة تجعل من يقرأه يحب التاريخ بل يعشقه.

إذا كنت تروي تاريخ مصر القديمة، فإن قصة اللغة المصرية القديمة بعلامتها تعدّ مدخلاً مشوقاً لتلاميذ المرحلة الابتدائية لكي يعفوا منه حضارة مصر القديمة، كما أن ذلك يرتبط بالرحلة المدرسية لأماكن الزمن التاريخي الذي يدرس، إذ أن هذا الترابط بين المكان والزمان يثبت الحدث في ذهنية المتلقي أكثر من أن نرغمه على الحفظ، وإذا جعلنا هذا مرتبطاً بقراءة المزيد في مكتبة المدرسة ليلخّص التلميذ كتابا في أبحاث قصيرة من ثلاث إلى خمس صفحات سنرى استيعابا من التلميذ غير مسبوق يرتبط بحب القراءة، وإذا اعتبرنا أن هذا هو الامتحان الشهري، سيولّد ذلك أجيالا تقرأ التاريخ، هذا يقتضي أن يقدم المدرس أفلاما وثائقية في الفصل لتلاميذه، ثم يناقشهم في موضوع الفيلم، فمثلا أنتجت مكتبة الإسكندرية فيلما مدته 26 دقيقة عن حياة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يحكي قصة حياته وكفاحه، يركز على حقبة محدده من تاريخ مصر والمنطقة العربية، قد يحمل التلاميذ آراءً سلبية أو إيجابية حول ما جاء في الفيلم، هذا ما سيكون محلا للنقاش مع الأستاذ، هذا ما يتواكب مع العقلية الناقدة للأجيال الجديدة، هذا ما يجعل من التاريخ مادة تعليمية متواكبة مع ثقافة الصورة التي هي اليوم أحد أهم مصادر المعرفة لدى الأجيال الجديدة.

كما أن طلب الأستاذ من تلاميذه البحث على شبكة الإنترنت عن معلومات تاريخية يجعلهم في سباق لكي يحصلوا على معلومات حول الزمن أو المكان، هذا ما دفع مكتبة الإسكندرية لإطلاق موقع ذاكرة مصر، كما ستطلق ذاكرة الوطن العربي، لكي توفر للأجيال الجديدة معلومات موثقة، وإلا فإن هذه الأجيال ستذهب للبحث عبر الإنترنت من الموبايل في مواقع غير عربية.

إن ربط مادة التاريخ بالمكان الذي يعيش فيه الطالب، فضلاً عن ترك مساحة لمدرّس التاريخ، ليدرس تاريخ المدينة أو الإقليم، وليزور مع طلابه معالم المكان، كل هذا يعزز الولاء لدى الطالب، بل وسيعطي المدرّس دور الفاعل في المنهج التاريخي، وليس فقط دور الملقن.

أما الامتحان فيجب أن يبنى على صح و خطأ، في ثلثه الأول وفي ثلثه الثاني حول موضوع تاريخي يطرح فيه التلميذ رؤيته ليس من خلال كتاب مدرسي، بل من خلال القراءات والرحلات والبحث، لذا فإن مهارة المدرس تأتي في تقييم التلميذ الذي يستوعب مناهج التاريخ، ويعطي مخرجات مختلفة عن أقرانه تعبّر عن قدرته على الاستيعاب.

هذا كله يقتضي حدوث تغيير جذري في إعداد مدرسي التاريخ، لأن الوضع الراهن في أقسام التاريخ بالجامعات العربية لا يعطي المخرجات المطلوبة لمدرس متطور مع عصره، فهناك علوم أساسية غائبة عن هذه الأقسام مثل فلسفة التاريخ وتاريخ التاريخ، والأنثروبولوجيا.

جماليات اللغة العربية

هل مستوى اللغة العربية، هو الذي ننشده لدى أبنائنا؟ وبلا شك الإجابة ستكون بـ»لا»، إن جماليات اللغة العربية هي المدخل الحقيقي، فالنص السلس الجميل نثرا أو شعراً، هو المدخل لكي يحب أطفالنا اللغة، لذا فإن الأغنية الرقيقة هي الوسيلة لكي يحب أطفالنا اللغة، ولكي يجيدوا صحيح اللغة العربية، ثم عبر هذه النصوص تتسلل قواعد اللغة من نحو وصرف، وإذا جئنا إلى لغتنا سنجد طه حسين بأسلوبه السهل الممتنع يطل علينا، إلى أن نصل إلى النصوص القديمة، فما بالك لو ألقى الطلاب بردة البوصيري أشهر بردة مدح فيها خير البرية في يوم مولده، دون ربط هذا بإعادة كراسة الخط العربي لمدارسنا فلن يدرك التلميذ جماليات الحرف العربي، بل وإن قدماءنا أدركوا كل هذا حين وضعوا النحو في ألفية بن مالك وغيرها، بل صاغوا العلوم شعراً، لكي يسهل استيعابه وإدراكه، وحملت بعض الأبيات تساؤلات وأخرى ألغازا تحل في الأبيات التالية، وأكبر خطأ هو أن نبدأ بالشعر الجاهلي فهو آخر مرحلة لتعليم العربية، إذ نبدأ بالشعر المعاصر، هذا يستدعي من الذاكرة ما نظمه أحمد شوقي أمير الشعراء للأطفال.

إدارة المدارس

إن إصلاح منظومة المدارس لا يبدأ فقط من المدارس أو المنهج، بل إن أفضل طريقة، هو أن نبدأ من مدراء المدارس، فالمدير لن يتابع المدرّس وهو يدرّس فحسب، بل يتأكد من عدم تسرب التلاميذ من المنظومة التعليمية، لذا فإن إهمال مدراء المدارس في منظومات التعليم العربية، أدى إلى انفلات العملية التعليمية، فالمدير حين يدرب جيداً، فإن إيقاع العمل في المدرسة ينتظم، وإذا كان لديك عشرة آلاف مدرسة، فإنه من الأسهل والأسرع لضبط التعليم رفع كفاءة المدراء أو اختيار مدراء جدد أكفاء طبقاً لمعايير الإدارة الجديدة، يصاحب هذا تكوين مجلس للآباء يشارك في مراقبة العملية التعليمية ويكون له قرار في إدارة هذه المنظومة، بل وفي مراقبة المدرسين، شاهد مثلا عزوف التلاميذ في مرحلة الثانوية العامة عن الذهاب للمدارس بعلم وزارة التعليم المصرية، وذهابهم إلى مراكز الدروس الخصوصية، التي يبذل فيها المدرسون طاقتهم، بل إن مراكز الدروس الخصوصية تتابع التلاميذ وتخطر أولياء الأمور أولا بأول بأيّ تقصير، بل نجد في القاهرة والإسكندرية تنافساً بين التلاميذ للحضور لدى المدرّس الذي يستطيع أن يجعل الطالب يستوعب المادة، هذا كله مؤشر على أن الشعب المصري يحب أن يتعلم أبناؤه ويتفوقوا، وتبذل الأسر الأموال الباهظة في سبيل هذا الهدف.

إن ذلك يؤشر إلى وجود خلل في منظومة التعليم أبطالها: المنهج/المدرّس/الإدارة/الأسرة/المجتمع، فلو كان المنهج طبقا للمعايير التعليمية، والمدرّس على الكفاءة المطلوبة، والإدارة التي تؤدي دورها، والأسرة تتابع أبناءها، والمجتمع يراقب ويوجه، ستكون مخرجات العملية التعليمية كما يريدها المجتمع، هنا يجب أن نشير إلى معايير تشييد المدارس التي تفتقد إلى فناء ممارسة الرياضة وغرفة الموسيقى ومعمل العلوم المتكامل، وعدد التلاميذ في الفصل المناسب والذين طبقا للمعايير الدولية يجب ألا يتجاوزوا 18 تلميذا في الفصل، في حين أن بعض المدارس في مصر يبلغ عدد التلاميذ فيها في الفصل الواحد مئة تلميذ.

إن هذا كله يتطلب إعادة بناء منظومة التعليم كلها، وإحداث بها، قد تنتهي بها مستقبلا لإلغاء الكتاب المدرسي، بل وإحداث حيوية في العملية التعليمية، التي أصبحت في ظل ثورة المعرفة مع عالم تكنولوجيا المعلومات عملية مستمرة، إذ أن الشهادة ليست هي نهاية المطاف، إن كلا منا يجب أن يظل يتعلم لكي يواكب الجديد، فهل أنت مازالت تكتسب الجديد كل يوم؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.